درج المصريون على مجاوبة من يطلب أمراً مرفوضاً أو مستحيلاً، بالقول أن هذا سيتحقق quot;في المشمشquot;، ولم يكن اختيار المصريين للمشمش بالذات لهذا التمثيل، دون جميع الفواكه الموسمية، إلا لأنه كان في السابق يظهر في الأسواق لفترة بسيطة جداً يختفى بعدها، فلا ينتبه غير الحريصين لظهوره، وتفوتهم فرصة تذوق طعمه المميز.. هذا ما طرأ في ذهني وأنا أتأمل النتائج المخيبة لمن يحاولون تحقيق السلام في الشرق الأوسط، عبر حل ما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي.. خيل لي أن هناك تشابهات عديدة بين المشمش وحل تلك القضية، أولها أن الفترات القليلة التي يظهر فيها المشمش، ويفوت على الكثيرين من عشاقه تذوقه، تماثل الفرص القليلة خلال النصف قرن الماضي، التي كان يمكن فيها تحقيق السلام الذي يدعي الجميع البحث عنه، لكن أصحاب المصلحة الأولى في تذوق المشمش، أو في تحقيق السلام، وهم أصحاب ما يتصورونه حقاً ضائعاً، من الفلسطينيين ومحرضيهم ومسانديهم من العرب، تفننوا في إهدار هذه الفرص واحدة بعد الأخرى، بداية من فرصة قرار التقسيم الصادر من الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر عام 1947، مروراً بمبادرة السادات للسلام عام 1977، التي أصدر العرب الأماجد والأشاوس الصداميون عليه بسببها حكماً بالإعدام في عاصمة الرشيد، ليعودوا بعد فوات الأوان ليتسولوا بعضاً مما كان متاحاً لهم حينها.. وربما آخرها محاولات كلينتون في مباحثات كامب ديفيد الثانية يوليو عام 2000، والتي أضاعها العرب وفقاً لهوايتهم أو احترافهم تضييع كل فرص السلام، أو سد كل ثقب يمكن أن يتسلل منه نور صباح جديد، لا يبدو له حتى الآن من فجر.
أنا شخصياً من عشاق المشمش، وأدمنه ثماراً وعصيراً ورقائق (قمر الدين)، لكنني أستحي من طلبه في غير موسمه كما يفعل السيد/ باراك أوباما حالياً، ويسير خلفه الاتحاد الأوروبي بحكم الاعتياد لا أكثر.. فعن أي مشمش أو أي سلام يبحثون، ولا أحد في شرقنا الأوسط -العريق في البغضاء وتبادل الكراهية- يطلبه أو حتى يقبله؟
المشكلة الأساسية التي تجعل هؤلاء الباحثين عن سلام الشرق الأوسط يدورون حول أنفسهم في حلقة مفرغة، أنهم يحاولون إقناع حكام المنطقة بهذا السلام وفوائده، وفق تصور أنهم يتحدثون لحكام مستبدين، يملكون كل شيء في بلادهم، من الأعناق إلى الأرزاق، رغم أن الواقع يصرخ الآن بعكس ذلك تماماً، فهؤلاء الطغاة يحافظون بالكاد وبشق النفس على كراسيهم، وهم غير مستعدين أو قادرين على بذل أي جهد حقيقي، لغير غرض تثبيت دعائم تلك الكراسي المهتزة.. أما الشارع ذو الأغلبية الصامتة اليائسة، فيسيطر على الأجزاء الحية منه الجماعات السلفية، المصرة على العداء والقتل والاقتتال، سواء كانت سلفية دينية أم سلفية عروبية.
هل يمكن أن ينجح أوباما أو غيره في دفع المنطقة نحو السلام، والإجابة القاطعة الواضحة على دعوته تأتي من الشارع المحتقن بكل أنواع بلايا التعصب والتخلف، قائلة له quot;في المشمشquot;؟!!
الرؤساء الذين يستضيفهم مستر أوباما، ليتوسل إليهم أن يمضوا في نهج السلام.. هل يعلم ويتجاهل، أم يجهل ويتعالم، أنهم قد اقتسموا بلادهم مع شرازم وعصابات السلفية بأنواعها، لهؤلاء الشارع بجماهيره، ولهم القصور والبعثات الدبلوماسية المظهرية عديمة اللون والطعم والرائحة.. لهؤلاء وسائل الإعلام والخناجر والمتفجرات التي ترهب الجميع وعلى رأسهم الحكام أنفسهم، ولهم الخطاب الرسمي الفاتر الذي لا يستمع له أحد، والدبابات والطائرات التي يعلوها الصدأ، لفشلها وعجزها وعدم جدوى أو عدم وجود مجال لاستعمالها؟!!
من الطبيعي ألا نتوقع أن يواجه أحد من ضيوف المائدة البيضاوية مستر أوباما بالحقيقة، فيقول له أن quot;طريقك مسدود مسدود يا ولديquot;، وأن العرب يرفضون السلام مع أعداء الله بكل إباء وشمم، وأنه لابد quot;سيرجع يوماً مهزوماً مكسور الوجدانquot; وquot;سيعرف بعد رحيل العمر، بأنه كان يطارد خيط دخانquot;!!
أليس من السذاجة أو الضحك على الذات وعلى الذقون، أن يبحث الغرب عن تطبيع العرب مع إسرائيل، والعرب لا يستطيعون التطبيع بين بعضهم البعض، رغم أيديولوجيتهم العروبية المجيدة، وجامعتهم العربية وأمينها الهمام، الذي يتغنى بحبه شعبان عبد الرحيم؟
هل من أمل حقيقي وليس وهمياً في تطبيع عربي عربي، ونحن نرى سوريا وجزب الله وحماس، يتحالفون مع إيران المتأسلمة الفارسية، مهددين كل المنطقة.. ونرى دولة قطر تلعب بالنيران كطفل أحمق، وهي تسعى بكل الطرق وفي كل الاتجهات، لكي تلعب وهي العصفورة دوراً لا تصلح له إلا النسور؟.. ونرى أغلب ما يسمى دول جوار العراق الشقيقة، وهي مصرة على أن تصدر له الموت والدمار، تحت رايات قومية بعثية تارة، ورايات متأسلمة سنية تارة أخرى؟
أهو أوان التطبيع أو المشمش حتى داخل كل دولة مسماة عربية، ونحن نرى الصومال والسودان واليمن والعراق وفلسطين ولبنان تتقاتل داخلياً، وإن اختلفت أشكال التقاتل قليلاً أو كثيراً من هذه البقعة إلى تلك؟
أي مجتمع شرق أوسطي يحيا أبناؤه في سلام وتناغم وتوافق، أو تعيش أقلياته في علاقات طبيعية مع أغلبيته، حتى يقدم هذا المجتمع على طلب أو حتى قبول التعايش والتطبيع مع من نصر على أنه العدو الإسرائيلي، أو بالأصح مع أعداء الله من أحفاد القردة والخنازير؟
العرب طوال أكثر من نصف قرن يرفضون التطبيع بصورة مطلقة، فلقد رفضوا التطبيع مع الفلسطينيين اللاجئين إلى أراضيهم، بحجة أن تجنيسهم وتوطينهم سيترتب عليه ضياع القضية، وضياع الأرض الفلسطينية.. ويرفضون الآن إنقاذ الأراضي الفلسطينية من زحف المستوطنات الإسرائيلية، مقابل التطبيع مع إسرائيل، بدعوى أن هذا سيؤدي لتصفية القضية الفلسطينية، رغم أنهم لن يخسروا شيئاً بتطبيعهم، الذي يستطيعون بسهولة التراجع عنه، إذا ما وجدوا -أو لم يجدوا- أنهم قد تعرضوا لخديعة، فهذا ما سبق وأن فعلته مصر بالفعل، وquot;باعت لإسرائيل وأمريكا الترامquot;، مقابل استعادة أرضها كاملة، بعد تطهير كل شبر فيها، من أي تعديات أو مستوطنات.. هو إذن منطق دائري لزج ومتعطن، يبدأ برفض التطبيع وينتهي إليه.. المهم أن نرفض ونرفض على طول الخط، بشرط أن يكون الرفض المقدس والأبدي هذا موجهاً للتطبيع أو السلام، أو أي قيمة إنسانية وعملية، تنهي مأساة الفلسطينيين، الذين غرقنا في أوحال قضيتهم حتى الأعناق!!
أهو أمر مضحك أم مبكي أن نرى كلاً من جورج جون ميتشل، مندوب باراك أوباما السامي، والمخابرات المصرية العريقة، مصرين على تذوق المشمش في غير أوانه، هذا بمحاولة التوفيق بين العرب وإسرائيل عدوتهم اللدودة إلى يوم القيامة، وهؤلاء بتحقيق ما يسمى مصالحة بين فتح وحماس، فيما يعيش كل منهما على كوكب غير الذي يعيش عليه الآخر، وكلا الكوكبين أبعد ما يكونان عن كوكبنا الأرضي؟!!
عن أي سلام يتحدث كل هؤلاء، وهل هم جادون بالفعل في أحاديثم وسعيهم، أم هم يستهلكون الوقت، بل يهدرونه في طلب المستحيل (على الأقل حالياً)، بدلاً من البحث الجدي والعلمي فيما يمكن أن يتخذ لإعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وإنقاذ شعوبها من أنفسهم، ومما يرعى في أحشائها من طفيليات وفيروسات الجهل والتعصب والكراهية والتخلف؟
أستطيع كمراقب أن أتفهم المجهودات الأمريكية الحالية لتحقيق السلام في الشرق الأوسط، أو بالأصح لحل قضية الصراع العربي الإسرائيلي، إذا اتفقنا أن غرضها الحقيقي التظاهر بالحركة طوال أربع سنوات قادمة، هي فترة حكم أوباما الأولى، لكي يستطيع في نهايتها تسول أربع سنوات أخرى، متذرعاً بنفس الحجج والمبررات.. يذكرني هذا بقصة جحا، الذي وعد الملك أن يعلم حماره القراءة والكتابة بعد عشرين عاماً، والذي لما سئل عن كيفية قطعه هذا الوعد المستحيل على نفسه، اتضح أن ما يبطنه، هو أنه بعد تلك المدة لابد وأن يكون واحد من ثلاثة قد مات، إما الملك أو حماره أو جحا شخصياً!!
ولأنني بالفعل عاشق للمشمش، بقدر عشقي للسلام وللحياة الإنسانية الطبيعية، فإنني لا أخفي أن في أعماقي رغم كل ماسبق أملاً أو وهماً، بأنه يمكن الحصول على المشمش في غير أوانه، كما يمكن تحقيق السلام بغير توافر مقوماته.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
التعليقات