يقول تعالى في سورة الأنعام: (وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكلّ شي فصّلناه تفصيلا) / الأنعام 12.
فهذه الآية تفيد أن (كل شي) قد فصّله الله تبارك وتعالى، والإطلاق واضح في الآية، وليس محصورا في الآيات الكونية بدلالة السياق كما يتصور البعض.
ولكن ما معنى تفصيل الآيات؟
التفصيل بشكل عام هو التوضيح والبيان، فكل شي مفصّل، أي واضح، بيِّن، ولكن كيف يكون ذلك فالتعبير ما زال غامضا، والجواب موجود في القرآن الكريم نفسه...
يقول الله في كتابه الكريم: ( إنّا كل شي خلقناه بقدر).
القدر هنا مفهوم واسع عريض، وهو يصدق على كل شي في هذا الوجود حسب نص الآية الشريفة، فكل شي بقدر بصرف النظر عن هوية وحقيقة هذا القدر، في الوزن والحجم والمساحة والوظيفة والعمر والعلاقة بالاخر، وهكذا، وكون كل شي بقدر تفصيلا له، بيانا له،جعله في متناول القراءة والبحث والدراسة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة،وبالفعل، فإن لغة العلم اليوم هي لغة كمية وليس كيفية.
يقول الله تبارك وتعالى: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهد ى).
فهنا نحن بين يدي مسيرة للشيئ، تاريخ خلْقي، صيرورة، وهناك حركة بين زيادة ونقصان، موت وحياة، أخذ وعطاء، وهذه المسيرة هي بيان بطبيعة الحال، ولكن ليس البيان الجاهز إلى الحد الاقصى، بل هو البيان والوضوح الذي يهئ لنا فرصة الاكتشاف، الغور أعمق في الأشياء والظواهر والعلاقات والمكونات. ولا علم بلا محصول سابق نستعين به على العلم ذاته.
يقول سبحانه: (وأوحينا في كل سماء أمرها)، أي قانونها الذي ينظمها أو ينتظمها، وهذا يعني أن السماء يمكن التعامل معها، لأن هناك مدخلا للولوج إلى عالمها الكبير، مدخل للتعاطي معها علميا وفنيا ووظيفيا، وهذا هو التفصيل، والأمر هنا ليس لغزاً أبديا، بل يمكن فهمه بشكل ما، لأن القرآن يدعو بشدة إلى تأمل السماوات والأرض.
فالأشياء مفصَّلة إذن، أي هناك مداخل للتعامل معها، للدخول في عالمها، لاكتشافها، لملاحظتها ثم تسجيل معلومات وتصورات وأفكار عنها.
يقول الله سبحانه: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف بدأ الخلق)، فهي دعوة للتوغل في هذا التفصيل، ليس هناك تفصيل على نحو الإنكاشف التام، بل هناك نحو (انكشاف)، أو هناك كم من الانكشاف، وما علينا سوى أن نستفيد من هذا المستوى من (الانكشاف) لنوغل أكثر،ونكتشف أكثر، إننا نسير من تفصيل إلى تفصيل، من وضوح إلى وضوح، وهكذا...
يقول تعالى: (من نطفة خلقه فقدّره، ثم السبيل يسرّه)
والحقيقة إن العلاقة بين التفصيل والتقدير علاقة قاعدة بفروعها أو علاقة قاعدة عريضة بأحد مصاديقها، فإن التفصيل أوسع مفهوما من التقدير، إن التقدير يشكل جانبا أو أحد معالم الوضوح أو البيان فيما يخص الأشياء، والتقدير هويته الكم، وليس الكيف، القدر روحه الحساب، العد، وإذا كان كل شي بقدر، يعني كل شي محسوب، فهل الحزن والفرح والذكاء والشعور والإحساس يمكن عدها وحسابها؟ الجواب ومن خلال ما طرحه القرآن الكريم يميل إلى الإيجاب!!! بل الحزن والفرح قابلان للزيادة والنقصان، وذلك ليس من مواصفات التجريد، بل هي مواصفات مادية.
يقول تعالى: (وكل شي أحصيناه في إمام مبين).
فكما البشر قابل للإحصاء كذلك حزن الإنسان قبل للإحصاء، أيضا قوته وضعفه ونسيانه وتذكره وخوفه وحسده.
الحزن إذن (كم) وليس (كيفا)...
فهل الحزن مظهر مادي، أو موجود مادِّي، محسوب، كذلك الفرح، كذلك الشعور، وأيضا الإحساس، وبالمثل الإضطراب والقلق وا لهم والغم والحسد والغيرة والشماتة...؟ كذلك الحرارة و البرودة والسيولة وغيرها من الصفات والحالات والأعراض هي الأخرى أشياء، أي مخلوقات، فهي كميّة، لأن كل شي مخلوق بقدر، هل هي أ جسام؟ ذرات؟ كواركات؟ لا ندري، ولكن هي مخلوقات كمية حتما لأنها أشياء، وكل شي مفصّل كما يقول القرآن، والكم هو أحد معالم هذا التفصيل.
نحن لا نشعر إن للحزن ـ مثلا ـ طولا وعرضا ووزنا وكثافة وحجما وسرعة، لا نشعر إن لمثل هذه المشاعر والأحاسيس حيّزا، فهل هذا يستوجب نفي ماديتها، كونها شيئا مرقوما؟ إن اكتشاف مناطق مسؤولة في الدماغ عن بعض هذه المشاعر بشكل وآخر قد يساهم مستقبلا بإعطاء صفة (الجسمية، أي هي موجود مادي ) لهذه المشاعر والأحاسيس، ولكن من يدعي إن الأبعاد المادية محصورة في هذه التي نعرفها، أي طول وعرض و ارتفاع ووزن وكثافة وكتلة وعلاقة وعمر وغيرها، لعل هناك أعراضا أخرى أو أوصافا أخرى أو أبعادا أخرى تعرض على ما يسميه علم الكلام أو الفلسفة الميتافزية المدرسية بـ (الجواهر) ولكن ليست معلومة لنا لسبب من الأسباب، بل من يقدر على نفي القول الذي يرى إن الطول ليس إلا الطويل، والثقل ليس إلا الثقيل؟
ومن مصاديق التفصيل كما يبدو الحركة، فأشياء الكون في حركة دائمة، وهذا واضح من خلال إ لقاء أبسط نظرة على الكتاب الكريم، فليس هناك شيء ساكن، بل كل شي في حركة، وحركة الأشياء في القرآن الكريم ثرية، معطاءه، وهي لا تقتصر على الأشياء المادية،بل تشمل كذلك ما يسمى بالاشياء الوجدانية، فالحزن والفرح ـ مثلا ـ ليست أشياء ساكنة، بل هي تشتد وتضعف، تأتي وتروح، لها أثارها المختلفة والمتنوعة.
ومن مصاديق التفصيل بيان وظائف الكونيات في القرآن الكريم، أي بيان وظائف الأشياء والغاية منها، من إيجادها ومن حركتها ومن علاقاتها.... وهذا أيضا واضح في الكتاب العزيز، حتى إن بعضهم إستل من هذه الظاهرة دليلا غائيا، بل إن بعضهم يقول أن جوهر الدليل القرآني على الله أو بالاحرى على التوحيد هو غائية الأشياء في هذا الكون.
لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، فإن القرآن صريح بأن الله فصّل لنا الأشياء، بل كل شي، وما التفصيل سوى بيان الخصائص والوظائف والعلاقات وبعض الصفا ت والنعوت وكيفية التعاطي مع هذا الكون وما هو في هذا السبيل الرحب المتشعب المعقد.
هذه الأشياء كما يبدو في سياق الزيادة المطّردة، يمكن أن نستفيد ذلك من قوله تعالى (... ويزيد في الخلق ما يشاء)، إذ لا داعي لتخصيص هذه الزيادة كما يرى بعضهم في الملائكة، والاستزادة في الخلق أي في الأشياء كما أتصور لا بمعنى إضافة أشياء من خارج الوجود إلى حيز الوجود، بل هي عملية تخليق داخل الوجود نفسه، أي هي عملية تنويع للمادة البسيطة، اشتقاق منها، كما يحصل في تخليق الحياة المتنوعة الأنواع والأفراد من (الماء) بنص الكتاب العزيز (وجعلنا من الماء كل شي حي). أو تخليق السماء والارض من المادّة الأولى، التي يسميها القرآن (دخان). إنها عملية تكثير عناوين وأسماء داخل مادة أبسط بتطويرها، فهي مادة جاهزة لأن تكون أكثر مما هي عليه، تختزن تلك القوة وتحتاج إلى أسباب من خارجها، وبالتفاعل بين الاستعداد والأسباب الخارجية تتخلق لدينا عناوين جديدة. كذلك توسيع السماوات (وإنّا لموسعون)، فهي ليست إضافات من خارج السماء إلى السماء، بل هي عملية توسيع للسماء من داخلها.
إن كل ما يدخل في توضيح وتكثير معلوماتنا عن الكون يندرج تحت عملية التفصيل، تفصيل الأشياء، وهو ليست على نحو مطلق بطبيعة الحال كما مر بيانه، وإنما على وجه الإجمال، ولكنه يفيد ليكون مدخلا للتوغل في تفاصيل أعمق وأكبر.