تستولي ظاهرة المناسبات الدينية بشكل مثير على الحياة الاجتماعية العراقية بشكل عام، خاصة ذات التوجه الشيعي، فمن النادر أن يمر شهر على العراق من دون احتفالية دينية طقوسية هنا او هناك، بمناسبة ولادة أو وفاة أو حدث تاريخي ذي علاقة بالشأن الديني، حيث تٌعطَّل الاسواق أو بعضها، وتقام الشعائر، وتنصب الموائد، وتنتشر مواكب العزاء او الافراح، مصحوبة بدق الطبول، و ضرب السلاسل، وتتسربل الشوراع بالسواد، وتنصب الاعلام، وتسيَّر ربما حتى بعض ممتلكات الدولة والمال العام لخدمة القائمين بالاحتفاليات هذه، بل ربما نجد هذه الدائرة الرسمية أو تلك تعلن عن مشاركتها بالعزاء أو الفرح، وتتزاحم الخطابات في المساجد والحسينيات والشوارع، فيما قد لا يبعد مسجد عن آخر أكثر من مئة متر، أو مكان احتفائي عن نظيره أكثر من كليومتر واحد، وفي بعض هذه المناسبات يتجهز المئات بل الالوف من المعزين أو المبتهجين ليقطعوا مسافات طويلة، قد تمتد لأيام صوب صاحب الذكرى، وفي الطريق تنتشر سيارات الاسعاف و الاستغاثة، ومراكز توزيع الاطعمة والاشربة، وفي خضم هذه الحركة المدهشة ينتصب عقدة الوصل، وبوصلة الجيشان هذا، أي الروزخون أو الخطيب أو العالم الديني أو الرداود، يتسيَّد المشهد كله، حتى لو كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، فيما تذهب أصوات المعترضين سدى، فيما لو طا لبوا ـ مثلا ــ بخفض أصوات الميكرفون لان هناك مريضا ما، يعاني من اضطراب عصبي، وأن الصوت المرتفع يزيد من اضطرابه هذا!
هذه المناسبات قد يتم التحضير لها لأكثر من شهرين، وربما تستمر منذ الشروع بها لاكثر من شهرين فيما بعد، وهناك بطبيعة الحال من يشجع على هذه الظاهرة بقوة، ويدافع عنها نقليا وعقليا! ويتهم أي محاولة لتقنينها وتنيظمها بشكل صحيح وايجابي يحول دون اهدار الوقت والمال، بأنها خروج عن الدين والملة، وأن اصحابها جاءوا من الخارج ليحرفوا مسيرة الناس عن هدي الفطرة، وربما يخططون لإمحاء ذكرى (أبي عبد الله الحسين)، وفيما يترك الطلاب مدارسهم، ويهجر الموظفون دوائرهم، وتخلو البيوت من أهلها، وتضطرب دوائر الدولة، وتدخل وزارة الدفاع والداخلية والصحة في انذار شديد، هناك ثلة من الأذكياء يكدسون المال فوق المال، ويؤسسون للجاه والقوة والسلطة والحضور الاجتماعي الفاعل والمؤثر، عبر هذه المناسبات الدينية، فإذ كان نصيب بعض هذه الاسواق الطعل والكساد، فإن نصيب اسواق اخرى الكسب والثراء في هذه المناسبات!
لقد تحولت المناسبات الدينية إلى مناسبات تدمير وتخريب، سواء عن قصد أو غير قصد، خا صة في المجال التعليمي، حيث (يتمتع) الطالب العراقي بموجبها عشرات العطل! الامر الذي يساهم فعلا في نخر العقل العراقي، ومن ثم الجسم العراقي كله، فما الذي يبقى للعراق والطالب العراقي يتمتع بعشرات العطل السنوية! فضلا عن عطلة يومي الجمعة والسبت ؟!
أن هذه الظاهرة سوف تسبب دمار هذا البلد، بل هي تساهم في ذلك فعلا، وليس سرا أن مراجع الدين الكرام لا يرتضون هذه الظاهرة البدائية المهلكة، وقد نوهت المجامع الدينية الورعة كثيرا إلى تبعاتها المدمة، خاصة على صعيد تعطيل الحياة المدينية والحكومية والفكرية و العقلية.
كم هو مؤسف حقا، فيما لو تمت قراءة أسباب تراجع المستوى الدراسي للطالب العراقي في المستقبل، ويقول الباحثون بعد ذلك، ان من أسباب ذلك كثرة العطل، ونحن نعلم أن المقصود هنا هو العطل الدينية بشكل واضح!
الغريب أن هذه العطل ليس لها سند رسمي، ولا قانوني، ولكن رغم ذلك لها من الحضور أكثر من العطل الرسمية فعلا، مما يعني أن وراءها مافيات مدمرة، فضلا عن الجهل الفاضح بمعنى المناسبة الدينية، فبدلا من أن تكون من أ سباب النشاط والانتاج تحولت إلى عبيء اقتصادي وسياسي على الدولة والمجتمع!
الحكومة تلزم الصمت للاسف الشديد أزاء هذه الظاهرة الماساوية، خوفا من اتهامها بمعاداة الدين، أكثر من ذلك، أنها تتهيا بكل طا قتها لرعاية هذه الظاهرة، مما يعني هي الاخرى تساهم في تكريسها وتعميم مأسا تها وفواجعها، ولأغراض سياسية لا أكثر ولا اقل.
إنَّ الحكومة العراقية مدعوة لاتخاذ اقسى العقوبات تجاه المروجين لهذه الثقافة المستهلكة، الثقافة البائسة، والحكومة التي تريد حقا خدمة شعبها لا تخاف في الله لومة لائم، خاصة إذا كانت تلهج عبر صناع قرارها السياسي والاقتصادي بالقيم الدينية والاخلاقية!
إن الحكومة العراقية العراقية مدعوة لمعالجة مشكلة الاحتفالات بالمناسبات الدينية وفق مصالح الشعب والوطن، وحسب ما يقتضيه العقل و المنطق، فليس من الدين ولا من تعاليم رجاله المتنورين أن لا ينعم استاذ جامعي بقسط كاف من النوم كي يذهب للجامعة بكامل قواه البدنية، لأنه لم يستطع النوم بسبب (مايكرفون) يسمونه أ صحابه (مايكرفون الحسين)!
الحسين اشرف من هؤلاء.