ما يحدث الآن في الكويت، من توظيف لآليات الديموقراطية، من قبل الجماعات والتوجهات الأشد عداء للحرية والديموقراطية ذاتها، فتستخدمها لكي تضع العصي في دواليب إدارة الدولة، واستخدام الشرعية الدستورية، ليس كأداة للإصلاح، وإنما كسلاح في ساحة عداء قبائلي مقيت، وإن ارتدى مسوح الحداثة والإصلاح، حيث يتصف ما نسميه quot;العداء القبائليquot;، بثبات المواقف المضادة، وافتقادها للمرونة وفق الأحوال، وحسب مقتضيات المصلحة -على ضوء الممكن، وليس طلباً للمستحيل- التي يدعي المعترضون، أو المستغلون لآليات الديموقراطية تبنيها، فيما المعارضة الديموقراطية تقوم على أساس المشاركة في الحكم والمساعدة على إدارة البلاد، من خلال التنبيه إلى ما تراه خطأ، وتقديم تصورات بما تراه صحيحاً، وأيضاً مساندة ما تراه يحقق الصالح العام، والأهداف القومية المتفق عليها.. فبدون وجود أهداف وطنية يتفق عليها جميع أبناء الوطن، من العبث الحديث عن ديموقراطية ومعارضة وما شابه، فدون أن يكون القائمون على التنفيذ والمعارضون، متجهين لتحقيق أهداف عامة واحدة، بحيث ينحصر الخلاف بين الجانبين، في جدوى الوسائل المتبعة في تحقيقها، لا تنتج المعارضة وتفعيل آليات الديموقراطية، غير فوضى وعشوائية، أشبه بما يمثله لدينا سوق عكاظ، أي الذي يغني كل فيه على هواه، دون أن يكون ثمة خط عام نسير فيه، ويتركز خلافنا على ترشيده وتعديله وتطويره.. هنا لا نعدم من يقترح العودة إلى النهج الاستبدادي، للحد من عشوائية الممارسات المتسلحة بآليات الديموقراطية.. وقبل أن نلوم من ينحو هذا النحو، باتجاه الردة إلى ما لم نكد نتخلص منه بالفعل، وهو الشمولية والأبوية في الحكم وإدارة شئون الحياة، علينا أن نجد حلاً لظاهرة إساءة استخدام الديموقراطية، والتي تتسم بها جميع المحاولات أو التجارب الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط، فيما عدا بالطبع ما نلقبه بالكيان الصهيوني المزعوم.
ففي العراق الديموقراطي تحت إشراف أمريكي، تم استخدام الديموقراطية أيضاً لتنازع واقتسام كعكة الوطن، التي جفت وتشققت من طول عهود الجفاف والديكتاتورية.. ليس الحال في لبنان أفضل من هذا، رغم العراقة النسبية للممارسة الديموقراطيه فيه.. ولن نتحدث بالطبع عن مهزلة الديموقراطية في فلسطين، فلم تصبر حماس على توظيف الديموقراطية بذات طريقة حزب الله، وإنما اختصرت الطريق بانقلابها على السلطة، والقبض على أعناق الشعب الفلسطيني، تحت تهديد الخناجر والسيوف.
يستسهل الكثيرون القفز من تلك الظواهر، إلى استنتاج أن الديموقراطية لا تصلح لشعوب المنطقة، وأن الاستبداد هو الوسيلة المثلى، أو حتى الوحيدة، لقيادة مثل هذه الشعوب، وهذا بالتأكيد غير صحيح، واستنتاج مغلوط، لا يقل في خطله، عن سوء توظيف ما استعرضنا من تجارب، لآليات الديموقراطية المظلومة معنا وبنا.
إن شأن شعوبنا مع الديموقراطية، هو ذات شأنها مع جميع مظاهر الحضارة، التي استوردتها من الخارج، بغض النظر عن مدى تواؤمها مع واقعنا من عدمه، وأسأنا أيضاً استغلالها وتوظيفها، بذات النهج الذي اتبعناه مع الديموقراطية.. فهل وظفنا القنوات التليفزيونية الفضائية لنشر الثقافة والحداثة والوعي الصحي بين الجماهير التي تغلب عليها الأمية، أم استخدمناها للشحن العاطفي بالعداء والكراهية لكل ما هو حديث وإنساني؟.. لعلنا نستطيع الزعم بأن ثمار توظيفنا للبث الفضائي، كان تجريف الوعي والتحضر والإنسانية، ذلك المتراكم لدى الجماهير على مدى عشرات القرون، لتأتي مثلاً تلك القناة الشهيرة، لتنجح نجاحاً باهراً في تجريف وتدمير قشرة الحضارة، الرقيقة من الأساس لدى العديد من شعوب المنطقة، لنرى شيوع التعطش للذبح وسفك الدماء، ولنرى في ميادين عواصمنا تظاهرات حاشدة تطالب بالحروب والانتقام وسفك الدماء، على العكس تماماً مما تشهده عواصم الغرب، من تظاهرات مناهضة للعنف والحرب، ومطالبة بسقوط زعمائها الذين يلجأون للعنف، لدرء ما يرونه خطراً على أوطانهم.
ومن الطريف أن نشاهد على شاشة تلك القناة التليفزيونية المروجة للعنف والكراهية، برنامجاً يقوم على الحوار بين طرفين، والحوار كما نعرف جميعاً هو العمود الفقري للحرية والديموقراطية، وهو غاية المراد ونعم المواجهة بين أي نقيضين، لكن صديقنا اللدود مقدم البرنامج، مصمم أن يضرب المثل في إساءة استخدام وتوظيف آلية الحوار، فيكرس حذقه وألمعيته، لتحويل الحوار إلى مقارعة، أو قذف حجارة متبادل بين الضيفين، المفترض نظرياً فقط، أنهما جاءا ليتحاورا أمام الجماهير، أو على الأقل يعرض كل منهما وجهة نظره، ويدفع ما يوجه إليه من نقد ويفنده، ليكون للجماهير بعد ذلك الحكم لصالح هذا الطرف أو ذاك، أو الخروج بنتيجة متوسطة بينهما.. هنا لانجد عذراً لصديقنا مقدم ذاك البرنامج، في سعيه لأكبر مشاهدة جماهيرية، تحت شعار quot;الجمهور عايز كدهquot;، فنحن نعرف أن القناة التي يقدم منها برنامجه ليست قناة تجارية، ولا تمول نفسها ذاتياً، بل هناك من أهل الخير (أو الشر) من يمولها، لتحقن الجماهير بسمومها، وتحيل المنطقة إلى مستنقع من الكراهية والدماء، موظفة في ذلك آليات الحوار، بل وتحت شعار quot;الرأي والرأي الآخرquot;، فأي مهزلة وأي إساءة توظيف لكل القيم السامية، التي لم ننتجها نحن، ولن ننتجها بهذا النحو أبداً؟!
المشكلة ليست في الديموقراطية ذاتها، وفي صلاحيتها من عدمه، وليست أيضاً في صلاحية الكائنات البشرية في هذه المنطقة للحياة وفق آليات الديموقراطية، إنما في أن الديموقراطية عبارة عن آليات وإجراءات ونظم تنفيذية، ابتكرتها شعوب تعتنق الليبرالية منهجاً ومنظوراً للحياة.. شعوب لا تعتبر التنوع وصمة أو مصدر ضعف ينبغي استئصاله، كما فعل صدام في الأكراد، والبشير في جنوب السودان ودارفور، وكما يحدث تقريباً في جميع مجتمعات المنطقة، التي تنزع لقولبة وتوحيد الناس قسراً، وفق نموذج مصطنع، تنسب له الرفعة والسمو على كل ما عداه، دون ما مؤشر واحد حقيقي وعملي، يؤيد ذلك التفوق المدعى.
الشعوب الليبرالية التي أوجدت آليات الديموقراطية ترى أن الاختلاف في الأراء والرؤى مصدر ثراء، وليس خيانة وعمالة وكفراً، أو خروجاً على ثوابت الأمة، بل وليس لدى الشعوب الليبرلية ثوابت بالأساس، اللهم إلا التوجه نحو تحقيق المصلحة العملية على أرض والواقع، وهنا في هذه الحياة الدنيا، وليس في العالم الآخر.. ليس لدى الشعوب الليبرالية أيضاً حقيقة واحدة مطلقة، ونص واحد بتفسير واحد شامل جامع لكل كبيرة وصغيرة في الحياة، وما عداه ضلال وفساد وانحلال، كما لا تحاكم الشعوب الليبرالية أفرادها على تميزهم، وعلى خروجهم عن القضبان الأزلية، التي سار عليها االآباء والأجداد لمئات أو آلاف السنين، بل تشجع هؤلاء على الابتكار والإبداع، علهم يجدون لمجتمعاتهم طرقاً جديدة، أكثر صلاحية، وأكثر مقدرة على الوصول بالمجتمع إلى غد أفضل وأكثر رخاء.
لتحقيق كل ما سبق من توجهات ليبرالية، ولتنظيم الأداء في مثل تلك المجتمعات، كانت الديموقراطية وآلياتها، تلك التي استعرناها نحن، أو فرضت علينا ndash;كما حدث بالعراق- لنعمل فيها التشويه والتوظيف المضاد لكل ما وضعت من أجله.
هنا يبرز أمامنا سؤال: هل الليبرالية أولاً شرط لصلاحية التطبيق الديموقراطي، أم أن التطبيق الديموقراطي هو بداية الطريق لاستزراع الليبرالية، حتى لو جاء في البداية مشوهاً، أو أتى بنتائج معاكسة تماماً لما نتوقع.. ليكون علينا أن نعالج النتائج السلبية، بالقليل من عقار التحكم والضبط الشمولي الطابع أحياناً، وبالمزيد من الحرية والديموقراطية في أحيان أخرى؟
لا أعتقد أنه من السهل العثور على إجابة نموذجية لهذا السؤال، فهو ليس من الأسئلة التي تفيد فيها الاجتهادات النظرية، ولا حتى التحليلات المعتمدة على ما يحدث على الأرض، فالإجابة إن كان لنا أن نجد إجابة، لابد وأن تتحقق على أرض الواقع، فالواقع خلاق ومبدع، وحالة الفوضى والسيولة التي تمر بها المنطقة الآن، ربما كانت هي المقدمات الأولى، لواقع جديد تماماً يتخلق في رحم ما نعتبره ظلمة حالكة.
[email protected]