هناك ولا شك لحن جديد، يجري عزفه في الولايات المتحدة الأمريكية، وتتردد أصداؤه في مختلف جنبات كرتنا الأرضية، وتتلهف عليه الآذان في بحر الظلمات، المسمى بالشرق الأوسط، كبيراً كان أم صغيراً.. اللحن هو quot;لحن التغييرquot;، تلك الصفة السحرية، لدى الشعوب الحية والفاعلة في عالمنا.. هو يختلف بالطبع عن quot;لحن الخلودquot;، ليس ذاك الذي تغنى به موسيقارنا الراحل quot;فريد الأطرشquot;، quot;فلحن التغييرquot; الأمريكي مختلف منهجياً على الأقل، عن ما نصر على وصف ألحاننا وأفكارنا به من خلود أبدي.. تحتمه ما نتصوره لأفكارنا وأساطيرنا وتخيلاتنا وأوهامنا من قداسة، تجعل من التغيير وصمة وسبة، ومن الجمود والتشبث والتمسح بركام مخلفات الأجيال الماضية، دليل أصالة واعتزاز وكرامة.
إذا كانت شعوبنا قد اتفقت ndash;ربما للمرة الأولى- مع الشعب الأمريكي على الترحيب برمز الأمل الجديد باراك أوباما، فإن أساس الترحيب مختلف، بل متضاد بين الطرفين (الأمريكيين ونحن)، فلقد حمل الأمريكيون أوباما على أعناقهم للبيت الأبيض، لأنه أكد لهم أنهم quot;يستطيعون التغييرquot; We can change، فالتغيير في حد ذاته قيمة مقدسة، لدى شعوب تحرص على أن يأتي غدها مختلفاً بأكبر قدر ممكن عن يومها وأمسها، ويزداد توقها ولهفتها للتغيير، إذا ما واجهت في طريقها صعوبات وإشكاليات تعوق مسيرتها.. فيما نلجأ نحن في مواجهة خيباتنا وهزائمنا، وأمام مداهمة الحداثة والحضارة لصحارى تخلفنا، لما نسميه بداية بالتصدي، ثم عندما ندرك أننا عاجزون عن هذا التصدي المزعوم، نستبدله بالصمود، الذي قد يأخذ عند الكثيرين شكل البلادة، والعجز عن الاستجابة، أو حتى مجرد إدراك حقائق الواقع المحيط، كأن جلودنا أصداف فاقدة الحس، عصية على الاختراق.. وإذا ما فشلنا في هذا وذاك، لا نجد لنا من دور غير ما نطلق عليه الممانعة، فنحاول قدر طاقتنا وضع ما تطال أيدينا من عصي في عجلة التغيير، كما لو نحاول أن نلقي بصخور في مسار تيار الزمن، علها توقف مسيرته، إذا لم تنجح في إعادته للوراء.
الأصالة في شرعنا، تختلف جذرياً عن الأصالة authenticity في مفهوم أوباما ابن الثقافة الغربية.. فالأصالة في مفهومنا تعني أن تسعى للتطابق مع نموذج قديم مفترض، وتزيد درجة الأصالة، كلما بعد ذلك النموذج عن زماننا، وكلما بعدت الشقة بين ملامح ومواصفات ذلك النموذج، وبين ملامح زماننا ومن يعايشونه من بشر.. أما الأصالة في المفهوم الغربي، فهي على النقيض تماماً من ذلك، إذ تعني أصالة الإنسان أن يكون ذاته، وليس نسخة مكررة وزائفة من أي ذات أخرى، مهما عظمت تلك الذات التي يتم محاكاتها، أو الانقياد الأعمى لها.. وفق ذلك المفهوم تعني أصالة الوجود الإنساني أيضاً، أن يعيش الإنسان وجوداً منفتحاً على العالم، وألا يتقوقع حتى حول ذاته، بل يسعى باستمرار لإثراء وجوده الإنساني، عبر التفاعل مع العالم، ومع سائر الذوات الإنسانية.. على العكس تماماً مما يفعل من يستشعرون التهديد الدائم بغزوهم ثقافياً ودينياً، وبسعي العالم كله لمحو هويتهم الثمينة المزعومة.
التغيير المعترف به والمقبول في شرعنا، ليس صنع مستقبل مختلف وأكثر رقياً من الوجهة الحضارية والإنسانية، كذلك الذي يسعى إليه الغرب، وكل الأمم التي قررت أن تساهم في صنع الحضارة، لا أن تكون عالة عليها، أو معوقة ومناهضة لها.. التغيير الذي تطالب به صفوتنا وجماعاتنا الراديكالية السلفية، وتسايرها فيه جماهيرنا المغيبة عقولها، والمخدرة بحكايا وأساطير وشعارات انتهى عمرها الافتراضي من قرون طويلة، هو فقط العودة، أو السقوط في هاوية الماضي، والانطراح على أعتاب من يسميهم البعض السلف الصالح، ويسميهم آخرون الآباء.
هكذا عندما أعلن الأمريكي الجميل باراك أوباما عن رغبته في تحسين العلاقة بين أمريكا، وبين ما تصوره العالم الإسلامي، لم يخطر على بال جحافل فقهائنا ومجاهدينا وأشاوسنا بالتأكيد، أنه يمكن أن يعني بالتغيير، أن نتعاون جميعاً، شرقيين وغربيين، مسيحيين ومسلمين ويهود وهندوس وملحدين، على جعل الأ رض مكاناً أكثر جمالاً، والحياة أكثر إشراقاً لنا ولأولادنا وأحفادنا.. كان التصور الوحيد لما يجب على أوباما أن يفعله ليسترضينا، أن يأتي إلينا حيث نحن قابعون، في كهوف الزمن المنسي، وتحت ظلال أشجار الخرافة والجهل والوارفة والعتيقة، quot;ليبوس القدم، ويبدي الندم، على غلطته، في حق الـ....quot;، توقعنا منه أن يكون وفياً ومخلصاً لاسمه الأوسط (حسين)، وفق ما تمليه علينا مفاهيمنا نحن لموجبات حمل هذا الاسم، بأن يقنع الشعب الأمريكي بالكف عن محاربة الإرهاب، لكي يسرح ويمرح حبيبنا بن لادن كما يشاء، ويمارس غزواته المباركة في كل بقاع الأرض، دون أن يرده راد، أو يردعه رادع.. توقعنا ونتوقع منه أيضاً أن يمكننا من رقاب ومصير اليهود أحفاد القردة والخنازير، فنخلط دماءهم بمياه البحر المتوسط، ولا بأس أن نتخذ من نسائهم سبايا، نفرغ فيهن عقدنا الجنسية، ونمارس عليهن مفاهيمنا وثقافتنا البائدة.. وأن يعطي الفرصة لأحمدي نجاد ليصنع قنبلة ذرية، يهدد بها أول ما يهدد دول الخليج العربي، تماماً كما سبق وأن فعل صنديدنا صدام حسين، الذي التهم الكويت في طريقه المزعوم لتحرير القدس.. من البديهي أيضاً لو كان أوباما صادق النية في مصالحة العالم الإسلامي، وفق رؤية صفوتنا الغوغائية، أن يعترف بسيادة وقداسة حسن نصرالله، وكيل الله على أرضنا، والمفوض من قبله لتأسيس خلافة عالمية، يذبح فيها من يشاء، ويغدق العطاء على من يشاء.. ولن ننسى بالطبع، كما لا ينبغي أن ينسى أوباما أو يتناسى، أن يطلق يد البشير في أعناق الشعب السوداني، من دارفور إلى كردفان حتى الجنوب السوداني، دون مطاردة من محكمة جنائية دولية، ودون منظمات إغاثة دولية، تعكر مزاج سيادته، وهو يطهر السودان العروبي، من كل خائن يحاول رفع رأسه، أو يعلو صوته بالصراخ، مما يناله من بركات البشير وحكومته العروبية الإسلامية!!
وعندما يأتينا باراك حسين أوباما (كما نحب أن نسميه)، فيتحدث إلينا بلحن جميل وإنساني بحق، لكنه يغني ذات الكلمات، التي سبق أن قالها جورج بوش، ومن قبله سائر رؤساء أمريكا والغرب، يطرب بعضنا لوقع اللحن الجميل على آذانه، ويكز البعض على أسنانه غيظاً وإحباطاً، وقد اكتشف أن أوباما رغم لونه وأصوله، مازال متمسكاً بذات القيم الغربية، ومازال يطالبنا بما نرفض أو نعجز عن قبوله.
ما أبعد الشقة إذن بيننا وبين أوباما وكل ما يمثله، أو ما يمكن للرجل أن يفكر فيه ويهدف إليه، بحيث لا يعدو ذلك الحلم الأمريكي المتجسد والجميل بالنسبة لنا، إلا أن يكون مجرد ملحن يعزف لحناً جديداً، ليغني به ذات الكلمات التي طالما سمعناها، لكننا رأينا فيها غزواً لعقولنا، وتهديدا لكياناتنا المقدسة، فأغلقنا عقولنا وقلوبنا حيالها، وانكفأنا على أنفسنا، نعيد اجترار مونولوجنا الأزلي.. إذا كان ذلك كذلك بالفعل، فهل لنا أن نأمل من كل تلك الضوضاء حول الرجل، في أكثر من أن ينتشي البعض منا بأمل التغيير لبعض الوقت، ريثما يتضح لنا أن آمالنا في إغراق البشرية جمعاء في هاوية ماضينا السحيق لن تتحق، بل وأن أوباما ذاته وكل من حوله، لن يسمحوا لنا حتى بمجرد تركنا نغرق ولو وحدنا في وهدة تخلفنا؟
[email protected]