استطيع أن أقول إن هناك نموذجا من الدولة يمكن تسميته بـ (دولة الواقع الحي)، وهي في قبال دولة الفكرة، ودولة النظام الصارم، والدولة القومية، والدولة الوطنية، وقد سميِّتها في بعض المحاولات بـ (دولة المعاش)، في قبال دولة (الاعتقاد). هذا النموذج أطرحه بداية كـ (فكرة) جنينية ربما أتابعها ببعض المحاولات والتصورات لاحقا. دولة الواقع الحي تنطلق من الواقع، حاجات الواقع، وممكنات الواقع، ومن هنا يمكن أن تتعدد مشارب رفدها وإنمائها وتطورها وممارستها، سواء على صعيد الشكل أو المضمون، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وفكريا.
تمتاز دولة (الواقع الحي) بقدرة هائلة على التكيف مع التاريخ، تطورات التاريخ، إضافات التاريخ، نكسات التاريخ، إنتصارات التاريخ، تكون كل روافد التشكل والصيرورة في خدمتها، وتعزيز دورها وطنيا وأقليميا وعالميا.
تستيطع دولة (الواقع الحي) أن تستعير من الفكر الاشتراكي ولكن دون أن تتمحض اشتراكيا، تتمتع بصلاحية الاستعارة من دولة الرأسمالية ولكن دون أن تنغمس في (جهنميتها) الفردية الطاغية، تتفنن في استيعاب الكثير من القيم الدينية بشكل علمي موضوعي دقيق وحذر، أي من دون أن تتورط بعناوين الدولة الدينية ــ الخلافة، الإمامة، ولاية الفقيه، شورى الفقهاء، الجمهورية الاسلامية ــ، يمكنها أن تستلهم حتى بعض ضرورات الديكتاتورية ولكن لا تصبح نظاما ديكتاتوريا ازليا أو شموليا، لا تهمل القيم القومية التي تتجسد في الايمان بالقيم والتراث والأرض والتاريخ، ولكن من دون نزعة (شوفونية) تؤله الامة، وتتعالى بها فوق الجميع، وتسخر كل ممكنات الأرض و السماء لصالح القومية وسمعتها وطغيانها وجبروتها، كذلك الوطنية، تتأصل في دولة (الوقع الحي) إنطلاقا من مفهوم المواطنة، أي الشراكة السياسية من حق الجميع، ولكل فرد من أبناءها الحق في ثروة الأمة الوطنية، على أن لا يتحول الوطن إلى إله، بحيث يتم التفريط بكل الحقوق المدنية من أ جل شيء اسمه الوطن.
إن دولة (الواقع الحي) يمكن أن تستفيد حتى من الاعتقاد، تستفيد من الاعتقاد كتجربة، وقيم، وتصورات، من شانها تعزيز قوة الدولة وهيبتها، وتمكينها من تأدية واجباتها تجاه الفرد والشعب، إنها ليست دولة معتقد، أو دولة قائمة على فكرة التوحيد أو فكرة الديالكتيك فكر التثليث المسيحي، ولكنها تستفيد من كل نماذج الايمان والاعتقاد السائدة في الوسط الذي هي فيه ومنه، بمنهجية انتقائية مبرمجة وحذرة، ذلك أن دولة الاعتقاد متصلبة، تأخذ من خارجها ولكن على حياء، ليس إختيارا ولكن اضطرارا، وبالقدر الذي يسمح بصمود الدولة، أو بالاحرى حفظ كرامة الاعتقاد، البرهنة على ان الاعتقاد بقي صامدا، لم يهتز، لم يتزعزع، أمّا دولة (الواقع الحي) فهي دولة استعارة مستمرة، إستعارة واعية، نابعة من هم مركزي، تلك ذلك هو حياة المواطن، كرامة المواطن، حاجات المواطن المادية والعنوية والروحية والاجتماعية، سلام المواطن وامنه الفكري والمعاشي والمصيري.
إن دولة (الواقع الحي) تستجيب بفاعلية لمخاضات التاريخ، ولكن دولة الاعتقاد تتخوف من مخاضات التاريخ، فإن عقلا مسبقا كان قد قرر، وكان قراره أقرب إلى الحكم الازلي، وبالتالي،هناك حوار أعجمي، أخرس بين دولة الاعتقاد ومستجدات التاريخ، فيما دولة (الواقع الحي) تنتعش بالحوار مع مستجدات التاريخ، تغتني بهذا الحوار، تتجدد، تواكب الزمن، مسيرة الزمن، وما ينطبق على دولة الاعتقاد ينطبق إلى حد كبير على دولة النظام الصارم، الشمولي، كذلك الدولة القومية الشوفينية، كذلك الدولة الفاشستية، كذلك دولة العشيرة، دولة الاسرة...
دولة (الواقع الحي) رأسمالية ديمقراطية... إشتراكية ديمقراطية، وسط... يمين... يسار... يسار الوسط... يمين الوسط، صيغ تتعدد، تتكاثر، حسب تتابع الزمن التاريخي، زمن الإنسان، ولم تكن صيغا فارغة، بل ذات مضمون تشريعي و اخلاقي وسياسي عميق، ولكن المواطن يبقى هو المحور الذي تدور حوله هذه الصيغ، لان هذه الدولة مستعدة ه للاستفادة من كل التجارب، من دون أن تجيرها التجربة لجوهرها الازلي، من دون أن تكون اسيرة تجربة بعينها، تهيمن على كل مكوناتها.
دولة (الا عتقاد، القومية المتطرفة، الوطنية المتطرفة، العشيرة، الاسرة، النظام الشمولي الصارم...) تخاف هذه المصطلحات، المصطلحات الاخرى،التي لا تلتقي معها، في المتن العقدي أو الفكري، التي ربما تتضارب معها في النص العقدي، الا خلاقي، السياسي الاجتماعي.
الفكر القومي ينمو وينتعش ويتحرك ويتفرع في دولة (الواقع الحي) أكثر مما هو دولة الاعتقاد القومي، كذلك الوطني، كذلك الاشتراكي، كذلك الراسمالي... دولة (الواقع الحي) أتون فكري، ساحة فكرية هائلة.

المجتمع في دولة الاعتقاد أو القومية المتطرفة، أو الوطنية المتطرفة، أو العشيرة... يشك شكا كبيرا في المصطلحات المضادة، يخافها، هناك حكم مسبق بحقها، عينات تشمئز منها النفوس الحية، وقبل ذلك الفكر الحي. المجتمع في دولة (الواقع الحي) لا يملك أزمة فكرية ولا اخلاقية مع كل المصطلحات التي يجود به التاريخ في حركته الاجتماعية الهائلة، يتقبلها كمفردات أفرزتها الحركة لتاريخية، يستلهمها إذا وجد فيها ما يعزز المعاش ويقويه ويركزه ويثبت نتاجه وعطائه، ولكن لا يحارب هذه ا لمصطلحات، لا يرفهضها مبدئيا، ولكن ربما ير فضها كطريقة حياة أزلية.
لا تنتظر دولة (الواقع الحي) الروافد التي يمكن أن تمدها وترزقها وتغذيها بالمطلوب من أجل الاستمرار، بل هي تشكل وتؤسس وتصمم هذه الروافد، وقد تستعير، وقد تركب، وقد تجمع.... فيما غيرها من النماذج تسعى جاهدة على أخفاء أي مصطلح يتجافى مع جوهرها، وروحها، تحاربه، تزيفه، تضع أمامه العراقيل، لا تحبذ ا لتعاون معه، فيما نرى دولة المعاش فيها ما نجده في أ كثر الافكار والتصورات والنظريات والمدارس الاجتماعية والاقتصادية.
في العراق...
نفتش عن دولة (الواقع الحي)....