ننتوي في السطور التالية، أن نغامر بمقاربة حل محتمل، لمجرد تحريك حالة الركود أو التعثر أو الفشل المصري في إدارة الحياة السياسية، ومن ثم الاجتماعية والاقتصادية، بما يتماشى مع العصر وقيمه. . نقول مقاربة، لأن طموحنا لم يصل لدرجة تصور قدرتنا على اكتشاف حل سحري، ينهي بقرار أو ضغطة واحدة، كل عثرات ومعوقات قرون طويلة من التخلف والفشل.
انتهينا في مقالنا السابق، إلى أن مصر غير مرشحة لفوضى أو انفجار، فتقييم وضعها الحقيقي، يجعل تلك الفوضى أو ذلك الانفجار المزعوم، إنجازاً وحراكاً إيجابياً، مقارنة بما ترزح فيه البلاد من ركود، أو فلنقل من حراك ( سواء السلبي أو الإيجابي منه، من منظور حضارة العصر)، أضعف من أن يدفعها للخلف أو للأمام، وأضعف كثيراً من أن يصل بها إلى حالة سيولة، تكون مقدمة لإعادة تشكيل، جديرة بأن تكون محط الآمال.
نحتاج أن ننوة بداية، إلى أن الأفكار مطلقة الصحة والصالحة لكل حال وآن، هي وهم وأمنية للإنسان، منذ عرف القلق والحيرة مع الكون من حوله. . فهي توفر له الركون إلى يقين ممتع ودافئ، ويستوي الأمر إن كان هذا المطلق ميتافيزيقي، أو أيديولوجي علماني الصياغة. . نعم فالعلمانيون ليسوا محصنين من الوقوع في حبائل المقدسات، حتى لو كانت منحوتة من الصخور المادية. . ولعل ما يهمنا هنا مجرد نموذج واحد، من مثل تلك الأصنام العلمانية، المتوهم فيها إطلاقية الصحة والفاعلية. . نتحدث مفهوم quot;الديموقراطيةquot;، التي هي مجرد آلية من آليات الثقافة والبيئة الليبرالية، وإن كانت قد استخدمت لأول مرة في أثينا، من قبل أناس هم أبعد ما يكونون عن الليبرالية، فكانت النتيجة أن استخدمت كمقصلة، في يد الزعماء الديماجوجيين، وكان أن حُكم بها على سقراط بالموت. . فالديموقراطية ليست قيمة في ذاتها، وإنما هي وسيلة لتأسيس علاقات ليبرالية، يتمتع بها جميع أفراد المجتمع أو الوطن. . لكن ما حدث من تقديس للديموقراطية في حد ذاتها، واعتبارها علاج لكل داء، بمعزل عن البيئة الليبرالية، التي أثبتت الديموقراطية كفاءتها من خلالها. . جعل هذا من الديموقراطية صنماً تذبح له الذبائح البشرية، كما رأينا في حالة تطبيقها في قطاع غزة، فقد صار مليون ونصف غزاوي، لا ضحية لمنظمة حماس الإرهابية، وإنما بالفعل أضاحي على مذبح الديموقراطية!!
علينا انزال الديموقراطية إذن من على كرسي العرش، كغاية في ذاتها، لننظر إليها كمجرد وسيلة، أثبتت نجاحها في ظروف معينة، قد تتوافر لدينا، وقد لا تتوافر. . عندها سوف نركز على الغاية الحقيقية، وهي تأسيس بيئة تسودها علاقات، تتيح تفجر ملكات أفراد المجتمع، ليتمكن من النهوض للحاق بموكب الحضارة المعاصرة.
إذا كنا أمام شعب تضطرم صدوره بإرهاصات الحرية والتوق للحداثة والتغيير، لكنه محكوم بنظام سياسي استبدادي، فإن مشكلتنا تكون محصورة مع النظام، ويكون تطبيق آليات الديموقراطية هو الحل الصحيح والمباشر، وقد يترتب على هذا سلبيات مرحلية، هي ما يمكن علاجها بالمزيد من الديموقراطية، وهذا ما حدث مع شعوب أوروبا الشرقية في تسعينات القرن الماضي. . الشعب المصري أمره يختلف، فنحن أمام حالة تردي ثقافي واجتماعي واقتصادي، يمسك بخناق الجماهير، ويأسرها في مستنقعاته الموحلة. . ورغم أن هيكل وممارسات النظام السياسي الحالي يكاد يكون استبدادياً وشمولياً، رغم الرتوش التي تفشل بجدارة في تجميل وجه يستعصي على التجميل، إلا أن هذا النظام ذاته، هو نسبياً المكون الأكثر قابلية للأداء الحداثي المستنير، ونستطيع أن نلمح هذا بوضوح في مجالي السياسة الخارجية والاقتصاد، واللذين يحقق فيهما النظام نجاحات مرصودة، وإن كانت متعثرة ككل جوانب الحياة المصرية. . رغم أنه يتحرك في بيئة معاندة ومعاكسة، بفضل رسوخ الركود الثقافي والاجتماعي للشعب المصري، وبفضل التضليل والتشويش الذي تمارسه النخبة، التي تشكل مع الحكام منتجاً من إنتاج الشعب المصري.
الحقيقة المُرّة هي أن الشعب المصري فاشل بجدارة في استيعاب حضارة العصر. . ليس هذا العصر الذي هو عصر المعرفة والمعلومات فحسب، لكنه فشل في استيعاب حضارة عصر الصناعة، الذي تجاوزته الأمم المتقدمة، وتلك الساعية بجد في طريق التقدم. . من السهل هنا إلقاء اللوم كاملاً على نظم الحكم، باعتبارها المسؤول عن توجيه الشعوب، وإدارة مواردها وحياتها. . لكن من الإنصاف والتزام المنهج العلمي، أن نستدير إلى الشعوب ذاتها. . أن نتفحص طبيعة الشخصية الفردية والجمعية للشعب المصري، والتي عجزت عن عبور ثقافة الانتماء القروي الضيق، ومنهج تعاملاته وعلاقاته، إلى ثقافة فردية المدن الصناعية الكبرى، وما لابد وأن يتطلبه من وازع داخلي لدى الفرد، يدفعة لالتزام بقواعد علاقات المدينة، بما يكفل التناغم بين الأعداد الضخمة من الجماهير، في بيئة صناعية معقدة ومتشابكة المصالح والعلاقات. . ذلك التناغم الذي بدونه تتحول المدن إلى أورام سرطانية عشوائية، كما هو حادث في جميع المدن المصرية الآن، بداية من العاصمة.
يحتاج الثمانين مليوناً من المصريين، ليلتزموا بالقوانين، ولكي يؤدوا أعمالهم المدينية بجودة، لا تجعل العبارات تغرق والقطارات تتصادم والعمارات والكباري تنهار، إلى ثمانين مليون رجل بوليس. . على أن لا يكونون مصريين (نفعل هذا باستيراد حكام أجانب لمباريات كرة القدم الهامة)، وإلا لزم لهم ثمانين مليوناً آخرين، ليمارسوا الرقابة عليهم. . الوازع الداخلي المفقود، لا يمكن بأي حال زرعه في الجماهير عن طريق العقاب أو التهديد به. . هناك ثقافة وتربية وسلوكيات وعقائد مغروسة في أعماق الأفراد، تحتاج لاستبدالها بجديد مختلف تماماً. . يحتاج الوازع الداخلي المطلوب إلى جدارة شخصية، تُلزم الإنسان بأن يرتفع إلى مستوى حضاري أعلى، معضدة بتقييم داخلي للذات، يرتفع بها عن مستواها المتدني، بالإيمان بالالتزام الشخصي بقيم الصواب والخطأ، وما يليق وما لا يليق، وما يبني وما لا يبني. . يحتاج هذا إلى مقدرة نفسية واعتزاز داخلي بالذات، تجعل عموم الناس تستنكف الخطأ، وتستشعر تحقيق ذواتها في التزام الصواب، وعكس هذا السائد الآن في العقلية والسيكولوجية المصرية، حيث لا يلتزم الصواب إلا ساذج أو جبان، وحيث الفهلوة والتحايل والاحتيال قيم سائدة ومثمنة مجتمعياً.
إن من يتأمل ملياً فيما تطالعنا به الصحف عن التحقيقات في حادثة تصادم القطارين الأخيرة في العياط، يستطيع بسهولة أن يكتشف أن المجرم والمتسبب في الحادثة ليس فرداً واحداً، ليس وزيراً ولا مديراً ولا غفيراً فقط. . فنحن جميعاً (أو الآلاف في مرفق السكة الحديد على الأقل) مدانون، لإهمالهم وتواطؤهم وتخلفهم، وعجزهم عن تشغيل وصيانة الأجهزة الحديثة، والأهم فشلهم في أن يكونوا محترمين أمام أنفسهم، قبل أن يكونوا محترمين أمام الآخرين.
التغيير المستهدف مهمة صعبة ولاشك، عندما تكون الجماهير صفحة بيضاء، تنتظر من يسطر عليها. . أما إذا كانت الجماهير تحتاج أولاًً، إلى تطهيرها من ثقافة وعادات وتقاليد وقيم وسلوكيات، كلها مضادة تماماً للحضارة في مرحلتها الراهنة، بل وقطاع لا يستهان به منها، مدرج لدى الشعب في عداد المقدسات، فإن مهمتنا هنا تقترب من المستحيلات.
المطلوب والحالة هذه، لكي نحرز ولو تقدماً يسيراً. . ليس أن نغير شخوص الحكام، ولا حتى أن نبدأ بتغيير نظام الحكم والدستور والقوانين، فرغم أهمية كل هذا، إلا أنه لو تم بمعزل عن التطور الطبيعي على الساحة الجماهيرية، فلن يكون أكثر من quot;حبر على ورقquot;، كما هو حادث جزئياً الآن. . يبدو الأمر كأننا ندور حول أنفسنا. . فالساحة أيضاً لن تتمكن من التطور، في ظل دستور وقوانين شمولية وعتيقة، وكأننا أمام سؤال: quot;أيهما أسبق، الفرخة أم البيضة؟quot;. . العملية صعبة وطويلة، يترافق ويتوازى فيها تطور الثقافة والقيم العلاقات الشعبية، مع تطور الدستور والقوانين، لتواكب وتدفع بدورها التطور في المستوى التحتي. . هي دائرة تكاملية مغلقة.
المشكلة أن كل من يبحثون عن حل، يريدونه حلاً ثورياً فورياً، كما يريدونه شاملاً جامعاً مانعاً!!
هذا النوع الأمنية من الحلول، جربناه على يد القائد الملهم، أو المستبد العادل، الذي كان قد أعلن أنه قد quot;دقت ساعة العمل الثوريquot;!!. . ولم يثمر عمله الثوري غير التدهور في جميع المجالات، ما نحن متحيرون الآن في كيفية علاجه. . ليس أمامنا الآن إلا أن نقبل بالمعالجة العلمية والجذرية لمشاكلنا. . معالجة تستهدف إعادة تأهيل شعب كامل، لكي ينتج حكاماً ومعارضين مختلفين، يؤسسون له علاقات ونظم حكم جيدة وعصرية، تساعده على المزيد من التأهل والتطور.
الحقيقة أننا هكذا ندور مرة ثانية حول أنفسنا. . فالشعب لن يؤهل نفسه بنفسه. . هو يحتاج إلى حكام وصفوة تقوده في طريق الحداثة والليبرالية. . الموجودون بمصر حالياً، سواء في الحكم أو في صفوف النخب المختلفة، ثمارهم ما نرزح فيه الآن، ولا نكاد نرى منهم جميعاً، ما يوحي بإمكانية الثقة فيهم، بأنهم يمكن أن يصلوا بنا، ولو بعد ألف عام، إلى أي شط نستطيع أن نرسو عليه!!
يبقى أمامنا بصيص من أمل، في تحريك الوضع ولو قليلاً، في محاولة اللجوء إلى نظام حكم الأوليجاركية Oligarchy، وفيه تقوم نخبة متآلفة بالإمساك بمقاليد الأمور بيد من حديد، فإذا ما توفرت نخبة مصرية مستنيرة، تستمد شرعيتها من انبثاقها أو تماهيها مع نظام الحكم القائم، وبمساندة القوات المسلحة . . وبتعضيد ومساندة من المجتمع الدولي ومنظماته، بما يدفع للأمام قضية التنمية بمفهومها الشامل، فيساعد الشعب على تطوير نظام التعليم، الذي هو نقطة الضعف الأساسية في مصر. . وتحديث سائر مؤسسات المجتمع، وتقوية المجتمع المدني عبر المنظمات الأهلية، في هذه الحالة يمكن أن يتمكن الحكم الأوليجاركي من تحقيق بعض التقدم في تحديث المجتمع، وتهيئته لتفشي الليبرالية والانفتاح على العالم، بما يسمح في المستقبل باستخدام الآليات الليبرالية، وعلى رأسها الديموقراطية، لوضع المجتمع على بداية طريق تأسيس مجتمع حداثي حقيقي.
هنا نعود ثالثة للدوران حول الذات، فمن أين لنا مثل هذه النخبة الليبرالية، القادرة على إدارة حكم أوليجاركي مستنير، وبشرط وصولها إلى التوافق مع السلطة والشرعية الدستورية والقانونية، أو أن تكون هي وليدة النظام القائم، وليست مقحمة عليه؟
هذا أمر جدير بالبحث الجاد. . أمامنا في مصر مجموعة لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، ويمكن تنقيتها (أو تطهيرها) من العناصر التي لا تصلح لهذه المهمة (أو لأي مهمة)، كما يمكن تدعيمها بعناصر وطنية ليبرالية مشهود لها، سواء من الداخل أو المهجر. . وإن نجحت هذه المجموعة في التشكل لتصبح كياناً مستقلاً، مؤهلاً للقيام بتلك المهمة المقدسة، خاصة إذا نحّت مسألة توريث الجمهورية جانباً، ولا مانع عندها من بقاء الوريث بين صفوفها، ليساهم جميع أفرادها كرجل واحد، في نقل الشعب المصري إلى ثقافة وقيم ونظم وحضارة الألفية الثالثة، فإننا نكون عندها أمام قيادة تاريخية بحق، وليست بالطبع كتلك القيادات التاريخية التي عرفها العالم الثالث، وخرج بها من التاريخ، بدلاً من أن يدخله!!
علينا أن نقر أنه مما يخفض سقف الآمال في أداء مثل هذه الأوليجاركية، المعتبرة امتداداً عضوياً للنظم السياسي الحالي، صعوبة النأي بها عن وراثة آفة الفساد المستشري حالياً، والتي لا يمكن استئصالها بسهولة، خاصة مع غياب رقابة شعبية حقيقية، وهو ما لا مفر من أن يكون أحد معالم الحكم الأوليجاركي. . كما يثور التساؤل عن مدى الإخلاص والحزم، الذي من المتوقع أن تلتزم به هذه النخبة، أخذاً في الاعتبار أيضاً انبثاقها عن نظام أدمن التلاعب والتلون، والتظاهر بالتحرك في اتجاه، والتحرك فعلياً في الاتجاه المضاد، كما اعتاد مسايرة تيارات الأصولية الإسلامية، بل والمزايدة عليها.
فوق كل هذه العقبات والمحاذير العملية في تحقيق هذا التصور، هناك أيضاً العقبات الدستورية والقانونية، فالأمر بالفعل بمثابة انقلاب على النظام الجمهوري، إلى نظام أشبه بالنظم الشمولية المنهارة أو المنقرضة. . الواقع سيئ ومعقد بما يكفي لأن يحجم أي عاقل عن المغامرة بطرح رأي، متصوراً له ولو الحد الأدنى من اليقين، لذا نكتفي في النهاية بالأمل في أن نكون قد لفتنا النظر، إلى أن التغيير المطلوب لمصر، هو بالدرجة الأولى تغيير البيئة الثقافية والاجتماعية. . تغيير الإنسان المصري، أكثر منه تغيير الحكام ونظم الحكم، رغم الارتباط العضوي بين هذا وذاك.
مصر- الإسكندرية
التعليقات