فكرة quot;الدولة الفلسطينية الموحدةquot; من الأفكار القديمة المطروحة من أطراف عديدة بالمنطقة، فقد تبنتها فصائل فلسطينية، وتحمس لها مثقفون مختلفي التوجهات والأيديولوجيات، كما لا يفوتنا هنا التنوية بطرح زعيم الزعماء وملك ملوك أفريقيا الأخ العقيد، لما سماه (لا فض فوه ومات حاسدوه) بدولة إسراطين. . الفكرة جذابة ومثالية، بل وحداثية أيضاً، فالدولة الحديثة تقوم على أساس مواطنة السكان، المؤسسة على امتلاكهم لمساحة محددة من الأرض تعرف بالوطن، ولا شأن لها بتصنيفات عرقية أو دينية، كما تستند الدولة الحديثة في قيامها وتماسكها على قوة الواقع، ورغبة السكان في التعايش المشترك، بغض النظر عما إذا كانت حقائق الواقع هذه، والرغبة المفترضة للسكان في العيش المشترك، تستند إلى مقومات تاريخية، أو أنها تكتفي بواقع الحال القائم quot;هنا والآنquot;، لتؤسس عليه حاضرها، وتنطلق منه إلى مستقبلها، باعتبار صلابة الواقع هو الضمانه الحقيقية غير الأسطورية، التي تكفل لنا الاطمئنان لإمكانية نجاح ما نشيده من تصورات وبناء.
يلزم بداية التنويه إلى أننا في سطورنا هذه مضطرون لأمرين، أولهما تجاهل أصحاب الميول والتوجهات الأصولية الدينية، سواء من المتأسلمين أو المتهودين، ممن يبدأون من الدين وينتهون إليه، ولا اعتبار للإنسان والإنسانية في حساباتهم، فهؤلاء لا يتحدثون عن الأرض ومن عليها، إلا كواسطة يصلون بها إلى جنات الخلد، عبر التزامات حرفية بمفاهيمهم الخاصة (ولا نقول الشاذة المنغلقة) للدين، أياً كان هذا الدين، فهؤلاء لا فائدة ترجى من الحديث معهم أو إليهم. . الأمر الثاني الذي نحن مضطرون له، لتكتسب مداخلتنا هذه قدراً معقولاً من الجدية، أن نتجاهل من يدعون إلى دولة واحدة، تضم اليهود والعرب معاً، بنية الاعتماد على قدرة الفلسطينيين العرب الفائقة على التناسل، باعتبارها سلاح دمار شامل، لكل فئة تجاورهم في عيش مشترك، بأمل أن يصل الأمر باليهود بعد سنوات قليلة، أن يلقوا مصير سائر الأقليات في دول المنطقة المسماة بالعربية، كما أكراد العراق وسوريا، وشيعة المنطقة عموماً، وموارنة لبنان ودروزها، وأقباط مصر وفور السودان وأفارقتها عموماً، وأمازيغ المغرب المسمى افتراء وعدواناً بالمغرب العربي، ناهيك عن مصير ومعاناة سائر الأقليات الأقل حجماً والأكثر معاناة.
هكذا نتجه بمقاربتنا هذه إلى العلمانيين الحقيقيين والمخلصين في المنطقة، ممن يحترمون ويدافعون عن الإنسان، لمجرد كونه إنساناً، ليس أكثر ولا أقل، ويحملون عقولاً ونفوساً سوية، بريئة من عُصاب العداء البدائي للآخر، ذلك العصاب الذي يتخذ شكل فكر يتستر بالدين أو بالأيدولوجية القومية، وهو في حقيقته لا هذا ولا ذاك، وإنما تشوهات عصابية بدائية مكبوتة في اللاوعي (أو الأنا السفلى)، تجد طريقاً لها إلى الوعي (أو الأنا)، متنكرة في زي تبريري، لتبدو فيه كما لو كانت حاملة لقيم نبيلة، مصدرها الضمير والمثالية (أو الأنا العليا). . هنا الزيف والخداع، ليس للآخر فقط، وإنما بالدرجة الأولى للذات!!
تعني العلمانية في مجالنا هذا -على الأقل- العقلانية، التي هي في شرع كاتب هذه السطور، استخدام العقل في اكتشاف علاقات الواقع وإمكانياته، ومحاولة إيجاد علاقات جديدة ومبتكرة بين تشكيلة عناصره، وليست بأي حال عقلانية مثالية، تهيم بالرؤى الطوباوية المثالية، لتؤسس بها مدينة فاضلة، لن يتيسر تحققها إلا في أضغاث الأحلام. . الواقع إذن هو مرجعية العقلانية وهدفها، منه تبدأ وإليه تنتهي، وعلى هدي ذلك نبحث إمكانية تحقيق رؤية quot;الدولة الفلسطينية الموحدةquot;.
يقال أن الشعور الوطني هو quot;انتماء متوهم للفردquot;، يُشعره بالارتباط بجماعة. . وكلمة quot;توهمquot; هنا لا علاقة لها quot;بالوهمquot; المفارق للواقع والحقائق، وإنما المقصود بها هو quot;الشعور الإنسانيquot;، والذي ينجم عن عاملين، يكادا أن يتعادلا في الأهمية، أولهما العامل المادي، والذي يتمثل فيما يعايشه الإنسان داخل المحيط الجغرافي المسمى وطن، من حقائق مادية (hard ware)، وعلاقات تربطة بمن حوله، وتربط بالتالي مصيره بمصيرهم، والعامل الثاني هو الفكري (soft ware)، والذي يرى الإنسان العالم وحقائق الواقع من خلاله، وينجم عن العقيدة الدينية التي ينشأ عليها، مضافة إليها الأيديولوجيات والثقافة السياسية والعادات والتقاليد وما شابه. . فإذا ما تضافر العاملان وتوافقا معاً في تشكيل هذا quot;التوهم بالانتماءquot;، فإن الحالة الوطنية في هذا المجتمع تكون جيدة، بما لابد وأن يؤدي إلى نجاح الشعب في تحقيق ذاته وطموحاته الفردية والوطنية. . أما إذا فُقد أحد هذين العاملين، أو تضادا مع بعضهما البعض، فإن مثل هذا الوطن سيعش حالة غير صحية، حافلة بالقلاقل والاضطرابات، وقد يعزى التعارض بينهما إلى اختلافات مادية بين مكونات الوطن، على نمط ما نعرفة بالاختلاف على تقسيم الثروة، كما هو حادث جزئياً في حالة أكراد العراق، أو إذا ما تعارض الفكر السائد مع ما توحي به وتدفع إليه علاقات الواقع، ويكاد هذا ما يحدث في مختلف أنحاء الشرق الأوسط، ويشكل الجذر الأساسي لأزمته المعيشية والحضارية، نتيجة رواج فكر التأسلم السياسي، والملامح الفاشية المتجذرة في أيديولوجية القومية العربية.
هكذا يكون ما يطالب به السادة العلمانيون في منطقتنا من دولة موحدة في فلسطين، يحتاج إلى توفر العاملين السابقين، لدى جميع الفرقاء على أرض فلسطين، ليمكن بالفعل إقامة وطن، لا افتتاح ساحة قتال واقتتال متبادل. . فإنشاء وطن موحد، من مكونات تقاتلت لمدى يكاد يزيد على قرن من الزمان، لا يمكن أن يتأتى بمعاهدة توقع، تفرضها أطراف خارجية على الجماعات المتناحرة، كما لا يمكن أن يفرضها طرف على الآخر، في ظل المقاطعة الاقتصادية والسياسية والثقافية، المطلوب لها أن تمتد حتى لحظة توقيع الوحدة (التي لابد وأن تشابه عندئذ كافة مشاريع الوحدة القذافية الخالدة).
العوامل المادية التي من الممكن أن تربط كافة من يعيشون في فلسطين ببعضهم البعض متوافرة، بلا موجبات لتنازع الفرقاء، فلا يوجد طرف يستحوز على ثروات معدنية دون الآخر مثلاً، تكون عندها دافعاً للتنازع، كما أن محدودية المساحة الجغرافية، لا تسمح بوجود تعارضات بين مختلف الجماعات، ففلسطين مثلاً ليست باستاع استراليا أو الهند أو الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي السابق، لكي يكون هناك تخوف من تعارض مصالح بقعة من الوطن مع أخرى. . المعضلة الوحيد في حالتنا هذه هي الفكر (soft ware)، المحمل بميراث العداء، الذي يرى البعض حتمية استمرارة إلى يوم القيامة. . فرغم الأولوية الدائمة للعوامل المادية، إلا أن الوضع في حالتنا هذه يكاد يكون فكرياً وثقافياً من بدايته إلى نهايته. . وإذا كان إحداث تغيير في الواقع المادي ليس بالعمل السهل، فإن أقل تغيير في الجانب الثقافي بالغ الصعوبة، خاصة إذا كان التغيير المطلوب هو في اتجاه السلام والتوافق، فالجماهير الجاهلة والبدائية (كجماهيرنا بالمنطقة) يسهل تحريكها واندفاعها باتجاه العداء، أما إعادتها بعد ذلك إلى نهج وثقافة السلام، فعملية تحتاج إلى زمن طويل، وإلى جهود مخلصة، نأمل أن نجدها لدى السادة المنادين بدولة موحدة لليهود والعرب.
هل يستطيع علمانيو المنطقة تكوين جبهة، تسعى لتأهيل الفرقاء ليعيشوا مع بعض في سلام؟
هل سيتخلون في سبيل هدفهم هذا عن تأييد ما يسمونه عمليات استشهادية، يقتل فيها أطفال ونساء الصهاينة؟
هل سيتوقفون عن رفض ما يسمونه (باحتقار) تطبيع، وكأن العلاقات الطبيعية سُبَّة، مع من نريد إجبارهم تحت تهديد التفجيرات الانتحارية بالمعيشة معنا في وطن مشترك؟
أيتصور السادة العلمانيين أن أحداً في إسرائيل أو العالم يمكن أن يستمع لحديثنا عن دولة واحدة، فيما فضائياتنا وصحفنا وفقهاؤنا يتصايحون ليل نهار بالعداء لليهود، وبالوعيد بإعادتهم من حيث كانوا، بدلاً من ذبحهم أو إلقائهم في البحر؟
هل من الممكن لعاقل أن يصغى إلينا ونحن نعده بالتعايش مع اليهود داخل فلسطين، رغم كل ما حدث ويحدث، فيما جميع شعوب المنطقة لا تستطيع أن تتعايش بسلام واحترام لحقوق الإنسان مع الأقليات المنضوية داخل أوطانها، وأغلبها أقليات أصيلة في تلك الأوطان، وليست واردة الاضطهاد في أوروبا كيهود إسرائيل؟
أتصور وربما كنت مخطئاً، أن خطوة دولتين لشعبين، يمكن أن تكون خطوة أولى عملية، تؤدي إذا ما سارت بعدها الأمور سيراً حسناً، باتجاه التعاون والتكامل بين الطرفين، إلى الدولة الواحدة خالصة العلمانية. . ولا أظن شخصياً أن هذا من الممكن أن يتحقق، ما لم يصاحبة انتصار وسيادة للعلمانية في كل أنحاء المنطقة.
التعليقات