من المعلوم أن أفكار وأقوال المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي كانت وقوداً للثورة الإسلامية في إيران. والسؤال المطروح الآن هل هي أيضاً وقود لهذه الثورة الخضراء القائمة الآن (والمضادة) في بعض ملامحها للثورة الإيرانية السابقة ؟
وتذهب الإجابة لأن تكون بنعم، فكلمات شريعتي التي هاجمت الاستبداد السياسي، هي نفسها التي تهاجم الاستبداد الذي يتأتّى من قبل رجال الدين والملالي. يقول شريعتي quot;السبب الأصلي للمصائب ليس الاستبداد ولا الاستعمار ولا الاستغلال، هذه كلها نتائج. هناك سببان لكل هذا: أولهما الاستحمار... وثانيهما: أيضاً الاستحمارquot; (العودة إلى الذات، ص 402).
منذ فترة مبكرة في حياته، كان الدكتور علي محمد شريعتي طالباً نشطاً ومهتماً بقضايا الدين والأمراض الاجتماعية الشائعة في البلاد الإسلامية التي كانت عرضة للاستعمار والاستغلال. وقد ذهب في الستينات إلى فرنسا كدارس لعلم الاجتماع، ثم عاد إلى بلاده، منتجاً ومقدماً للعديد من الكتب والمحاضرات والأنشطة الفكرية التنويرية، والتي جعلته يتعرض للتضييق والسجن في عهد الشاه، حتى استطاع الخروج إلى لندن، التي ما أن وصلها حتى تعرض للقتل عام 1977 في ظروف غامضة، قبل نجاح الثورة الإسلامية في إيران بسنتين.
لقد كان الفكر لدى شريعتي فكراً إنسانياً ذا نفَسٍ تصالحي، مع الذات والمذهبية والتراث والحداثة. وكل هذا التصالح لا يتم لديه إلا عبر الإدراك الواعي للذات، والذي بدونه يكون كل شيء عرضة للاستلاب والنفي. وهذا النفَس الإنساني والمستعلي لدى شريعتي جعله عرضة للهجوم المتنوع، القائم على التصنيف المتعدد له ولفكره، عبر تهم ليس بأولها أنه (يساري ماركسي) وليس بآخرها أنه (وهابي)... ومثال شريعتي ودولة الفقيه، مثال مناسب يستطيع أن يخبرنا كيف يمكن لفكر (فرد) أن يكون واسعاً منبسطاً كسماء، وكيف يمكن لفكر (دولة) أن يكون ضيقاً محصوراً في علبة مؤدلجة، تخنق بها البلاد والعباد.
وفي علم الاجتماع والسياسة، الركون إلى زاوية جالب للابتلاء بها، ومن يتمركز في نقطة معينة فسيمتحن فيها لا محالة. وفكرة الثورة إن بقيت شاخصة في الأعلى بزخمها وبهرجتها، فهذا ما سيجعلها طلاّبة لأمثالها، فهكذا كانت ثورة فرنسا فاتحة طريق لثورات متتابعة استمرت بعدها لما يقارب المائة عام، وكانت ثورة 14 تموز في العراق الثورة (الأم) لكل تلك الثورات الأليمة والدموية التي أعقبتها. لقد ارتأت الدولة في إيران أن تحمل ثورتها معها، في حين كان الامتحان الصعب والقفزة الحقيقية لها تكمن في تحويل الثورة إلى مُعطى أكثر مدنية. فالسياسة مدنية ولم يكن لها أن تكون ثورية أبداً. والثورة مرحلة غير مستمرة، ومزاوجة الثورة بالدولة (المستمرة) إنهاك لها، وتأجيج للصراعية التي تكون (مُتوهِمة) في كثير من معاركها. إن لدى الشعوب قدرة استثنائية على التحمل والصبر حين تكون تحت ضغط حرب ومواجهة، ولكن ليس من الممكن أن تتحمل نفس الضغوط في حال عدم كونها تحت ضغط حرب فعلية. وهذا ما جعل الشعب الإيراني يزفر بحرارة حين أتته الفرصة. ومنطق الرئيس أحمدي نجاد هو المنطق الأقرب لمنطق الثورة الإسلامية نفسه، والأقرب لفكر (المرشد الأعلى) الذي صرّح بذلك بنفسه. ولذا يكون قريباً أن نقول أن هذه المظاهرات والاحتجاجات التي يطلق عليها الثورة الخضراء إنما هي في كثير من ملامحها موجهة ضد الثورة الإسلامية نفسها. وشاهدنا كيف أن الثورة نفسها قد أصبحت طرفاً في الصراع، ممثلة في مرشدها الأعلى الذي انسحبت أقدامه إلى الميدان، رغم محاولات التمنع منه في البداية. تكمن المشكلة في أن الشعب قد ولد له جيل جديد، بينما الثورة لم يأتِ لها جيل تالي، وحتى التيارات الإصلاحية في داخلها إنما هي تحت عباءة الجيل الأول، وتبع له...
وواحدة من أقوى أفكار علي شريعتي التجديدية والإصلاحية كانت هجومه ووقفته الجريئة ضد منطق الدولة الصفوية القائم على السب والشتم، وعلى مجالس البكائيات، والتي لا تفيد أحداً سوى أنها تمارس الهاء الناس عن (وعي الذات) وعن الدراية الفاعلة في الحياة. وهذا المنطق للدولة الصفوية قد ظل رائجاً ومستمراً في إيران. ويرى حسن العلوي أنه بعد نجاح الثورة في إيران قد تم التراجع عن نقد الدولة الصفوية، حيث يُرى أن ثورة الإمام الخميني تتماهي وتتماثل مع حركة إسماعيل الصفوي quot;كونهما تأسيساً لدولة التشيع برؤيتينquot;، كما جاء في كتابه (عمر والتشيع). وهكذا حين قامت دولة الإمامة في إيران لم تحاول فعلياً التجرد من عوالق الدولة الصفوية، وهذا ما يضع استفهامات كثيرة حول زعمها الإصلاحي والتجديدي. وما يمثل أيضا التباين الصارخ بين منطقها الفعلي ومنطق شريعتي الإصلاحي، والذي كتب بضراوة ضد هذا المنطق كما في كتابه (التشيع العلوي والتشيع الصفوي). ويقول الكاتب أحمد زين في مقال له عن شريعتي في جريدة (السفير): quot;ومن مفارقات هذا الرجل أن الثورة الإيرانية التي عبّدت مؤلفاته طريقها باعتراف قادة الثورة أنفسهم، ما لبثت بعد انتصارها وتسلمها زمام الدولة ومقاليد السلطة أن أدارت له ظهرها، أو قدمته إلى أجيال ما بعد الثورة بكثير من التردد والتوجس، لأن قراءته ثانية ستكشف لا محالة عن اختلالات عميقة في إيقاعات الثورة أو الدولة.quot; وعبدالرحمن بدوي كان معاصراً لشريعتي، وعاش مثله في فرنسا وإيران، ويقول في (سيرة حياتي) أن أغلب الظن أن مصير شريعتي كان سيصبح مأساويا لو عاش لحين قيام الثورة وما تلاها.
إن أطياف شريعتي لازالت ترودُ المكان، وثقافة الرفض والاحتجاج التي زرعها في السابق، هي نفسها التي تروج اليوم. ومثلما كانت أفكاره تنتشر في السبعينات عن طريق (الكاسيت)، فهي تفعل اليوم عبر الانترنت وعبر شباب (الفيس بوك) و (تويتر). ولم يكن لدى شريعتي مشروع إصلاحي محدد الملامح، لكن كان لديه الأفكار الصريحة، واللغة الشعبوية النافذة التي كانت تحرّض على التفاعل وإدراك الذات ووعيها. ويمكن إدراك فرضية الاستحمار، التي قدمها شريعتي عبر عدة محاضرات، من خلال كتابه الذي قدمته إلى العربية دار الأمير تحت اسم (النباهة والاستحمار). والاستحمار لدى شريعتي هو تزييف لذهن الإنسان، وحرفه عن مسار النباهة الإنسانية والاجتماعية، من خلال الاعتماد على مفهومي الإلهاء والتجهيل. وهو يرى أن المتعلمين المشبّعين بالعلم، لا يساوون شيئاً بدون حملهم للفكر، (فابن سينا) العالم المثقف، لا يساوي شيئاً مقارنة (بأبي ذر) صاحب الدراية. فسلب الدراية والوعي سلب لكل شيء. ومن هنا كان التنبّه للاستحمار هو إسقاط وخلخلة لكل أيدلوجيا استغلالية، سواء كانت سياسية (فرعون) أو اقتصادية (قارون) أو دينية (بلعام بن باعوراء). ويجدر بنا أن نتذكر هذه الفرضية مِراراً في عالمنا العروبي الواسع، الذي تتكدس فيه الخطايا، وتأنسُ إليه العلل.
لقد شاهدت كيف أن الكثير من الشباب الإيراني يضعون شريعتي في المرتبة الأولى في قلوبهم، كالملهم (والمعلم) كما كان يُدعى في زمانه. كان شريعتي لهم بوابة من أراد الولوج لعالم الفكر، كما هو الخيّام بوابة من أراد الولوج لعالم الذوق والجمال.
الشعب الإيراني يدرك بالتأكيد أنه صاحب تجربة، ويعرف أنه شعب عريق لديه الكثير الذي يقدمه للعالم، ويتشارك معه فيه. ولذا يمانع أن يحشر ويقولب في أيدلوجيا دولة ولاية الفقية. ونجده قد رفض أن (يُستحمر) من قبل الملالي، كما رفض أن يستحمر من الشاة من قبل. لقد اختار قطاع عريض من الشعب أن يعبر عن رفضه عبر تظاهرة سلمية، ولم يكن يفترض في دولة تعتبر نفسها (ديمقراطية) أن تقوم بقمعها بالسلاح وأن تهددها بذلك. وما سيكون الآن أنه حتى لو نجحت صرامة المرشد والحكومة في إخماد هذه المظاهرات في النهاية، فما سيبقى جلياً، وعائماً على السطح، هو أن الثورة الإسلامية نفسها قد انسحبت إلى مواجهة مع الشارع. وكما علّق رجل من الشارع الإيراني لإحدى القنوات الإخبارية quot;حتى لو نجحوا في إخماد هذه التظاهرات، فإن الوضع لن يعود أبداً كما كان في السابق.quot;

[email protected]