لا يختلف الزلزال الذي ضرب نيويورك وواشنطون في 11 سبتمبر 2001 كثيراً عن غيره من الزلازل، وإن كان ما ترتب عليه وكشف عنه، أبعد أثراً وأعمق غوراً.. فأي زلزال لا يقوم فقط بتدمير ما هو قائم من أبنية، وإنما يكشف بالتبعية عن نقاط الضعف فيما هو قائم، وما كان ينبغي (لولا الغفلة) أن نزيله، قبل أن ينهار في أي لحظة على رؤوس من فيه.. حدث هذا بجلاء في الزلزال الذي ضرب مصر في التسعينات، وتصدعت وانهارت من جرائه آلاف الأبنية القديمة والمتهالكة، والتي كان من المتصور قبل الزلزال أنها سليمة وجديرة بالبقاء.. فرغم التدمير الهائل والمأساة الإنسانية التي ترتبت على ما أقدم عليه نفر، ممن يسهل علينا وصمهم بالتطرف أو حتى الهوس والجنون، إلا أن ما كشفت عنه تلك التفجيرات الدامية، أهم وأخطر بكثير من غبار التدمير ودماء آلاف الضحايا.. دروس عديدة تعلمناها، أو من المفترض أننا تعلمناها ووعيناها جيداً.. وأن ننساها، أو نغفل درس أو أكثر منها، هو جريمة أخرى أكبر وأعظم، ليس في حق دولة أو شعب بعينه، بل في حق الحضارة التي أسسها الإنسان عبر آلاف السنين.. ولنحاول إجراء مسح أو عرض سريع لأصداء ودروس ذلك اليوم:
bull;سقط في هذا اليوم التصور بأن الشعب الأمريكي المحاط بالمحيطين الأطلنطي والهادي، في أمان مما يجري في العالم، وأن تدخله فيما يحدث في العالم الخارجي، له درجة ثانية من الأولوية، تلي أولوية الأمان.. فبموجب الدرجة الثانية من الأولوية، يتدخل الأمريكي لتأمين التجارة وموارد الطاقة، أو لمساعدة العالم الخارجي على ترتيب حياته وفق أسس الليبرالية ومعايير حقوق الإنسان، من منطلق رسالة إنسانية أمريكية تجاه العالم.. مثل تلك الأسباب مهما كانت وجاهتها وأهميتها وإيمان الشعب الأمريكي بها، تظل دون قضية الأمان الشخصي لشعب، يتصدر قيادة الحضارة الإنسانية في مرحلتها الراهنة.. هذا هو الدرس الذي قدر لجورج بوش الابن أن يتصدى لحمل أمانة العمل بموجبه، ما جلب عليه انتقادات، أو حتى لعنات من يعجزون عن استيعاب ذلك الدرس، ناهيك عن نقمة من تطلب الدرس توجيه صفعات على وجوههم، أو تطلب وضعهم خلف قضبان جوانتانامو.. وأن ينسى أو يتناسى الشعب الأمريكي والعالم الغربي ذلك الدرس الآن، تحت تأثير ما يتكبدون في مختلف كهوف الإرهاب من خسائر..هذا النسيان أو التناسي هو بمثابة تمهيد لغزوة أخرى مباركة، على ذات النمط السبتمبري وربما أشد قسوة.
bull;إذا كانت أفعال التدمير في 11 سبتمبر قد أمكن نسبتها إلى تنظيم محدد، فإن ردود فعل الشارع في مختلف بقاع الشرق الأوسط، الذي أقام الاحتفالات العلنية أو السرية، سعادة وابتهاجاً بالدماء الغزيرة التي سالت، تكشف بجلاء أن الأمر ليس أمر عصابة من المجرمين أو المأجورين، فهؤلاء مجرد نخبة أو صفوة شعوب قد تشبعت حتى النخاع بالكراهية والعداء، لكل ما هو غربي وكل ما هو متحضر، لأنه عد في شرع تلك الشعوب، بمثابة إهانة للمتخلفين وتخلفهم، وللعاجزين وعجزهم.. مع هذا الاكتشاف تسقط نظرية محاربة الاستبداد الشرقي، ومحاولة الغرب ترويج الديموقراطية في الشرق، باعتبار الحكام الشرقيين الراديكاليين والطغاة هم أعداء شعوبهم وشعوب العالم أجمع، وأن الأمر إذا ترك لشعوب الشرق، فإنها ستهرع للالتحاق بركب الحضارة، أو جرياً وراء مبدأ quot;الديموقراطيات لا تتصارعquot;، مع تطبيقة بسذاجة منقطعة النظير، كما حدث في غزة على سبيل المثال لا الحصر.. فما وضح جلياً بعد أحداث 11 سبتمبر، أن العدو الحقيقي للغرب وحضارته، ليست الأنظمة الديكتاتورية الراديكالية، بقدر ما هي الأنظمة المتخلفة والمغلقة، والتي تتحول الشعوب في أحضانها إلى ذئاب مسعورة، تسعى إلى سفك الدماء، أي دماء وكل دماء.. حتى ولو دماء تلك الشعوب ذاتها.. لا أظن أن بوش وإدارته قد وعوا هذا الدرس جيداً، وإلا لما ركزوا فقط على ضرب الطغاة في أفغانستان والعراق، متصورين بسذاجة منقطعة النظير، أن ترك الشعوب لنفسها، كفيل تلقائياً بتأسيس حالة جديدة، تترعرع فيها الحداثة والتحضر.. فكان ما كان، من استفحال الكراهية وسفك الدماء، وقد أخلي ما بين الشعوب التي تربت على الكراهية وشهوة الدماء، لتعمل في بعضها البعض تقتيلاً.. لتمتد النيران إلى مواقع أخرى، مع كل مساحة حرية تستشعرها شعوب الشرق.. فهل فات الوقت ليدرك الغرب أن كل ما فعلوا، هو أنهم أتاحوا الفرصة لصراع الفاشيات بينها وبين بعضها البعض، وأن هذا لا يمكن أبداً أن ينجب حداثة أو حضارة أو أمان للمتحضرين؟
bull;كانت واشنطون ndash;وربما مازالت- مشغولة بما عرف بمشروع حرب النجوم، والذي يتضمن تسليح الفضاء بصواريخ مضادة للصواريخ، تحت تصور أن هذه الصواريخ تضمن الأمان للشعب الأمريكي، يضاف للأمان الذي تحققه المحيطات وبعد المسافة بينهم وبين العالم القديم.. الآن وبعد ما خاضته جيوش التحالف الغربي في أفغانستان والعراق، يتضح أن جيوشهم لا تحتاج إلى التفوق في حرب النجوم، بل في حرب الكهوف.. فالعدو الذي يهددهم لا شأن له بالنجوم، وإنما بالكهوف، وسلاحة ليس الصواريخ العابرة للقارات، وإنما السلاح الأبيض أو الأسود، والمتفجرات التي يتمنطق بها الاستشهاديون.. وهذا بالتحديد ما لا خبرة لجنود وجيوش الغرب به، ما أدى إلى أن تتلاعب بهم عصابات من الحفاة، الذين يجيدون التمترس في كهوف الجبال، والانقضاض والفرار السهل وقتما يشاءون.. هو إذن قلب لاستراتيجيات الدفاع الغربي رأساً على عقب، هو فضح لاستراتيجيات مفارقة للواقع، وفاشلة بجدارة في التنبوء بنوعية الأعداء وطبيعة المعارك المستقبلية.
bull;رغم أن الكثيرين قد هللوا بعد 11 سبتمبر لصموئيل هنتنجتون ونظريته quot;صدام الحضاراتquot;، باعتبار ما حدث هو تحقيق لها، إلا أن هذا فيما نرى درس مغلوط، فالدرس الحقيقي معاكس لهذا تماماً، فلقد أسس صموئيل هنتنجتون نظريته على أساس تصادم حضارات متعددة، نسبها إلى أعراق متعددة، وأيديولوجيات متباينة.. بالتأكيد ليس هذا ما أسفرت عنه أحداث 11 سبتمبر، فمن قام بهذه التفجيرات، ومن كانوا الأرضية التي نبتت فيها أفكار هؤلاء، ومن زودوها بالإمكانيات المادية والبشرية، لا يمكن أن يحسبوا على أي حضارة.. هو صدام التخلف مع الحضار بصورة عامة، وليس أبداً صدام بين حضارات متباينة.. فإن كان هناك من صدقت نبوءته فعلاً، فلن يكون صموئيل هنتنجتون، وإنما هو الفيلسوف الأمريكي اليساري هربرت ماركيوز، الذي تنبأ في الستينات، بأن المهمشين في العالم، سوف يقومون لتحطيم الحضارة الراهنة على رؤوس المتحضرين.. هذا هو ما تحقق بالفعل، رغم اختلاف أسباب معاداة مهمشي هربرت ماركيوز للحضارة، عن الأسباب التي دفعت مهمشي الشرق الأوسط لمعاداتها.. فعند هربرت ماركيوز أن الحضارة الراهنة التي تخلق الإنسان quot;ذو البعد الواحدquot;، بديناميكيتها الإستهلاكية، هي التي همشت الفقراء، وتزداد في تهميشهم كلما تسارعت دورة عجلاتها.. أما مهمشو الشرق الأوسط، فوراء تهميشهم عجزهم عن مجاراة الحضارة، وعجزهم عن امتلاك مقومات الالتحاق بها، مصحوباً بعداء أيديولوجي، يتركز على العداء الأصيل لقيم الحضارة، بذات قدر التركيز على العداء الذاتي الشخصي لشعوب، تم اعتبارها تجسيداً للمضاد، أو بالتعبير الدارج اعتبارهم أعداء لله، لا مجال للقاء أو التوافق معهم، إنما هو القتل والقتال ولا شيء سواه.
لا أظننا في هذه العجالة قد أنجزنا ما وعدنا به من تعداد لدروس 11 سبتمبر 2001، فالحدث عظيم وجلل، وما كشف عنه خطير وكثير ومتشعب، ويحتاج إلى جولة أو جولات أخرى.
[email protected]