نعم تُفرض الحداثة على شعوب الشرق فرضاً من الخارج، ليس فقط عن طريق ما يسمى بالإملاءات والضغوط الأمريكية والغربية، وربما كما نحب القول، الضغوط الصهيونية التي ترمي لتغريبنا عن هويتنا، واقتلاعنا من جذورنا المقدسة. . بل تُفرض أيضاً بطوفان التكنولوجيا، وأهم روافدة التطور المذهل لوسائل الاتصالات بكافة صنوفها.. تُفرض الحداثة أيضاً بالترابط المسمى بالعولمة، والذي يربط مصير الجميع اقتصادياً، كأنهم أسرى مربوطة أقدامهم بسلاسل في أقدام البعض، فإما أن يسيروا جميعاً، أو يتوقفوا جميعاً. . حتى المجال الصحي، صار ميكروب واحد يهدد كل البشرية، كأنهم ساكنو غرفة واحدة.
نعم ربْط شعوب الشرق بسائر العالم الحداثي والساعي نحو الحداثة، يحرمهم من الاستقرار الهانئ في قاع تخلفهم وعنصريتهم وجهالتهم العزيزة والمقدسة، لكن هل يكفي كل ما سبق -رغمم عظم شأنه- لكي تسير تلك الشعوب سيراً حثيثاً وطبيعياً نحو الحداثة؟
يخبرنا المنطق، وتدلنا الدلائل على أرض الواقع، على أن الحداثة بالفعل تداهمنا أو تقتحمنا عنوة، مؤسسة لنفسها قواعد ومراكز في العديد من مناحي حياتنا. . لكن ذات المنطق والواقع، يخبرنا أيضاً أن تلك التجليات الحداثية، تبقى شظايا متفرقة وعشوائية، ما لم تجد من شعوبنا استقبالاً جيداً ومرحباً بها، بل وسعياً شغوفاً ومصراً نحوها. . فما لم يتحقق ذلك، فإن عناصر الحداثة المنزرعة عنوة هنا وهناك، تلعب دور إرباك لتلك الشعوب والمجتمعات، وليست فقط دور عوامات متاحة، ليتعلق بها الموشكون على الغرق.
نزعم أن ما ادعيناه هنا صحيح وبجدارة على مستوى القاعدة، حيث الحياة اليومية لشعوبنا تتخبط وتترنح، بل وتسقط أحيانا صريعة الاقتتال والفشل، نتيجة التوتر الناشئ ما بين الحداثة الوافدة، والقيم والتقاليد والأفكار العتيقة الراسخة والمقيمة منذ عصور ودهور. . هذا المزيج غير المتجانس يصير في حد ذاته مصدراً معوقاً لمسرى الحياة، فالأمر أشبه بقاطرة تتحرك عجلاتها الأربع في أكثر من اتجاه، فإنها حتماً لن تذهب إلى أي مكان، بل وربما نتجاسر على القول، أن حياة مثل تلك الشعوب ربما كانت ستكون أيسر، لو تحركت بقاطرتها في اتجاه واحد، حتى لو كان اتجاه التخلف والتقهقر نحو ماض مجيد!!
أما على المستوى البانورامي الواسع، فإن ذات التوصيف المأساوي يبدو جليا وفجاً ومتحدياً بما لا يقاس. . ويكفي أن ننظر لأحوال ثمرة الحداثة الأولى في الشرق الأوسط، لبنان الزهرة والأمنية والمثال المأمول انتثار بذوره في كل أنحاء الصحارى العربية.. تصورنا وتصور العالم الحر معنا، أن العائق بين لبنان وبين استئناف مسيرة الحرية والحداثة، هو القوات المسلحة السورية البعثية، ومخالبها المخابراتية الإرهابية القاتلة في آن.. وكان أن خرجت تلك القوات مرغمة أو طائعة سيان، لنفاجأ بأن الوضع مازال كما كان عليه، بل ويرى البعض أنه صار أسوأ مما كان. . يعتقد كاتب هذه السطور أنه من قبيل الغفلة والتهرب من مواجهة الواقع وحقائقه، نسبة هذا الحال إلى ما يسمى quot;أياد سورية وإيرانيةquot;، يقال مازالت تعبث في أحشاء لبنان، بأكثر وأشرس مما كان يحدث قبل جلاء القوات السورية.. فتلك الأيادي المنسوب إليها التخريب للبنان الحداثي الحر، ليست غير أياد لبنانية، تحسب يقيناً على الشعب اللبناني، حتى وإن كانت تقوم بالعمل في خدمة أجندات سورية وإيرانية.
في الجهة المقابلة، أو التي كنا نحسبها مقابلة في الساحة اللبنانية، وهي جبهة ما يسمى quot;14 آذارquot;، باعتبارها التحالف المناصر للحرية والحداثة والداعي لها، نجد أن ما كنا نقيمه بترددها عن مواجهة من يحاولون جر لبنان إلى هاوية، ودعوناهم مراراً لحسم هذا التردد، ومواجهة ما يتحتم عليهم مواجهته، وكنا نصبر عليهم ونترفق بهم، عملاً بالمثل المصري القائل: quot;إللي إيده في الميه، مش زي إللي إيده في النارquot;، وكنا نخشى معهم على لبنان الحمامة الرقيقة، أن تتمزق أبعاضها، كما سبق وأن حدث مرات ومرات. . لكننا بدلاً من أن نشهد تطور أداء معسكر الحرية والحداثة، ولو تدريجياً وببطء مقيت، نحو ترتيب البيت اللبناني، بناء على ما تصر نتائج الانتخابات على تأكيده، نجد العكس تماماً هو ما يحدث، فنجد الشيخ سعد الحريري، المرشح لتشكيل وزارة وفق أغلبية مريحة، يعقد تحت مسمى تشكيل حكومة وحدة وطنية، مباحثات وصفقات غامضة ومشبوهة، لتخرج علينا في النهاية أخبار عن وزارة لا يمكن أن تتمكن من الذهاب بلبنان في أي طريق، إلا لو كان quot;طريق الندامةquot; أو quot;طريق إللي يروح ما يرجعشquot;.
لم يقتصر الأمر اللبناني عند هذا الحد، فالتوافقات اللبنانية الإرغامية والعشوائية، والتي تفتقد إلى أي أساس موضوعي، ظاهرة لبنانية خاصة، يمكن أن نحتملها لبعض الوقت، تحت بند الضرورات المؤقته، لكن ما quot;يزيد الطين بلةquot; أو quot;الصورة سوادquot; أن نجد زعامات أو بهلوانات السياسة اللبنانية، يبدلون تحالفاتهم كمن يتشقلب في ساحة سيرك، دون حياء أو حرص على مصداقية، كنا قد تصورنا أنهم قرروا السعي إليها أخيراً، بعد تاريخ طويل حالك السواد لهم وللبنان الضحية.
ربما أو دعنا نقول بالتأكيد، للحرية والحداثة في لبنان أنصار، من أفراد (مهما بلغ عددهم) مشتتين ومتشرذمين، لكن من الخيانة للحقيقة، والخداع لأنفسنا، أن نتصور أن أياً من التنظيمات والأحزاب والقيادات اللبنانية الحالية، يسعى بحق وباستقامة، لترميم البيت اللبناني على أسس الحرية والحداثة، بعد ما حاق به من تدمير على يد أهله، وليس -كما يحلو لنا أن نتهرب من مواجهة الحقائق- بفعل مباشر من قوى عبث وتخريب خارجية، كإيران وسوريا، وسائر قائمة ما يسمى بالدول العربية الشقيقة!!
إن كانت تلك السطور قد اتخذت رغماً عنا، شكل مرثاة للحرية والحداثة في شرقنا، إلا أنها ndash;فيما نظن- لا تدخل إلا في باب مواجهة الحقائق، مهما كانت مرة أو مريرة. . فلا يكاد الصراع المحتدم في كل بقاع الشرق حالياً، إلا أن يعد صراع بين عنصريات وطائفيات، تتنازع الكعكة المقددة لشرقنا، ولا ينشد أي منها بحق عالم الحرية والحداثة، فماذا يكمن لنا أن نتوقع من مصير لقضية، لا تجد من يتحمس أو يخلص لها؟!
تناولنا هنا حال أمل قديم جديد في تأسيس واحة للحداثة والحرية على أرض فينيقيا، وربما يتاح لنا فيما بعد جولة أخرى، في أرض الرافدين، مهد السومريين والآشوريين والكلدانيين والبابليين.
[email protected]