حين نتحدث أو نتساءل عن العراق وأحواله، حاضره ومستقبله، فإن هذا يتعدى حدود الاهتمام بشعب عانى أكثر من جميع شعوب المنطقة من الطغيان بوطأته الثقيلة الوبيلة.. يتعداه إلى مستقبل المنطقة المسماة حالياً بالشرق الكبير، تلك الصحراء القاحلة من الحضارة، المسكونة بأشباح الماضي ووحوشه الضارية، تلك التي تحاول اليوم الانبعاث من مجاهل التاريخ، لتحيل حاضر هذه الشعوب إلى جحيم، وتهدد أيضاً كل شعوب العالم وحضارته.. نعرف جميعاً أن البحث عن أسلحة صدام النووية كان مجرد تعلة لدخول التحالف الغربي العراق، لكننا بالطبع سنختلف على توصيف وتقييم الأهداف الحقيقية لغزو العراق أو بالأصح تحريره، وفقاً لوجهات نظر ومواقف عديدة ومتباينة أشد التباين.. منها ما يرى الأمر على أنه محاولة العالم المتحضر إنشاء رأس جسر له في محيط التخلف العربي، عله بعد ذلك يستطيع منه أن ينقل حضارة الألفية الثالثة، إلى سائر شعوب المنطقة.
كان هذا مطلوباً بإلحاح بعد أحداث 11 سبتمبر، والتي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن العالم المتحضر لا يمكن أن يعيش في سلام، فيما عوامل التخلف تنهش في أحشاء بقعة تقع تماماً في القلب منه.. في حين أن رأس الجسر الحضاري التقليدي وهو لبنان، كان قد تحول إلى مصب لكل إفرازات التخلف بالمنطقة، بدلاً من أن يكون مصدراً للحضارة، بل وربما تحول إلى نموذج لفشل استزراعها في صحارينا، بعدما عجز بنوه عن تخطي عقبة العنصرية الكأداء، ليتبنوا قيم الحرية والحداثة بوضوح وصفاء، وليس الاكتفاء برفع راياتها، للحصول على الدعم لمطالبهم الطائفية والعنصرية.
العراق الآن إلى أين؟
هذا السؤال الشامل يمكن إعادة صياغته، لنتساءل عن مدى قدرة الإنسان العراقي على اهتبال الفرصة الذهبية التي أتيحت له، وقد دفعت أطراف عديدة ثمنها دماء ومالاً.. هل الإنسان العراقي قابل لاستيعاب روح العصر، وقيم الإنسانية والديموقراطية والحداثة، ومؤهل لخلع عباءة القبلية والطائفية، وما يصاحبها من قيم وعادات وتقاليد تنتمي بالفعل إلى متحف التاريخ؟
بعد السؤال عن إمكانيات الإنسان العراقي وقابليته للتطور، نجد أنفسنا ننتقل تلقائياً إلى تساؤل منطقي، عما إذا كان هذا الإنسان سيجد بالفعل من يوفر له الظروف والمؤهلات لينتقل تلك النقلة أو القفزة الحضارية.. فالتحولات الخطيرة في مسار الشعوب لا تتم ببساطة نتيجة لخطبة حماسية من حاكم، أو قصيدة عصماء من شاعر، من هؤلاء الذين تحفل بهم مقاه بغداد ومنتدياتها.. يحتاج التحول إلى التنمية بمفهومها الشامل، والتي تفضي إلى تغيرات اقتصادية واجتماعية جذرية، تنتقل بالمجتمع العراقي من الاعتماد على الاقتصاد الريعي، الذي يكرس هيمنة القبيلة، أو استبداد الحاكم المانح المانع، إلى اقتصاد حديث وقادر، يحفز ويدعم الجهد والطموح الفردي، فيتجه الإنسان تلقائياً زحفاً خلف مصالحه ومطامحه، ليغادر رصيف القبلية الذي انطرح على أعتابها عصوراً، فيعتز بذاته وبحقوقه وحرياته الفردية، بمعزل عن القطيع، الذي كان الالتزام بسياجه هو الضمانة الوحيدة للبقاء.
وإذا كان من السهل البدء في تشييد المصانع واستيراد التكنولوجيا، دون انقسامات واعتراضات من كافة الغرماء والفرقاء الذين تغص بهم الساحة العراقية، فهل سيقبل هؤلاء على تحولات فكرية وثقافية وقيمية، تواكب التغيير المادي وتدعمه، ولا تعمل -كما هو حادث الآن في أغلب دول الشرق- في اتجاه مضاد لما يجري من تغيير مادي؟
هل سيجد العراق من يطور نظام تعليمه، مفارقاً للتلقين والاستظهار، الذي يؤهل لرواج الدوجماطيقية، وما يترتب عليها من الانقياد إلى المراجع والملالي وأصحاب الفتاوى، الذين يصبون الأسمنت والجبس والمتفجرات أيضاً، في عقول تم الحجر عليها، لتصلح كآنية تأخذ ولا تعطي، تبتلع ولا تمضغ أو تتذوق؟
إذا تركنا العموميات الحاكمة لمصير العراق، وبدأنا نتساءل عن الحال والمأمول في الساحة العراقية الآن، فسنجد الكثير من الأسئلة، والقليل النادر من الإجابات:
هل سيسير الأكراد في اتجاه تطوير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بإقليمهم نحو الحداثة، أم سينكفئون على ذواتهم، مكتفين بالحصول على ما يتصورونه نصيبهم من كعكة الوطن أو خزانة البترول، لتظل العجلة تدور في بهم في ذات اتجاه دورانها الأبدي، محاصرين بهويتهم المحاطة بمحاولات انتهاكها التاريخية من الاتجاهات الجغرافية الأربع، لتكون النتيجة في النهاية انفصالاً سياسياً عن العراق الأم، أو البقاء مظهرياً تحت مظلة فيدرالية مهترئة، بدلاً من التطور الحداثي، الذي يمكن أن يتخذ من الإقليم الكردي نقطة انطلاق وإشعاع، يغمر منها كل أنحاء العراق؟
هل تتجه حكومة الأغلبية المسيطرة الآن على العراق، لتكون حكومة أغلبية سياسية عابرة للتصنيفات الطائفية، أم ستعجز عن تلك النقلة، وتظل أسيرة المحاصصة، مكررة وبصورة أبشع وأكثر دموية، ذلك الفشل المحقق في لبنان؟
هل التباطؤ في استيعاب رجال الصحوات في أجهزة الدولة، سواء في الأجهزة الأمنية، أو في وظائف مدنية، تحقق لهم الانتظام بين صفوف العراق الجديد، وترفع عنهم سيف العوز والحاجة.. هل هذا التباطؤ المقيت المرصود، ناتج فقط عن عجز إداري ومالي، لن يلبث أن يجد له معالجة مناسبة، ليستوعب النظام كل أبناء العراق؟
أم أن الأمر أمر تحزب وطائفية، تستهدف المكون السني، لنشهد حقبة طغيان طائفي شيعي، يعدها البعض تعويضاً وانتقاماً، من حقبة طغيان سني بائدة، رغم أن الطغيان الصدامي لم يستثن في الحقيقة أحداً من أهل العراق؟
هل الضغوط التي تمارسها السلطة العراقية على معسكر أشرف، الذي يضم ثلاثة آلاف ونصف إيراني لاجئ من منظمة مجاهدي خلق، ترجع إلى ما يتوجب من سيادة الدولة العراقية على مجمل أراضيها وسكانها، مع الأخذ في الاعتبار معايير حقوق الإنسان، بالإضافة إلى طمأنة الجارة إيران، لعدم اتخاذ أراض العراق مركزاً لانطلاق أنشطة معادية وتخريبة ضدها؟
أم أن التوصيف الحقيقي لتلك التوجهات الحكومية العراقية، ليس استعادة سيادة العراق، وإنما بيع هذه السيادة لإيران، التي هي مصدر الخطر الأكبر على حاضر العراق ومستقبله؟
هل تتجه أجهزة الدولة العراقية، بما فيها أجهزتها الأمنية، لتكون -توجهاً وتشكيلاً- مؤسسات قومية، ينصهر فيها جميع المختلفين قبلياً وطائفياً، أم تظل تلك المؤسسات مكونة من مزيج غير قابل للتفاعل والتمازج، بما ينعكس بالحتم على أدائها وتوجهاتها، ليكون لذلك صداه المميت لدى الجماهير، التي ستعتبر قوات الأمن مثلاً ليست أكثر من منظمة بدر، وإن تغيرت تسميتها ورايتها، بما يشكل فيروساً مدمراً، لكل أمل في تحقيق الأمن للمواطن العراقي، ويجهض كل محاولات سد الطريق في وجه محاولات تنظيم القاعدة وسائر التنظيمات الإرهابية البعثية والأصولية، لتقديم نفسها للمواطن السني، على أنها المدافعة عن كيانه ومصالحة ووجوده ذاته؟
هل ستتمكن الطائفة السنية من طرح الماضي خلف ظهورها، والتخلي عن ميراث الهيمنة القومية، بالكف عن الاستناد للأيديولوجية العروبية البعثية بتواجهاتها الفاشستية، وغلق كل الأبواب التي تأتي منها رياحها، وبالأخص السورية.. أيضاً الكف عن الهيمنة الدينية بمختلف درجاتها، بدءاً من تكفير أخوة الوطن من الشيعة، صعوداً نحو هاوية أيديولوجية القاعدة الاستئصالية والإرهابية.. واعتناق الحداثة والأخوة الوطنية والإنسانية؟
هل ستعتبر الطوائف المسيحية العراقية، بخبرة ما تعرضوا ويتعرضون له من استهداف ومذابح، رغم أن لا ناقة لهم ولا جمل في الصراع الطائفي الدائر، فيدركون أن مصيرهم مرتبط بمصير العراق ككل، وأنه من قبيل العبث تسول الأمان بالبقاء على الشطوط، بعيداً عما يموج بالوطن من تيارات، تحصناً في احتراف العلم والخبرات الإدارية والتكنولوجية.. وأن حصونهم هذه رغم احترامها وتوقيرها من جميع الفرقاء، لم تقيهم شرور الإرهاب والجنون الطائفي الذي داهم أرض الرافدين، وأن حق نفوسهم عليهم، كما حق وطنهم ومواطنيهم أيضاً، أن ينخرطوا في العمل السياسي والمدني، لإخراج العراق من وطأة التخلف والطائفية، إلى مشارف عصر جديد مختلف كل الاختلاف؟
هكذا لا نملك بالفعل عن العراق غير الأسئلة، ولا نظن أن أحداً بالعراق أو خارجه، يمكن أن يوافينا بإجابات يقينة، سواء عما هو قائم بالفعل، أو ما يمكن أن يكون في المستقبل.. لكن العثور على الأسئلة الصحيحة، هو بالتأكيد البوابة المفضية إلى العثور على الطرق الصحيحة، وإن لم توفر لنا الضمانة بأن تسير الأمور بالفعل على النحو المأمول.
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات