لعلنا لا نضرب بالغيب، إذا قلنا أن منطقة الشرق الكبير، إذا ما امتد الطريق الذي تسير فيه في خط مستقيم، فإنها لابد وتتجه نحو هاوية، قد يتسع حجمها لا للمنطقة وشعوبها وحسب، وإنما للحضارة المعاصرة ومنتجيها أيضاً، بحيث لا يمكن لأشد التوقعات تفاؤلاً، أن تذهب أبعد من تمكن الحضارة الإنسانية من عبور المحنة، مع إصابتها بأضرار جسيمة، قد لا تقتصر على تعويقها لبعض الوقت طال أم قصر، وإنما أيضاً بعد اضطرارها إلى تراجعات خطيرة، عما حققته في مجالات عديدة، أهمها الانفتاح والليبرالية وحقوق الإنسان، هذا بالطبع بخلاف ما لابد وأن تصاب به خطط التنمية الاقتصادية والاجتماعية -على المستوى المحلي والعالمي- من تباطؤ، يصل في بقاع عديدة إلى حد التوقف أو ربما التدهور.
هذه المقاربة التي تبدو لنا قبل أن تبدو للآخرين سوداوية، مشروطة بفرض نأمل بكل جوارحنا ألا يتحقق، وهو quot;إذا ما امتد الطريق الذي تسير فيه المنطقة الآن في خط مستقيمquot;، وهو ما نتصوره المؤشر الذي تشير إليه عموم الأحداث في المنطقة، رغم إشارات في عكس الاتجاه، صدرت وتصدر على استحياء من هنا أو هناك.. فمن العراق الذي ظن الكثيرون أنه قد سقط في هاوية لا نجاة له منها، بدأت تباشير ما لو ملامح تعافيه، وعبوره -ولو البطيء- لبركة الدماء والاقتتال الطائفي والأيديولوجي، إلى بر ديموقراطية واعدة، تحرض على التعاطف والإشفاق والتحسب، بأكثر مما تدفع للتفاؤل بمستقبل واعد.. لدينا أيضاً في دبي الإمارات برجاً للنجاح والحداثة والانفتاح، يقف كنغمة نشاز في صحراء الفشل العربية، حتى لو كان ذلك البرج بأكمله مستورداً، ومرتهناً بإرادة ورؤية حاكم مستنير، يكاد لا يستند إلى قاعدة جماهيرية حقيقية، نخشى أن تكون تلك القاعدة محصنة وممتنعة على الحداثة الثقافية والاجتماعية، ليكون ما تحقق لدبي النموذج من نجاح، ليس أكثر من استزراع عضو جديد في جسد عتيق، ويعتمد بقاء هذا العضو حياً على عقارات مقاومة رفض الجسد الدائم له، ذلك الرفض الذي لابد وأن يكتب له الانتصار، إذا ما تباطأ حقن الجسد بأدوية ضد الممانعة، أو إذا ما داهمت واحة النجاح هذه، جحافل الكراهية والدماء والتخلف، التي تحشد جيوشها، في خطوط محيطة قريبة وبعيدة، وربما في داخل دبي ذاتها.
في مقابل إشارات النجاح الهينة، نجد مستنقعات الفشل الواسعة.. فكل العنف الذي استخدم لانتشال أفغانستان من هاوية الإرهاب والظلام والتخلف، قد اتضح أنه غير كاف، ويحتاج الأمر حسب الرؤية الأمريكية -على الأقل- إلى المزيد من العنف، وهذا ما يتصوره الرئيس الأمريكي أوباما، وهو من بنى سياساته على أساس التحول من نهج المعالجة بالقوة، الذي مثلته إدارة الرئيس بوش، إلى سياسة التفاهم والتفهم المتبادل، فهل يمكن أن ينجح الغرب في أفغانستان، باستخدام المزيد من العنف، أم أن التصعيد لن يفضي بنا إلا إلى الانتقال إلى مستوى أعلى من العنف، ومن ثم العداء والكراهية، التي لابد ويتولد عنها مستوى أكثر علواً من العنف، وهكذا دواليك، في دوائر تصاعدية متفاقمة، لا يتخلف عنها إلا الرماد؟
نفس ذلك السيناريو يكاد يكون قد تكرر في لبنان، فتضخم واستشراء الورم السرطاني المعروف بحزب الله في الجسد اللبناني، والمتحالف مع الداء البعثي الأسدي الوبيل، لم تفلح في معالجته الضغوط الدولية، التي أجلت زبانية وقوات البعث ظاهرياً عن لبنان، وقد ظلت جذورها وعملاؤها، ربما أكثر فعالية، وأكثر مرونة وقدرة على الحركة، بما تتيحه تكتيكات العمل السري من مزايا وإمكانيات.. لكن بالطبع العامل الأساسي في النجاح الساحق لقوى الردة الحضارية والتدمير لكل ما هو إنساني، ترجع بالأساس إلى استنادها على قاعدة جماهيرية عريضة وعميقة الانتماء إلى ما تمثله تلك القوى، من ثقافة العداء والكراهية، والفشل في قبول الحداثة والاندماج في منظومة الحضارة العالمية.
بعدها لم يفلح العنف الزائد الذي استخدمته إسرائيل في اقتلاع حزب الله من جذوره، بعد أن كانت كوندوليزا رايس قد بشرتنا بأن شرق أوسط جديد يتشكل، فإذا بنا نجد أن هذا الشرق الأوسط الجديد، هو الشرق العاجز عن التطهر مما ينهش أحشاءه من أدواء، والذي ليس أمامه إلا التعايش مع تلك الأمراض، كحقيقة راسخة لا مجال للتفكير في استئصالها.
في فلسطين مستنقع العنف والمآسي الإنسانية في المنطقة، لم يأت الثوار إلى فلسطين وفق اتفاقية مدريد، فيما تصورناه صعوداً في طريق السلام، ليصنعوا مستقبلاً أفضل لأهاليهم، الذين عانوا الاحتلال والتخلف لعقود، وإنما جاءوا ليتخذوا من مواقعهم الجديدة داخل الأراضي المحتلة، نقطة انطلاق أفضل، لممارسة ذات فعاليات الإرهاب والتدمير والاقتتال المتبادل، ذاك الذي كانوا يمارسونه من قبل في وانطلاقاً من الأردن ولبنان.. هكذا أيضاً تحولت تجربة الانتخابات الديموقراطية داخل الأراضي الفلسطينية، والتي تمت تحت ضغوط وإشراف المجتمع الدولي، إلى مأساة سيطرة حماس على غزة على الأقل، لتجعل منها قاعدة طالبانية في قلب ما يسمى بالعالم العربي، ولنؤكد دوماً لأنفسنا وللعالم الذي يحاول تخليصنا من ورطتنا، أن كل طريق للصعود نسلكه، لابد وأن ينتهي بنا إلى هاوية.
مرة أخرى كما حدث في لبنان، تحاول إسرائيل -إن صح ما يبدو في الظاهر- أن تستأصل حماس من غزة، لتخلص مواطنيها من تهديداتها، وتزيح عن طريق السلام عقبة كأداء، لكنها تفشل هذه المرة أيضاً، وتضطر -فيما نرى- إلى التواضع بأهدافها من هجومها الدموي، الذي لم يسلم منه البسطاء المطحونين بين رحى حماس وإسرائيل، لتجعل من مجرد إضعاف حماس غايتها، التي لا تستطيع أن تأمل فيما هو أبعد منها، ليبدأ قادة حماس الداخل والخارج، في تبوء مكانتهم الجديدة، التي سبقهم إليها حسن نصر الله، أي مكانة أن وجودهم وتأثيرهم صار أمراً واقعاً، لا يفكر أحد في إلغائه أو تجاهله.
الحال في السودان -التي تخلو من محتل خارجي نتعلل به- أسوأ، فالتسوية بين الشمال والجنوب لا تبدو حتى الآن مبشرة بنهاية سعيدة دائمة ومستقرة، والصراع في دارفور أبعد ما يكون عن السير في طريق التسوية، ولا يبدو في الأفق غير المزيد من الدماء، والمزيد من التدخل الخارجي العنيف، الذي لم تدلنا أي خبرات ماضية، على ما يحرضنا على التفاؤل بنتائجه.
الوضع في الصومال، المنتمية رسمياً على الأقل إلى باقة الدول العربية، لا يقل سوءاً وتدهوراً وانقساماً، حتى بعد أن اعتلى رئاسة الجمهورية قائد لجماعة إرهابية أيديولوجية، هي من تصدرت مشاهد العنف أخيراً في الصومال، بعد سنوات مريرة من تطاحن الفرقاء وأمراء الحرب.
قائمة الفشل أطول من أن نحصرها بدقة، وهي ذاتها قائمة النجاح لسرطان التخلف والكراهية والقتل والتقاتل، الذي يستشري في أرض ممهدة وخصبة.. ورغم أن هناك كما قلنا في البداية إشارات ومؤشرات لنقط ضوء هنا وهناك، إلا أنه من مغالطة الذات الادعاء أن شعوب المنطقة في المستقبل المنظور، يمكن أن تصعد في طريق، لا يؤدي بها إلى هاوية.
هل ثمة فرصة واحتمال أن تقوم شعوب المنطقة وصفوتها وحكامها بمراجعة أنفسهم وتوجهاتهم وخياراتهم، بما يكفي للانحراف ولو قليلاً، عن طريق الذي يصعد بنا إلى قمة الفشل، لنسقط بعده في هاوية بلا قرار؟
[email protected]