تورد المصادر الشيعية التقليدية الكثير من صور المحاججة بين الامام الحسن بن عليه عليه السلام ومعاوية بن أبي سفيان، وبعض من الامويين، ومن الطبيعي أن تنتهي هذه المحاججات بانتصار بيان الحسن وخطابه ودليله وبرهانه، لأن الحسن في العرف العقدي الشيعي معصوم، وربما يعلم كل في هذا الوجود، بل ما كان وما هو كائن وما سيكون على بعض الروايات بل على بعض الاعتقادات السائدة والتي ربما يتحمل ثقلها علماء كبار في فن علم الكلا م والعقائد والنحل والملل.
هذه المحججات نجدها في أكثر من مصدر شيعي، منها كتاب (الاحتجاج) المنسوب للطبرسي، ومنها كتاب (كشف الغمة) للأردبيلي، ومنها كتاب (شرح النهج) لابن ابي حديد، ومنها كتاب (المناقب) لابن شهراشوب، ومنها كتاب (الخرائج والجرائح) للراوندي، ومنها كتاب (أمالي ابن الشيخ الطوسي)، وقد جمعها المحدث الشيعي الكبير المجلسي () في كتابه الموسوعي المسمّى (بحار الانوار)، الجزء رقم (44) باب (20) من الطبعة الحديثة، ثم جمعها من بعده بطريقة أخرى، أكثر نظما وترتيبا المحدِّث الشيعي المعروف الشيخ عبد الله البحراني الاصفهاني في كتابه الموسوعي (عوالم العلوم والمعارف والاحوال)، وهو الجزء التاسع من الطبعة الحديثة المنقحة، طبع مدرسة الامام المهدي في قم المقدسة.
يقول الشيخ الرجالي الكبير محسن آصف عن روايات الجزء (44) من كتاب بحار الأنوار، باب (20) ما نصّه: (فيه مطالب كثيرة محرِّقة لقلوب المؤمنين، وهي مشتهرة بين الشيعة في الجملة، بتاثير هذا الكتاب في نفوسهم، لكن ليس فيها أسانيد معتبرة، فالله تعالى العالم بصحّتها من موضوعها...) 1 / مشرعة بحار الانوار 2 ص 148، طبع مكتبة الغري قم سنة 1381 شمسي /
لم تورد المصادر الشيعية هذه محاججات الحسن مع معاوية وحسب، بل تورد مفاخرات الحسن في مجالس معاوية، كذلك خطب الحسن بحضور معاوية، ذلك ما نظّمه ورتبّه بشكل جيد البحراني المشا ر اليه سابقا.
المحاججات / المناظرات / المفاخرات
مناظرة أولى: يرويها كتاب (الاحتجاج) وصاحب الاحتجاج هو (أبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي، من علماء القرن السادس، وهي رواية طويلة جدا تبدا بقوله: (روِي عن الشعبي وأبي مخنف ويزيد بن أبي حبيب المصري...) ويسرد الرواية بطولها الطويل، ومن المعلوم أن هذا السند مقطوع، وبالتالي، يكون محل نظر، خا صة وإن الطبرسي تفرّد بها، فأبو مخنف توفي سنة (157) هجرية، ويزيد بن أبي حبيب توفي سنة (128)، والشعبي توفي سنة (84) للهجرة، فالمسافة الزمنية بين مصدر الروا ية المزعومة ووفاة الطبرسي طويلة، وتتخللها أكثر من واسطة!
تبدا الرواية بالقول: (روُي عن الشعبي... إنّهم قالوا: لم يكن في الاسلام يوم في مشاجرة قوم اجتمعوا في محفل، أكثر ضجيجا ولا أعلى كلاما ولا أشد مبالقة في قول، من يوم اجتمع فيه عند معاوية بن ابي سفيان عمرو بن عثمان، وعمرو بن العاص، وعتبة بن أبي سفيان، والوليد بن عقبة بن ابي معيط، والمغيرة بن شعبة، وقد تواطؤا على أمر وا حد...)، ثم تتحدث الرواية عن هذا الامر با لتفصيل، والأمر هو شخصية علي بن أبي طالب ودوره، التخريبي العدواني الشرس مع النبي والصحابة وعموم المسلمين، والحسن يجيب عن التهم الساذجة بعنف وشراسة، بعد أن أُستدعى للاجتماع بهم، والرواية حشد من الاتهامات والسباب المتبادل بين الحسن وهذه الجماعة، فعلى سبيل المثال يقول عمرو بن العاص للحسن: (... أي ابن أبي تراب بعثنا إليك لنقررك أن أباك سمّ أبا بكر الصديق، واشترك في قتل عمر الفاروق، وقتل عثمان ذي النورين مظلوما، وادعى ما ليس له حق، ووقع فيه...)، وكل ما تلفظ به أي واحد من هذه الجماعة كان عبارة عن هجوم قاذع على علي بن أبي طالب، منها، أن عليا هو الذي سفك دماء قريش، ومنها أن عليا ناصب النبي، وحاول قتله!
ترى هل يُعقَل مثل هذا الكلام؟
وكان جواب الحسن بيانا طويلا عن فضائل أبيه، في الحرب والسلم، قبل الاسلام وبعد ا لا سلام، بعنف وشراسة وأحيانا كثيرة بعيدة عن أصول الحوار، ومباديء الخلق الكريم،
إن قراءة دقيقة لتضاعيف المحاججة تكشف عن منهج فني مدروس، يهدف إلى بث فكر معين، وتثبيت حق معين، وتزييف مقا مات معينة، فَصِيغت على شكل منا ظرة مُفتعلة على ألسنة قوم لهم علاقة غير مبا شرة بالخلفاء الراشدين! والهدف المركزي هو حق علي بالخلافة ومظلوميته بين قومه، وانحراف غيره عن الجادة الرشيدة!
هناك راوية داخل رواية، الامر الذي يعقِّد الامر أكثر، ولكن ما هي قيمة كتاب (الاحتجاج) هذا؟
يتحدث المؤلف عن منهجه في الكتابة فيقول: (... ولا نأتي في أكثر ما نورده من الأخبار باسناده: إمّا لوجودا لإجماع عليه أو لموافقته لما دلَّت العقول إليه، أو لإشهاره في السير والكتب بين المخالف والمؤالف، إلاّ ما أوردته عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام، فإنّه ليس في الإشتهار على حدّ سواه، وإن كان مشتملا على مثل ا لذي قدّمناه...) 2 / الاحتجاج، الطبرسي، المقدمة ص 14، طبع سعيد، سنة 1981، قم /
ولكن معايير المؤلف في الرواية لا تصمد للنقد، فإنّه لم يثبت أن كل رواياته متوافقة مع المخالف، هذا محض خيال، بل حتى مع المؤالف، وأما معيار التوا فق مع العقل، فهذا معيار مرتبك، إذ لم نفهم مراده من العقل، هل هو العقل الذي يقول به الفلاسفة وعلماء الكلام، أم هو العقل الذي قوامه معلوماته ومخزوناته؟ ولكن لنفترض أنَّ هذه الراوية أو تلك تتفق مع معياره المذكور، فأي دلالة لذلك على أنَّها صدرت حقا عن مصدرها المزعوم؟ أما معيار الشهرة فالذي اعتقده أن الشهرة هنا هي الوضوح والبيان وليس الشهرة بالمعنى الاصولي المتاخر والذي ينقسم الى شهرة فتوائية وعملية وروائية حتى بالفحوى والمعنى، وهو معيار ضعيف كما هو واضح.
أن روايات صاحب الاحتجاج مدرجة تحت خانة المراسيل، سوى ما إدعاه من شذوذ روايته عن الحسن العسكري، وفي هذا نقاش ايضا ليس محله الآن.
أن لغة المناظرة بما احتشدت به من سباب وفحش واخبار فجة تكفي لوحدها بالحكم على وضع المناظرة لا غرض خبيثة.
مناظرة ثانية: (روى أبو جعفر محمّد بن حبيب في أماليه عن ابن عباس قال: دخل الحسن بن علي عليه السلام على معاوية بعد عام الجماعة، وهو في مجلس ضيِّق فجلس عند رجليه...) وتستمر الرواية لتخبرنا عن سجال سريع بين الرجلين ينتهي بمكرمة مالية كبيرة يتبرع بها معاوية الى الحسن! ويبدو أن المقصود من الرو اية هو ذيلها، فإن يزيد يقول لأبيه فيما يخرج الحسن بهديته: (... تالله ما رأيت رجلا استقبلك بما استقبلك به، ثم أمرت له بثلاث مائة ألف)، فيجيب معاوية: (يا بنيَّ الحق حقهم، فمن أتاك منهم فاحثُّ له) 3/ عوالم العوالم ص 218 / ويختصرها لنا صاحب البحار بشكل جيد بقوله: (وذكروا أن الحسن بن علي دخل على معاوية يوما فجلس عند رجله وهو مضطجع فقال له: يا ابا محمّد ألا أُعجبك من عائشة تزعم أنِّي لستُ للخلافة أهلا؟ فقال الحسن: وأعجب من هذا جلوسي عند رجلك،وأنت نائم، فاستحيا معاوية واستوى قاعدا واستعذره) 4/ المصدر ص 105 /
الرواية تريد بيان ما يملتكه الحسن من بداهة سريعة، وفي نفس الوقت في معرض الاسائة ا لفنية لمعاوية بن ابي سفيان متمثلة بتكبّره وعجرفته.
الرواية بهذا السند في نهج البلاغة، فهي إذن مرسلة، كذلك في كتاب (كشف الغمّة) مرسلة أيضا.
مناظرة ثالثة: يرويها صاحب منا قب آل أبي طالب (اسماعيل بن أبان ـ اسماعيل بن أبان الأزدي أبو اسحق ـ باسناده عن الحسن بن علي عليه السلام أنه مرّ في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحلقة فيها قوم من بني أمية، فتغامزوا به...) 5/ المصدر جزء 4 ص 10 تحقيق يوسف البقاعي / وتستمر الرواية تبين احتجاج الحسن على هذا الغمز المقصود، فيقول لهم: (... أما والله لا تملكون يوما إلا ملكنا يومين... وإنّا لنأكل في سلطانكم ونشرب ونلبس ونركب وننكح، وأنتم لا تركبون في سلطاننا ولا تشربون ولا تأكلون ولا تنكحون، فقال له رجل: فكيف يكون ذلك يا أبا محمّد وانتم أجود الناس وأرأفهم وأرحمهم تأ منون في سلطان القوم، ولا يأ منون في سلطانكم، فقال: لانّهم عادونا بكيد الشيطان، وهو ضعيف، وعاديناهم بكيد الله، وكيد الله شديد) 6 / نفسه /
الرواية مرسلة!
الحوار ساذج وهابط ولا يليق بإمام مثل الحسن كان ممثلا لأبيه، وقائدا لجيوش كانت تتهيأ لخوض حرب ضروس مع معاوية ابن أبي سفيان.
مناظرة رابعة: يرويها صاحب كتاب (كشف الغمّة) مرسلة (لما خرج حوثرة الأسدي على معاوية، وجّه معاوية إلى الحسن عليه السلام يساله أن يكون هو المتولي لقتاله، فقال: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين،وما أحسب ذلك يسعني أن أقاتل عنك قوما أنت والله أولى بقتالي منهم) 7 / نقلا عن العوالم ص 220 /
الرواية مرسلة كما قلت، وتلمِّح إلى تبرير صلح الامام الحسن بطريقة فنية دقيقة بارعة.
مفاخرة أولى: يرويها ابن شهراشوب في مناقبه: (... وتفاخرت قريش والحسن بن علي حاضر لا ينطق، فقال معاوية: يا أبا محمّد ما لك لا تنطق؟ فوالله ما أنت بمشوب الحسب، ولا بكليل اللسان، قال الحسن: ما ذكروا فضيلة الاُولي محضها ولبابها...)8 المصدر ص 25 /
الرواية مرسلة!
مفاخرة ثانية: يرويها المصدر السالف، وهي رواية مرسلة كسابقتها، تتحدث عن مفاخرة بين الحسن ومعاوية، وفيها يقول الحسن لمعاوية: (... أعليَّ تفتخر يا معاوية)؟ ومادة الفخر المعاوي كانت نسبا وحسبا وقوة وسلطانا، فيما هي في لغة الحسن دين وطاعة وتقوى!
القصد واضح!
مفاخرة ثالثة: يرويها المصدر السابق، وفيها ينتصر الحسن لنفسه تجاه هجوم قاذع يشنه عليه معاوية وجاها! ويختم الحسن رده على ذلك بقوله: (... وحاشا لله أن أقول: أنا خير منك، فلا خير فيك، ولكنّ الله برأ ني من الرذائل كما برأك من الفضائل) 9 ص 26 /
الرواية مرسلة ولغتها سوقية.
مفاخرة رابعة: يرويها صاحب الخرائج والجرائح، وفيها يخطب الحسن مبينا فضائله النسبية والدينية، مما يتسبب في إغاضة معاوية، وقد كان أحد شبان بني امية حاضرا هذا الخطاب، فأغلظ للحسن، الأمر الذي دفع الحسن للدعاء عليه، فحوّله إلى أنثى...).
الرواية في جميع مصادرها مرسلة، بما في ذلك كتاب (تحف العقول...)!
وتروي المصادر أكثر من خطبة للامام الحسن بحضرة معاوية واحيانا جمع من بني امية، يتحدث بها الحسن عن فضائل بني هاشم، خاصة أبيه عليه السلام، ولكن كل هذه الخطب مشكوك بها سندا، وأحيانا متنا!
في خطبة نقرا: (... وجدُّك حرب وجدِّي رسول الله، وأمك هند وأمّي فاطمة، وجدتي خديجة وجدتك نثيلة، فلعن الله ألأمنا حسبا، وأقدمنا كفرا، وأ خلمنا ذكرا...) 10 / العوالم ص 227 /
الغريب في هذه الاحتجاجات والمفاخرات والخطب مليئة بالمفردات البذيئة، و العبارات المنقصة ا لشائنة، وهي تسيء الى كل من معاوية والحسن عليه السلام، وهي للاسف الشديد مادة غنية لبعض قرّاء المنبر يستدرون بها عواطف النا س، ومن ثم لملأ جيوبهم.
ملاحظة: الموضوع فصل من كتاب بعنوان (نقد أ خبار الامام الحسن بن علي)
التعليقات