إذا نحينا جانباً أبطال النضال الأبدي، سواء التحرضي الحنجوري، أو الاستشهادي المفارق لدنيانا، طلباً لحور العين في جنات الخلد، هؤلاء الذين يرفضون أساساً أي مقاربة للسلام في المنطقة، لأنها تهددهم بأن تميد بهم الأرض، وتتركهم حفاة عراة في الهواء الطلق، أو في الغبار الخانق لسراديبهم وأنفاقهم المعنوية والمادية. . نحتاج نحن الجادين في محاولة الخروج بشعوبنا من ورطتها التاريخية، أن نناقش معاً ما يبدو معضلة أو إشكالية جديدة، تضاف لقائمة الإشكاليات التي نعجز عن حلها، ربما لافتقادنا للذكاء وللشجاعة اللازمة لنقوم بما علينا القيام به، وربما لأنها بالفعل إشكاليات غير قابلة للحل، ولا مهرب لنا منها، طالما بقيت الأرض تدور حول نفسها وحول الشمس.
حكاية quot;الدولة اليهوديةquot; التي لم تُثَرْ إلا أخيراً، تحتاج منا لمناقشة هادئة، وربما تحتاج لاستضياح واستفسار ممن قدموها، لنعرف لماذا يثيرونها الآن، وماذا يقصدون بها على وجه التحديد. . عندها يمكن أن نقرر بعقلانية (بافتراض أن العقلانية أمر وارد في حياتنا، وليست سبَّة، تفضي إلى الاتهام بالكفر، أو بالخروج على ثوابت الأمة)، ماذا يمكننا أن نقبل من هذا المفهوم، وماذا يتحتم علينا أن نرفض، ولماذا؟. . هذا بالطبع ما لم تكن كلمة quot;يهودquot; أو quot;يهوديةquot; في حد ذاتها، كفيلة باستثارة التهابات نفسية وعقلية مزمنة لدينا!!
لماذا لم تظهر سوى الآن قضية quot;دولة لليهودquot;، وجعل قبول العرب والفلسطينيين بها، شرطاً للمضي في طريق السلام؟
من الواضح أنه لن يتيسر لنا ترجيح إجابة على هذا التساؤل، ما لم نتبين طبيعة المقصود quot;بدولة يهوديةquot;، وما يترتب على الاعتراف بتلك الدولة، من إجراءات وأوضاع عملية واقعية. . وإلى أن يتيسر الحصول على شرح للمقصود بتلك المطالبة أو الدعوة، يمكننا أن نتدارس ثلاثة احتمالات واردة:
الاحتمال الأول والأقرب إلى ذهننا، نحن الذين نعيش تحت التهديد بتحويل دولنا المدنية العلمانية الأقرب للحداثة، إلى quot;دول دينيةquot;، محكومة quot;بالشريعة الإسلاميةquot;، يكون فيها أصحاب الديانات الأخرى وفق الخطاب المتأسلم السائد، محط تصنيفات متباينة، تتدرج في استهدافهم وتهميشهم، وفق درجة تشدد أو اعتدال مزاج القائمين على التفسير، والممسكين بزمام السلطة: كفار- دخلاء- أهل ذمة. . . إلخ. . على هذا النحو يمكن أن يكون المقصود quot;بدولة يهوديةquot;، هو تحويل إسرائيل من دولة علمانية ديموقراطية حديثة، إلى دولة دينية محكومة quot;بالشريعة اليهوديةquot;، ويتولى الحكم فيها الحاخامات، سواء بطريقة مباشرة، أو بطريقة مماثلة للجمهورية الإسلامية في إيران، حيث يلعب حاخام دور المرشد الأعلى للجمهورية اليهودية، يعاونه مجلس quot;المحافظة على مصلحة النظامquot;، ليحكما ويتحكما سوياً في كل شاردة وواردة من حياة الفرد والشعب اليهودي، وفي لعبة أو مهزلة ديموقراطية صناديق الانتخاب، ونتائجها الكوميدية المأساوية في آن.
في هذه الحالة لابد وأن نتساءل أولاً، عن مصير الملايين من اليهود العلمانيين، في صفوف الشعب والمثقفين ورجال الأحزاب والعسكريين والقادة الإسرائيليين، أخذاً في الاعتبار أن هؤلاء يعدون الآن أغلبية كاسحة في المجتمع الإسرائيلي، هؤلاء يلعب الدين في حياتهم، لا نقول دوراً هامشياً، ما لم يكونوا أساساً ملحدين، لكن على أحسن الفروض يأخذ الدين في حياتهم دوره الطبيعي، كما هو الحال في أوروبا وأمريكا، ولا يتعداه إلى الهيمنة على كل مناحي الحياة. . ترى هل سيتم تكفير هؤلاء مباشرة، أم سيتم استتابتهم أولاً؟ وإن أصروا على تنكرهم وجحودهم وضلالهم عن quot;شريعتهم الإلهيةquot;، التي ينبغي أن تحصي عليهم حتى أنفاسهم، هل سيعملون في رقابهم السيف جزاء كفرهم باليهودية، أم سيتم بناء ما يكفي من السجون والمعتقلات لاستيعابهم جميعاً؟ أم سيكتفون بسحب الجنسية اليهودية منهم، وطردهم خارج حدود إسرائيل، ليعيشوا ربما في مخيمات في الأردن أو لبنان، وربما أيضاً في سيناء؟!
نأتي ثانياً للتساؤل عن مصير عرب إسرائيل، من مسلمين ومسيحيين ودروز. . هل سيتم طردهم من بيوتهم، وسحب هوياتهم وجنسيتهم الإسرائيلية، أم سيسمح لهم بالبقاء، كما لابد وأن يسمح مشروع الخلافة الإسلامية ببقاء الكفار حيث هم؟
في حالة طرد هؤلاء، ستزداد مشكلة اللاجئين تفاقماً، في حين أن العالم كله يسعى لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين بحجمها الحالي، ومن غير المتصور أن نذهب في طريق ندعوه بطريق السلام، ليؤدي بنا إلى حالة أسوأ مما نهرب منه. . أما في حالة السماح لهم بالبقاء في quot;أرض اليهوديةquot;، فلا شك أنهم سيفقدون ما يتمتعون به الآن من حرية وديموقراطية، تحسدهم عليها ليس عموم الجماهير العربية، لكن أيضاً أفراد الأوليجاركيات والعائلات العربية الحاكمة ذاتها، حيث لا يأمن أحد فيها أن تظل رأسه فوق رقبته، لو أفلتت منه كلمة في هذا الاتجاه أو ذاك!!
نعم لن يكون عرب إسرائيل باختلاف أديانهم تحت ضغوط تهدف لتحويلهم عن دينهم، نظراً لأن اليهودية ديانة مغلقة وغير تبشيرية، وتكتفي بتجاهل الآخر، دون أن تتضمن شحنات معادية له، إلا أن حالة حقوق الإنسان في هذه الحالة لابد وأن تتدهور نسبياً بصورة كبيرة، وهذا ما نعتقد أن العالم الحر ومنظمات حقوق الإنسان العالمية لا يمكن أن تسمح به، وهكذا أيضاً يكون السلام المنتظر، قد أدى إلى حالة أسوأ مما نعاني ويعاني معنا العالم منه حالياً!!
لو صح أن هذا هو المطلوب من quot;دولة يهوديةquot;، فإننا نستطيع باطمئنان أن نرى أن هذا التوجه لم ينبت من داخل المجتمعات اليهودية في فلسطين، ولم يأت به المهاجرون من بلدانهم التي هاجروا منها، وإنما هو من جراء التأثر بثقافة المنطقة، ورد فعل على توجهات وصيحات وتهديدات تيارات الإسلام السياسي، لينطبق علينا المثل العربي القائل: جنت على نفسها براقش!!
الاحتمال الثاني لمفهوم quot;دولة يهوديةquot; الذي يطالب به قادة إسرائيل، هو أنه يعني أن تكون إسرائيل وطناً قومياً لليهود، في مقابل دولة مجاورة، تكون بمثابة دولة قومية للفلسطينيين العرب، ويكون المقصود به ليس تغيير التركيبة السياسية والثقافية الحالية لإسرائيل العلمانية، وإنما يعني بالأساس عدم تغيير توازن التركيبة السكانية الحالية لإسرائيل، بإغراقها بعودة ملايين من فلسطينيي الشتات، لا يأتون جميعهم للعيش في سلام، كما ينص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194 لسنة 1948، وإنما قد يأتي بعضهم حاملين المتفجرات في جيوبهم، والكراهية في قلوبهم، ويكون هذا البعض مهما كان ضئيل العدد بالنسبة لجموع العائدين المسالمين، كافياً لخلق حالة اضطراب أسوأ مما تعاني منه المنطقة الآن، أي قد يعني هذا زرع quot;غزة ستانquot; داخل قلب إسرائيل!!
الاحتمال الثالث هو حالة وسط بين النقيضين السابقين، وفيه تبقى إسرائيل علمانية كما هي، لكن يتم تنفيذ سياسة الترانسفير Transfer ، التي يتبناها المتطرف ليبرمان، ويتم بموجبها إخلاء إسرائيل من غير اليهود، بحيث تكون الهوية الإسرائيلية، تعني بالضرورة هوية دينية يهودية، وهي بلاشك حالة عنصرية بالغة التعصب والقبح، من الصعب أن تجد لها من بين الإسرائيليين أغلبية تتبناها وترجحها، كما من العسير تحقيقها عملياً، ومع ذلك تبقى احتمالاً قائماً، على جميع الأحرار في العالم أن يتحسبوا له، وليس فقط المفاوض الفلسطيني وسائر دول وشعوب المنطقة.
الآن وقد استعرضنا الاحتمالات الثلاثة الظاهرة لاصطلاح quot;دولة يهوديةquot;، ورغم أن أولها يبدو مستحيلاً، نظرياً وعملياً، وثالثها عسير القبول به من الإسرائيليين ذاتهم، ناهيك عن العالم ورعاة السلام، إلا أننا يستحسن ألا نتطوع بترجيح إجابة، ونحول التساؤل برمته، إلى من أطلقوا هذه الدعوة أو المطالبة، ليوضحوا لنا بالتحديد واليقين ماذا يقصدون.
في حالة كون المطلوب هو quot;دولة دينية يهوديةquot;، أو quot;دولة يهوديةquot; خالية تماماً من غير اليهود، فإن لنا أن نحكم آلياً على تلك الدولة بالعنصرية، ذلك التوجه الذي ينقرض من العالم كله حالياً، رغم ما يبدو في الظاهر من انتعاشه أو حتى ازدهاره في منطقتنا، بفضل مدرسة الإخوان المسلمين، وما تفرع عنها وتخرج منها، من جماعات سلفية وجهادية إرهابية، فنحن نرى أن ما يحدث هو quot;صحوة الموتquot; للفاشية والعنصرية، وليس بأي حال quot;غفوة الحياةquot;. . لكن لو كان كل المقصود هو إقامة وطن قومي لليهود، لا ينتقص بل يحسن ويطور أوضاع من نلقبهم بعرب 48، ليتساووا تماماً، في الولاء لدولة إسرائيل، وفي الحقوق لدى الدولة والمجتمع، مع كل من يعيش داخل حدود هذه الدولة، بغض النظر عن دينه، في مجتمع يقوم على أسس علمانية، تساوي بين جميع البشر في الحقوق والواجبات، المستمدة من قاعدة المواطنة، ومن حقوق الإنسان الطبيعية، فهل يصح في هذه الحالة أن نصنف هذه الدولة quot;كدولة عنصريةquot;؟

سنحاول تلمس إجابة لهذا السؤال في في مقال تال.

[email protected]