إلى أين تتجه مصر؟.. سؤال دأب كثيرون هذه الأيام بالذات على ترديده، وأكثر الإجابات عليه إثارة، هي ما يتصوره أو يدعيه البعض، أن مصر تنزلق نحو مرحلة خطرة تنذر بانفجار مدوٍ، قد يفضى إلى فوضى شاملة.. أو بتعبير كاهن الناصرية، أننا مقبلون على quot;فوضى سوداءquot;.. في المقابل هناك منتسبو بلاط السلطة، الذين يعلنون، سواء عن قناعة، أو من قبيل أداء المهمة المطلوبين لأجلها، أن مصر تسير حثيثاً في طريق التقدم، وأنها بسبيلها لمعالجة كافة مشاكلها، وفق ما يسمح به الواقع والإمكانيات.. والأغلب أننا لن نجد بين هؤلاء وأولئك، من يتنطعون برفع الراية الشهيرة، والتي تعلن أنه quot;ليس بالإمكان أفضل مما هو كائنquot;، أو أننا quot;نعيش عصراً ذهبياًquot;.. هذا في حد ذاته يدل على أن الأوضاع الحالية في مصر أبعد من أن تكون مريحة، أو جالبة للرضى.
قبل أن نقفز بتسرع لنتساءل: ما هو الحل؟، علينا أن نجيد تحديد وتوصيف وضعنا الحالي، بمنأى عن قطبي التهويلات والتهوينات، فالمتابعة لخطاب وشخوص من يبشرون بانفجار قادم، كفيلة بإظهار أن المحذرين أو المهددين، منفصلون تماماً عن نبض الشارع المصري وأحواله، بل هم أيضاً غير متتبعين مثلاً، لما يجري من إصلاحات (ولو جزئية) في الاقتصاد المصري، بل وبعضهم معاد للإيجابيات (ولو المحدودة) للسياسة الخارجية المصرية، وهذا ما سوف نحاول تفصيله فيما يلي من سطور، لكن ما يجمع فرقاء الساحة المصرية ممن هم خارج مؤسسات السلطة، هو جهلهم أو تجاهلهم لنتائج الأداء الحكومي في المرحلة الراهنة، والنظر إلى وضع القاعدة الجماهيرية، من خلال منظور نظري مفارق، وإن تعدد ذلك المنظور، بتعدد انتماءات هؤلاء الفكرية.
إذا بدأنا بمن يمكن تصنيفهم بالليبراليين، سنجد أن قلقهم (الذي نشاركهم فيه) ينبع من سعيهم لتحديث مصر، وتأهيلها للالتحاق بالعصر وبموكب الحضارة الإنسانية قبل فوات الأوان، هذا ما لم يكن الأوان قد فات بالفعل، وليس أمامنا إلا أن نجرجر أذيالنا، في موكب المتسولين والمتطفلين على الحضارة والمتحضرين.. ورغم نبل ما يسعى، أو بالأصح يتطلع إليه هؤلاء (فالليبراليون المصريون لم يسعوا يوماً سعياً جدياً، يليق بما يحملون من مبادئ ورؤى)، وجدية وخطورة ما يتخوفون منه، وهو سقوط مصر من عربة الزمن، إلا أن الأمر يظل هواجس نخبة، ومفارق تماماً لفكر وانشغالات الجماهير، التي قد يخنقها ضيق العيش، لكنها الأبعد وربما معادية ورافضة، لما يسمى قيم الحرية والحداثة والعلمانية وما شابه، وإن كان من الممكن أن تقبلها، إذا ما تم تأهيلها بمنهج علمي وإرادة صلبة، ومحددة الرؤية والتوجه، أو على الأقل هذا ما نأمله.. لكن هذا الاستعداد المفترض في الجماهير، لا يمكن أن يعني مساندتها لهؤلاء الليبراليين، أو أنها مؤرقة إلى ما قرب الانفجار، بما يؤرق أصحاب الرؤى الحداثية.
لدينا بالساحة أيضاً التيار الإسلامي، المؤرق بدخول الجنة، أو الذي يدعي إمكانية إصلاح الدنيا بالدين، وإذا ما تتبعت مقولات واهتمامات نشطائه، ستجدها سجينة قضبان الكبت والهوس الجنسي، وتنحصر في تكفين المرأة حية، واستباحة الذكور لها، بتحويلها إلى جسد للمتعة، متاح للقادر مالياً، بأنواع شتى من الارتباطات، المختلف أو المتفق على شرعيتها.. بالإضافة طبعاً لتحريم الفنون والفكر وما شابه.. هذه القضايا أيضاً لا تشغل الجماهير، ولا يتراكم لديها ضيق منها، ليصل يوماً إلى درجة الانفجار الأسود أو الأحمر.. لقد استجاب الشعب المصري المؤمن التقي ببساطة، لتهديد ووعيد الإخوان المسلمين للسافرات المتبرجات، بأن ارتدت النساء الحجاب والخمار والنقاب، مع بقاء السلوك اليومي، بل والنظرة للحياة، كما هي دون تغيير يذكر.. وكما احترف وتفنن المصري منذ الأزل، التحايل والالتفاف على أوامر الحاكم ونواهيه، نجد أن الحجاب لم يقف عائقاً أمام من تريد من الشابات إبراز مفاتن جسدها، بل تخلصت به من عبء وتكاليف تصفيف الشعر، وارتدت معه من الملابس، ما يبرز مواهب ومفاتن الأجساد الشابة، بطريقة لم تكن متاحة من قبل، في عصور الليبرالية والسفور الغابرة!!
إذا انتقلنا إلى الصفوة القومجية والناصرية واليسارية، فسنجد أنهم الأكثر انعزالاً ومفارقة لهموم الجماهير، رغم أنهم الأبرع في الخطابة باسم الشعب العامل والطبقات الكادحة وما شابه من اصطلاحات.. بل أن ما يؤرقهم، علاوة بالطبع على الرغبة الملحة في القفز على السلطة (وليس تبادلها كما يقولون)، هو أنهم غاضبون وناقمون على سياسات للنظام، هي بالتحديد ما يصب في صالح الشعب المصري.. هم ناقمون على معاهدة السلام مع إسرائيل، ويريدون تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر، ويشجعون المنظمات الإرهابية، ويصرون معها على ما تسميه خيار المقاومة، ما لابد وأن يضعنا في مواجهة عسكرية مع إسرائيل، ومن هم وراء إسرائيل (على حد تعبير الخطاب الناصري).. هذه الأهداف الرائعة كلها، ليس لدى الشعب المصري مانع من تحقيقها، لكنه لم يعد بأي حال مستعداً لدفع ثمنها، وهو يقبّل وجهي يديه صباحاً ومساء، أن حمته سياسة مبارك من الوقوع ضحية لها، وهو ليس من البلاهة ليذهب في تأييدهم لأكثر من ترديد مقولاتهم على المقاهي، وأمام صالونات الحلاقة، قطعاً للوقت وجلباً للتسلية وادعاء الثقافة.
تنقم جوقة اليساريين بمختلف ألوانها أيضاً على ما يعرف بالخصخصة، فهم مصرون لأسباب مجهولة، على التشبث بنظم اقتصادية أثبتت فشلها بجدارة، وتخلى عنها إلى غير رجعة، كل من كان مصدّراً ومروجاً لها.. والطريف أن نجد أبناء أشد المدافعين عن القطاع العام، يعملون في شركات أجنبية، وليس حتى في شركات استثمارية مصرية.. المذهل أن دماء الحياء قد غاضت من وجوه أشاوس اليسار، وإلا لسال الدم من أجسادهم بدلاً من العرق، وهم ينبحون ضد اتفاقية الكويز، فيما يخرج عمال أكثر من مصنع، في أكثر من مدينة مصرية، مطالبين بإدراج مصانعهم، ضمن المصانع التي تؤهل للمشاركة في التصدير طبقاً لهذه الاتفاقية.. كيف إذن تتضامن وتساند الجماهير، من يتحدثون باسمها، ليتخذوا منها ذبيحة على مذابح ايديولوجياتهم البائدة؟!!
يعرف القاصي والداني، أن الجماهير المصرية لا تثور، وإن ثارت ففي هبات قصيرة أو مقطوعة النفس، وأن هذا لا يحدث إلا لطارئ يضيّق عليها العيش، مثلما حدث في يناير عام 1977.. كما نعرف وإن كابر البعض، أن سبل العيش لعامة الشعب في وقتنا هذا، إن لم تكن الأجود في تاريخ مصر الحديث، فإنها على الأقل ليست الأكثر سوءاً، وعلى من يريد صادقاً التأكد من ذلك، أن ينزل إلى الأسواق، ويراقب أحوال الناس من الأرض، وليس من أبراج الأيديولوجيا!!
الخلاصة أن قضية تبادل السلطة، أو قضية التوريث القادم (رغماً عن أنوفنا جميعاً).. مثلها مثل قضايا الحرية والديموقراطية والحداثة، كلها همَّ نخبة، ولم ولن تكون في المستقبل المنظور همّاً شعبياً!!
إذا كان الحال بالفعل هكذا، من انفصال تام وبات للنخبة بكل أطيافها عن جماهير الشعب، فكيف يتأتى ما يحلمون به من quot;انفجارquot; أو quot;فوضى سوداءquot; أو تركواز؟!!
لقد طرح عنوان هذا المقال سؤالاً، لم نحاول حتى الآن الإجابة عليه، وهو: إلى أين تتجه مصر؟
أزعم يا سادة أن مصر في حدود الأوضاع الحالية، لن تتجه إلى أي مكان.. ستظل تراوح مكانها، غير قادرة على مبارحته إلى أي اتجاه.. لن تتجه بالتأكيد إلى الأمام، فما يبذل فيها من جهود لدفعها نحو التقدم والحداثة، لا يكفي للتغلب على قوى وعوامل التخلف المتغلغلة فيها، ولا يكفي أيضاً لتأهيلها للالتحاق ولو بمؤخرة قطار الحضارة.
ولن تتقهقر للخلف، إلى حيث يريد لها السلفيون العلمانيون والدينيون على حد سواء.. فتوفير مقومات الحياة لثمانين مليوناً من البشر، يفتقدون لدخول ريعية، ويعتمدون أساسياً للبقاء على قيد الحياة على العمل المنتج، في عالم مرتبط عضوياً ببعضه البعض.. لا يتيح لنا رفاهية السقوط من حالق، إلى هاوية التخلف، كما سقط الشعب الإيراني، معتمداً على ثروته البترولية، أو كما فعل الغزاويون، الذين يعيشون في جميع الحالات على التسول والابتزاز!!
اطمئنوا يا سادة.. لن نذهب إلى الفوضى، ولن يحدث بمصر انفجار، وسنظل نضرب في أوحال مستنقعات تخلفنا، لكن إلى متى يمكن أن يظل حالنا على ما هو عليه؟.. هذا هو السؤال!!!
لكن هذا الوضع الورطة لا يمنعنا من المجازفة في مقال قادم، باقتراف quot;مقاربة لمصر المستقبلquot;، حتى لو كان محكوم عليها، بألا تتعدى أن تكون ضوضاء مضافة، لجدل الطرشان الدائر بمصر حالياً.
مصر- الإسكندرية
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات