قالت العرب قديماً quot;من ألفْ فقد قدم عقله في طبق.quot; وقد كان ولا زال، فمن يؤلف ويكتب سيكشف نفسه ويقوم بتعرية مكنونه أمام الآخرين. وقد ينفصل المؤلف بعد ذلك عن كتابته ويموت كما قال البعض، وربما يبقى حاضراً باقياً بين مساحات أحرفه. لكن الأكيد أن أطباق الكتابة نفسها ستبقى ماثلة برنينها ورائحتها، وستظل تنثر طعمها ورفادتها بين حَامدٍ ومستكرِه. وأكثر ما يجعل المؤلف حاضراً موجوداً هو تشخيصاته وأفكاره التي تتفاعل بحيوية مع مجاله الذي يعيش فيه. وهو الشيء الذي يجعله حاضر فعلاً في الزمان والمكان. وللمؤلفين والكتاب الكبار أهمية خاصة حين يقومون بتقديم هذا النوع من الفكر الذي يتعاطى مع الواقع مباشرة وحيوية. فتتوفر بذلك ماسحة واسعة للإفادة والتنوير والتأثير.
وفي هذا الشهر نصادف الذكرى السابعة لرحيل الفيلسوف والمفكر المصري عبدالرحمن بدوي، وهو أحد الكتّاب المعدودين من أصحاب الجهد الاستثنائي في عالمنا العربي، حيث قدّم بدوي ما يزيد عن مائة وخمسين كتاباً. وقد عاش بدوي طالباً ومعلماً للفلسفة في بلدان مختلفة، وكان متقناً لعدة لغات أنتج من خلالها العديد من المحاضرات والأبحاث والكتب في مجالات متنوعة. وهناك اتفاق تقريباً بين الباحثين على أن مرحلة الإبداع في حياة بدوي كانت في أول فترات حياته، حين قدّم (نيتشه) ورسالتيه للماجستير والدكتوراة حول (مشكلة الموت) و (الزمان الوجودي). أمّا بعد ذلك فقد اتجه بدوي في بقية حياته إلى التحقيق والترجمة وخلت جعبته من المؤلفات الإبداعية. وسحر البدايات مطب قد يقع فيه الكثير من المبدعين، فانطلاقاتهم عادة تمثل نوعاً من الانفجار الذي يُصهر فيه لاحقهم، ويكون التالي مجرد بناء عمودي على أساس سابق. فمثلاً، أحد الكتب التي تحدثت عن سيرة انشتاين ذكرت أن النصف الثاني من حياته لم يتضمن أي شيء يستحق الذكر، حتى أن الفيزيائيين كانوا يرددون أن الله قد تخلى عن انشتاين.
لقد كان بدوي يحقق عاماً ويترجم عاماً، وهذا النوع من الكتب كما نعرف لا يتيح مساحة لصاحبه ليقدم من خلالها الإضافات. إضافة لأن بدوي لم يُفرد مؤلفاً -من بين مؤلفاته الكثيرة- يناقش من خلاله مباشرة آرائه وانطباعاته حول وضع الأمّة الفكري والإنساني، كما فعل غيره من المفكرين، مع أن الشوارد من هنا وهناك تخبر أنه كان مهجوساً بهذا الهم. وحتى مؤلفات بدوي المعدودة التي سمّاها (المبتكرات)، يذكر عنها حسن حنفي في (الفيلسوف الشامل) أنها كانت أقرب للأدب منها للفكر والفلسفة، حيث كان مدارها الشعر والقصة واليوميات. وسيرة بدوي أيضاً المزدحمة بالأحداث الشخصية وغير الشخصية لم تكن المناسبة لاستخلاص تنظيرات فكرية واقعية وحيوية. وغير ذلك بدوي كان صاحب مزاج مغلق، فلم يكن من السهل مقابلته وأخذ آرائه في القضايا الملّحة، ويتبين ذلك في كتاب تلميذه سعيد اللاوندي الذي كتبه عنه. ولذا أحببت مقدمات بدوي التي كتبها لبعض كتبه، ففي أحيان متعددة كانت تمثل الكوّة التي يطل منها فكره، والمساحة التي استطاع من خلالها سكب آرائه وانطباعاته التي تأتي متراصفة مع المجال الحيوي لبيئته. وهذه بعض الاقتباسات المطوّلة من بعض مقدماته، وهي -حقيقة- لا تعتبر مطوّلة إذا عرفنا أنها تأتي كخلاصات اللب، والرحيق، حين يضمّخها بدوي بخلاصة رأيه، ويجعلها تأتي عاصفة ومضغوطة بالكثير الذي يود قوله.
أول كتاب عرفت بدوي من خلاله كان كتاب (الحكمة الخالدة) وهو تحقيق لكتاب ابن مسكويه (جاويدان خرد) والذي جمع فيه هذا الأخير باقات متنوعة من حكم الشعوب. أذكر أنّي تناولت هذا الكتاب من على كشك يبيع الكتب على أحد الأرصفة، وأخذت اقرأ في مقدمته التي شدّتني فأخذته على الفور. وفي أول هذه المقدمة نجد بدوي يشير كيف أن الشرق مقر حكمة، وموطن احتفال وتبجيل لها. ولكن لا يلبث أن يرتد على هذا الوضع متسربلاً سيف نقده الحاد، فنجده يكمل quot;وهذا النوع من الأدب، أدب الأمثال والحكم والمواعظ، فيه من النفع بقدر ما فيه من الضرر. فهو إن أفاد في الحث على الفضيلة وفي استلهام الموعظة واتخاذ معايير للسلوك، فانه يضر من حيث هو قد يشدّ النفس إلى صيغ مصنوعة، وأفكار سابقة، ومعان متعارفة... مما يدعو إلى الانصراف عن التجديد والتوثب ويعقل سورة المتوفز إلى الآفاق المجهولة والمرامي الجديد. فالنفوس المبتكرة لا ترتاد إلاّ المجهول، ولا تسير على مواطئ قدم الأوائل، بل تفتح لنشاطها طرقاً لم تطأها من قبل أٌقدام القدماء: وهذا سر التقدم الحي للإنسانية... ولهذا لا نحسبنا نعدو الحق كثيراً، إذا قرّرنا أن انتشار أدب الأمثال والحكم والمواعظ في الشرق كان من أسباب ضعفه وانحلاله، لأن الاكتفاء اللفظي كثيراً ما يقوم مقام الطاقة الفاعلة، وفي هذا التعويض يقع المرء فريسة وهم مخيف: وهم إمكان الاستغناء بالألفاظ عن الأفعال، وهو الوهم الذي يقتل كل حيوية، ويكون أذاناً بانحلال صاحبه. وفي حياة الشرق في العصر الحديث أبلغ دليل على ما نقول. ومن الأعراض الملازمة لهذا المركب النفسي الفاسد: النفاق، والتوكل، والخداع العاجز، والمشاحنة السلبية في الأحوال التي تقتضي النضال الصريح الشريف. ومن هنا كانت طائفة الوعاظ شر طائفة أخرجت للناس، لأن إحالة الوعظ إلى مهنة، تستتبع وراءها ذلك الاختلال النفسي الذي أشرنا إليه. إنما المهم في قراءة الحكم أو لدى سماعها أن يتمثلها القارئ أو السامع في نفسه، وأن يحياها في أفعاله، وأن ينفعل بها كل كيانه... فليست الحكم إذن صيغاً نهائية، وليست نواميس ثابتة للسلوك، بل هي بالأحرى بواعث الهام واستلهام، ودواعي توجيه والتزام، ولن تأتي أُكلها إلا إذا أضحت صوراً حية متطورة متجددة في نفس متمثلها.quot;
وتأليف بدوي في أول حياته يختلف عنه في آخرها. ففي آخر حياته اهتم بالتأليف الإسلامي، وكتب ردوده على المستشرقين من خلال كتبه (الدفاع عن القرآن ضد منتقديه) و (دفاع عن النبي محمد ndash; صلى الله عليه وسلم) و (الإسلام كما يراه فولتير وهيردور وجيبون وهيجل). وقد فسر بعض الباحثين هذا الأمر كاستقرار واطمئنان روحي لبدوي في آخر حياته. بينما في بداياته نجد بدوي محتضناً وناقلاً لسياط التوتر الروحي، حين رأى أن إدراك هذا التوتر وعدم تجاهله يستطيع أن يولد تلك الجدلية الحافزة على الإثارة والتغيير. ونستطيع أن نتحسس حماسته واندفاعه عبر مقدمة كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام): quot; آن لنا أن ننفذ إلى صميم الحياة الروحية في الإسلام ممثلة في أولئك الذين أشاعوا سورة التوتر الحي مُعرضين عن الظاهر الساذج المستقيم إلى الباطن الشائك الزاخر بالمتناقضات. وهم في هذا كله لم يكونوا معبّرين عن أنفسهم الخصبة وحدها بقدر ما كانوا يتجسدون نوازع عامة يسري تيارها العنيف في الأمّة المؤمنة كلها، وفي الطبقات المتوثبة منها على وجه التخصيص. ومن هنا فإن الحديث عن هذه الشخصيات نفسها لعرضاً للنزعات المشتركة في طوائف كاملة شاعرة بنفسها في تلك المِلِّة. والدين الحيّ الحق هو ذلك المتحقق في الشعور المتجدد المتطور للأمّة المؤمنة به. وأيَةُ خصبه في تلك الصورة المتعدّدة المتغوِّرة التي يتخذها وفقاً للأزمان، وتبعا للطابع العنصري المركب في هذه الأمّة. ولهذا فكل دين في أصله رمز، رمز قابل لما لانهاية له من أنواع التفسير التي قد يبلغ الفارق بين بعضها وبعض حد التناقض. والدين الذي يقدم نفسه على أنه ناموس واضح كامل الأجزاء صريح في كل تفصيلاته قد فَضَّ للناس كل ما فيه من مضمون على مر الأجيال والأزمان، هو دين مقضي عليه بالموت العاجل أو التحجر السريع، وكلاهما في نهاية الأمر سواء. وكلما تعددت التفسيرات لهذا الرمز، وبلغ التعدد مرتبة عاليه من الافتراق الرفيع، كان هذا من أوضح الشواهد على أن هذا الدين حي وخليق بالبقاء.quot;
وفي مقطع من مقدمة كتابه (ربيع الفكر اليوناني) يقول بدوي quot;تنازعوا ما شاءت لكم نفوسكم التنازع، واختلفوا ما شاءت لكم أهواؤكم الاختلاف، ولكن هناك فوق كل اختلاف وكل تنازع حقيقة أولى، هي الحقيقة الإنسانية، وقيماً عُليا هي القيم الإنسانية الخالصة. فعليكم بها، تكتشفوا أسراراً فوق كل الأسرار الكونية، أسراراً تسود حياة المدينة ويعلو بها المضمون الروحي للفرد. إنهم يقولون: في البدء كان الماء أو اللامحدود أو الهواء أو النار أو الجوهر الفَرد، أمّا نحن، معشر السوفسطائيين، فنقول لكم: في البدء كان الإنسان. هنا أزمة ndash; أزمة الإنسان وقد اكتشف لأول مرة نفسه. والأزمة رمزٌ على حياة، لأن الأزمة قلق، والقلق للوجود الحي ينبوع ولذا كان في أزمة الإنسان هذه، حياته وخلاصه.quot; وفي مقدمة كتابه (نيتشه) يتحدث بدوي عن أهمية تقديم نماذج من الفكر الأوربي لشباب الجيل الجديد، ثم يكمل quot;ولسنا نريد منهم أن يؤمنوا بمذاهب هذا الفكر، ويسيروا في الاتجاه الذي فيه سار، دون افتراق عنه أو محاولة لإنكاره ومخالفته. فليس يعنينا من أمر هذا الإيمان شيء. وإنما الذين يهمنا حقاً، والذي من أجله أخذنا أنفسنا بمهمة العرض والتحليل لهذا الفكر ndash; هو أن نحملهم على أن يفكروا فيما فكر فيه العقل الأوربي، ويتأملوا في المشاكل التي أثار، والحلول التي قدّم، وأن ينظروا نظراً عميقاً، فيه حرص وفيه جد، فيما أتى به من نظرات في الحياة وفي الوجود... إنما نحن نضع في متناول أيديهم مادة ثمينة للتفكير الحي الخصب، وتحت أنظارهم أمثلة خليق بهم أن يتأثروها ويستلهموها، وصوراً حيّة قوية لآخر ما وصل إليه الفكر الإنساني في تطوره وسموه، كي يبدأوا نموهم منها بعد أن يهضموها ويتمثلوها، ويعلوا عليها بعد أن يكونوا قد بلغوها.quot;
وواحدة من المقدمات الجميلة، كانت مقدمة كتابه عن (رابعة العدوية). فقبل أن يصف quot;شهيدة العشق الإلهيquot;، أخذ بدوي يصف المدينة التي تسكنها، مدينة البصرة، أو (فينيسيا العربية) على حد تعبيره. أخذ يحكي بدوي عن التضارب بين أحوال أناسها، بين طالب دنيا وطالب آخرة، ويبدو الأمر كأنه يصف أحوالنا اليوم، بل يكاد يكون الحديث وصفاً لحال الفرد الواحد، الذي تتماوج نفسه بين هذين الحبلين. يصف المدينة فيقول: quot;فيها نقلة بين البادية والحضر، بين الخشونة الزاهدة الصلبة القاسية الإيمان وبين الترف الناعم الهائم في أوداء القداسة الشهوانية. ولذا جاءت مزيجاً من هذين الطرفين المتباعدين في تخطيطها ومساق الحياة فيها، وكانت روحها مسرحاً لمأساة هذا الازدواج المتوتر العنيف في طبيعتها. وبهذا الاستقطاب طبعت نفوس ساكنيها: ففي كل روح تسكن طبيعتان متعارضتان: إحداهما تتلمّس غذاءها من قوت الحواس، والأخرى تستشرف إلى قوت القلوب. ولن تستطيع إحداهما القضاء على الأخرى بل سيظل التعارض قوياً عنيفاً، وفي عنفه يقوم ذلك التوتر الحي الذي يجعل من حيواتهم مصدراً للتشويق لا يقل قيمة عن مذاهبهم. ولذا يجب على الباحث أن يتلمس عندهم كلتا الناحيتين المتعارضتين، وأن يفلسف حيواتهم على أنها لذواتٍ وجودية باطنها زاخر بممكنات التفتح على ضوء المجهول... فإلى جانب الحياة اللاهية التي عمّرت بها القنوات والمتاجر مما كان خير إطار لقصص (ألف ليلة وليلة)، هناك الرُّبُط التي تشيع فيها الزهادة والقداسة، وإلى جانب الأسواق الصاخبة بمشاغل المادة وشئون الدنيا، كانت المساجد والمكتبات العامة بمثابة معابد للفكر الرفيع... هاهنا حلقة النحويين واللغويين يحتدم فيها الجدل الصارخ حول شاردة من شوارد اللغة... وهناك مجلس الحسن البصري تسوده رهبة ذلك الزاهد الجليل وهو يلقي مواعظه الضاربة في فيافي الزهد فيستدر الدمع من مآقي الحاضرين، أو يستحيل إلى مجلس ذكر تتردد فيه الأذكار الصافية والأدعية الناضرة، أو تثار فيه مسائل من التوحيد سرعان ما تُشيع الحرارة في هذا الجو الرقيق. فإذا ما جنّ الليل، وسكن الأحياء، وجُست خلال المدينة -شأن الغرباء ذوي النفوس الطلعة المغامرة- ترامَت إلى مسامعك أنغام اللهو العنيف في نفس الوقت الذي يقرع أذنيك فيه تضرعات المتهجدين القانتين. هنا اللاّهون يمخرون بزوارقهم الزاهية مياه تلك القنوات المتشابكة يعزفون ويعربدون، وهناك في زاوية أخرى ترى العابدين سادرين بين المقابر يستلهمون الموت والقبر أفكاراً وموضوعات للتأمل الحزين والعظمة البالغة والعزوف عن الدنيا.quot;
وفي كتاب (الحور والنور) يكتب بدوي عن رحلته مع الذات، ورحلته بين المدن. وبين ثنايا هذا الكتاب نجده يقول quot;فلا قيمة لأي منظر إلا إذا كان في الروح استعدادٌ لتلقيه، فما أكثر الذين يرحلون ويشاهدون، ولكن ما أقل الذين يفهمون ويتأثرون.quot; وصدق بدوي، فما أفقر حالنا، حين قل من يستفيد، أو يفيد. حين لا يكون هناك اغتنام لطبق أو تقديم لآخر، فتذهب حياة واحدنا كنغم ساجٍ ينحدر إلى صمت.

[email protected]