نعم عقولنا ومنطقتنا غارقة في الأوهام والخرافات، لكن شر الأوهام هو ما يأخذ صورة وموضوعاً علمانياً، فيبدو كما لو كان حقيقة علمية لا يتطرق إليها الشك، وخير مثال لتلك النوعية من الأوهام مسألة quot;التنويرquot;، وهو المفهوم الذي يعني قيام مجموعة من الرواد، بتنوير شعوب غارقة في ظلمات الجهل، فيحدثونهم عن الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فتحاط تلك الشعوب علماً بما كانت على جهل تام به، فتستيقظ من سباتها وتخلفها، لتبدأ مسيرتها نحو الحداثة.
هذا المفهوم أو التصور الغارق في سذاجته ورومانسيته، قد صار لدينا نحن الشرقيين، بمثابة شاهد أو دليل على طريق نظنه السبيل إلى الحداثة، وإلى مغادرة كهوف التخلف، التي التصقنا بها، فصرنا كما لو جزءاً من صخورها الأزلية الصماء، والحقيقة أن ذلك الشاهد أو الدليل مخادع إلى أبعد مدى، ولا يمكن أن يدلنا إلا على طريق دائري، يعود بنا دائماً إلى حيث بدأنا، كأنما ندور حول أنفسنا، حتى يتمكن منا الإعياء، فنتداعى حيث نحن، نندب حظنا العاثر.
موطن الخلل هو تصورنا لما حدث في أوروبا إبان ما نسميه quot;عصر الأنوارquot;، ولا أريد أن أستخدم تسمية quot;عصر التنويرquot;، لأن رأس الخداع هو في كلمة quot;تنويرquot; هذه، التي هي دلالة على فعل يستلزم فاعلاً ومفعولاً به، والفاعل هنا جهة تحمل مشعل النور، والمفعول به الشعوب الغارقة في الظلمات.. ما حدث حسب تصوراتنا، أن شعوب أوروبا ظلت غارقة في ظلمات العصر الوسيط، حتى قيدت لها الأقدار مجموعة من المفكرين والفلاسفة، أيقظوها من غفوتها، ودلوها على طريق الحداثة، فهرولت فيه مسرعة الخطى.
بناء على هذا التصور نبدأ في التساؤل، وفي توجيه سؤال محدد ينضح بالاتهام: لماذا فشل رواد التنوير في بلادنا، ولماذا فشلت محاولة محمد على التنويرية في مصر، وفشل بعده جيل الرواد، بداية من رفاعة رافع الطهطاوي حتى طه حسين، في استزراع الحداثة في مصر خاصة، وفي شرقنا الأوسط عامة؟
على ذات النهج أيضاً نجد منا من يرى أن مهمة quot;التنويرquot; في بلادنا أكبر من أن يقوم بها مثقفون يبشرون بفكر الحداثة، لذا فهي تحتاج إلى الحاكم المستبد العادل، أو الحاكم الفيلسوف، الذي يفرض التنوير بسلطانه وسلاحه، وهذا بالتحديد هو الدوران حول الذات إلى ما لانهاية، فما أكثر الحكام المستبدين في شرقنا، وجلهم علمانيون، ولا أحد منهم بالتأكيد يهدف لأن يكون مستبداً ظالماً.. ما يحدث أننا في معرض دوراننا حول أنفسنا، تسقط من ذاكرتنا خبرات ومفاهيم كثيرة وخطيرة، منها أن نظرية المستبد العادل قد أكل عليها الدهر وشرب، وأثبتت فشلها، أو سذاجة رومانسيتها، بالضبط كما ثبت فشل رومانسية جنة الشيوعية الموعودة، تلك التي كان أشهر من بشر بها أفلاطون، في جمهوريته الفاضلة.. ننسى أيضاً أهمية دور الشعوب في تقرير مصيرها سلباً وإيجاباً، وذلك من خلال ما نعرفه بالديماجوجية أو الديموقراطية، ذلك حين ننسب مهمة التنوير لنخبة مثقفة، أو لحاكم مستبد مستنير.
إذا عدنا لأصل قياسنا الخاطئ، وهو تقييمنا لما حدث في أوروبا، وانتقل بها مما نسميه ظلمات العصر الوسيط، إلى الحداثة وما بعدها، وحاولنا نقد تصوراتنا، ربما نجد أننا قد وقعنا أسرى لتصورات ساذجة وخادعة إلى أبعد مدى.
الاستنارة في أوروبا لم تكن أبداً من صناعة نخبة مستنيرة، كما لم تكن العصور الوسطى محض عصور ظلام، خرجت منها أوروبا فجأة إلى عصر الحداثة، بعد عملية يقظة مفاجئة، لا توجد إلا في الأفلام السينمائية الهابطة.
نعم تسيد الظلام والجهل والخرافة على فترات في العصور الوسطى، لكن هذه العصور أيضاً كانت هي الرحم الذي نبتت فيه النهضة، كما أن الثورة الصناعية قد نبتت ونمت في رحم الإقطاع، وولادة النهضة والثورة الصناعية تلك لم تكن ولادة فجائية، أو انفجارية، كتفجر بئر مياه أو بترول في صحراء جرداء، بل كانت عبر سلسلة طويلة وشاقة من الإرهاصات والتحولات، سواء على المستوى المادي وعلاقات الإنتاج، أو على مستوى ما لابد وأن يتماشى معها من فكر جديد، يدفع لتلك التغيرات، وينبثق في ذات الوقت منها ومن متطلباتها.
لم يكن من نعتبرهم رواد التنوير من فنانين ومفكرين وفلاسفة هم مخترعو فكر الحداثة من اللاشيء، وإنما كان دورهم محصوراً في الصياغة النظرية، لما يدور في قلوب وعقول الملايين من البسطاء، الذين كانت أنوار الفجر الجديد المشتتة تداعب أجفانهم، وتدغدغ توقهم الغامض للعدالة والحرية، فقام هؤلاء الرواد بصياغة quot;روح القوانينquot; وquot;العقد الاجتماعيquot;، وما شابه من اجتهادات وتنظيرات، كانت مجرد ترجمة حاذقة، لتلك الأصوات الغامضة، التي تدق أسماع وقلوب العامة، ولا يعرفون لها تسمية أو تحديداً وتأصيلاً، يكسبها قوة وشرعية، في مواجهة المدرسية والخطاب التقليدي ومقدساته، التي كبلت الناس بقيودها خلال ما انصرم من عهود.
لهذا بالتحديد نجح رواد عصر الأنوار، ليس لحذق فيهم يفتقده اليوم مستنيرو الشرق الأوسط، ولا لمساعدة ومظاهرة من سلاطين، نفتقد مثيلهم نحن الآن، ولكن لأنهم كانوا بمقولاتهم، إنما يطالعون الناس بما يحدثون به أنفسهم، وإن بغموض والتباس.
أما وضعية رواد التنوير في منطقتنا، فمختلفة تماماً، وبعيدة عن كل ما من شأنه أن يكفل لهم النجاح، فبضاعتهم الثقافية المسيرة مستوردة، ولم تنبت من رحم مجتمعات المنطقة، والتقدم الصناعي الحادث أيضاً مستورد، ولم تنجبه التحولات الطبيعية في علاقات الإنتاج ووسائله، وإنما انطبق على ما حدث بالمنطقة من تطور حضاري مقولة نزار قباني: قد لبسنا قشرة الحضارة، والروح جاهلية.
على النقيض من هذا نجد نجاح دعاة الردة الحضارية، الملتحفون بخطاب ديني سلفي مغرق في الغيبية والتجهيل، فرواج هذا الخطاب رغم تعارضه مع الواقع المادي، يرجع إلى أنه بمثابة استجابة للخيالات والتصورات التي تشبع ونشأ الناس عليها عبر تنشئتهم الدينية، في رؤيتهم لأنفسهم وللعالم، وكانت صدمة الحداثة التي داهمتهم في العقود الأخيرة، أشبه بالأمواج التي تضرب الغريق الذي يحاول النجاة بكل وسيلة، فتفقده الوعي، ويجد نفسه ألعوبة مهددة بالهلاك، لتأتي تنظيرات الجماعات الدينية السلفية، لتلقي له ما لو طوق نجاة، يبدد حيرته وينقذه مما يتصوره الضياع.
تبني الحكام بالمنطقة للتيارات الدينية واللعب بها، ليس أبداً هو السر وراء رواجها، وإنما العكس هو الصحيح، فرواجها بين الجماهير، هو الذي دفع الحكام للعب بورقتها، وإن كان بالطبع لتلك اللعبة تداعياتها، التي تضخم من حجم نجاح تلك التيارات.
على ماذا ينبغي أن نراهن إذن، إن لم نراهن على نشاط النخبة من المستنيرين، ولم نراهن على أن يهبط علينا من السماء مستبد عادل، لا يحذو حذو صدام حسين وعبد الناصر والأسد والقذافي؟
ليس أمامنا إلا أن نراهن على الزمن، وعلى فعل التكنولوجيا، التي تغير طبيعة العلاقات على الأرض، ولابد أن يتمخض عنها تغيرات في العقول، التي ستكون هنا في دور المفعول به، لا دور الفاعل، وهو الأمر الذي لا يحرضنا على الإغراق في التفاؤل، مادامت عقولنا تقوم بدور المكابح لقاطرة التقدم، بدلاً من أن تقوم بدور القوة الدافعة إلى الأمام.
[email protected]