الحلقة الثالثة
لا تستهين بهذه المقاربات
الوصف عملية فكرية مهما بدت ساذجة وبسيطة، ربما هي ليست تعريفا، ولا تحليلا، ولكنها مران فكري جيد، يقود إلى المزيد من حدة الذهن، فاحرص على وصف ما يدور حولك، وما تراه وتسمعه وتتخيله، وهل تعلم أن الوصف أحدى مقدمات التفكيرا لعملي في فكر الفيلسوف الكبير (إدوارد دوبونو)؟ لا يوجد وصف كامل، ولكن يوجد وصف نسبي بطبيعة الحال، وعليك أن تنقل الوصف للآخر فإنه يزيد من نشاطك الفكري، ويفجر في داخلك الكثير من الخيال. ولا تستهين بالمقارنة بين الأشياء والحوادث، المقارنة عملية ذهنية نشطة مهما كان مجالها بسيطا عاديا. ولا تستهين بكثرة المرادفات اللغوية، فهي تضيف لك طاقة من الفهم والفكر، كثِّر مخزونك من المرادفات فهي إعانة على التعبير، وتفتح لك أبواب من المعارف، فالمترادفات عالم عظيم. ولا تستهين بالسبب القريب، فهو بداية للوصول إلى أسباب أعمق، ولا تستهين بتحديد القضية، بل يجب أن تحدّد كمها، فانت عندما تقول (المعدن يتمدد بالحرارة) تعطي علما غامضا، فعليك أن تحدد، فربما ينصرف الذهن من هذه العبارة إلى كل معدن وربما إلى بعضه، فتكون قد جنيت على السامع المسكين، ولا تستهين بفن التصنيف، تلك عملية ذهنية جبّارة، بل هي أحدى أعمدة الفكر والتحليل، فصنّف حسب الالوان أو الأطوال والحجوم أو الألسن أو الأنساب أو الثقافات أو الجغرافيات، أخترع أ و ضع لك قاعدة للتصنيف وجرّب كم هي عملية شاقة ولذيذة في نفس الوقت.

غرور السببية
قد يغري مبدأ السببية بأننا نستطيع أن نكتشف سبب كل شي، وهذا وهم يجب ان نتجنبه، وقد يغري مبدا السببية بنتيجة موهومة، تلك هي أن كل سبب له مسبَّبْ فيما العكس هو الصحيح حصرا، أي لكل مسبَّب سبب، وقد يغرينا مبدأ السببية أن نستمر في تحري الاسباب إلى ما لا نهاية، حيث يدفعنا منطقية التصور إلى ذلك، ولكن سوف تصطدم بالواقع المرير، لا تقدر أن تستمر، فعليك أن تقف عند حد السبب الذي ينفعك في حل مشكلة، أو خلق عمل أو إبداع نظرية. ولا بد من منطلق ثابت، تطمئن إليه وتبدا المسير في عالم التفكير.

ميّز المطلوب
تقول لصديقك (لقد أخبرتك كثيرا من الاكاذيب)، فليس بإمكان هذا الصديق سوى أن يستغرب منك، ويعتب عليك، وربما يحذر منك فيما بعد!
الصديق لم يفهم قصدك بطبيعة الحال، فهو يتصور أ نك كذبت عليه!، فيما أنت لم تكذب عليه قط، وإنما أخبرته أكاذيب، إنّه لم يميز بين إخباره بكذبة وبين الكذب عليه، فكانت الكارثة.
ليس كل الجمل أما صحيحة وأما كاذبة، كما تعلمنا من المنطق الكلاسيكي القديم، فهل جمل نجيب محفوظ في الثلاثية ذات الهوية الخبرية كاذبة أم صادقة؟ ولكن لنقل مثلا أن بغداد أكبر حجما من نيوورك، ترى ماذا سيكون الحكم عليها؟ إنها كاذبة بطبيعة الحال لمن يعلم أن نيوورك أكبر من بغداد، بل اكبر بكثير، ولكن الجملة التي تقول أن مساحة بغدا د أقل من مساحة نيوورك صحيحة، لكن ما الحكم الذي تستحقه مثلا الجملة التي تقول: (أن عدد سكان بغدا د سبع ملايين احمر)؟
ليست صادقة ولا كاذبة، بل هي جملة بلا معنى، رغم أنها جملة خبرية كاملة، ففيها مبتدا وفيها خبر وبينهما رابط الكيونونة بطبيعة الحال، ولكنه رغم ذلك ليست صادقة ولا كاذبة.

إربط!
هكذا يوصينا فيلسوف التفكير العملي إدوارد دوبونو، ولكن ماذا نربط، وكيف، وأسئلة كثيرة حول الربط في عملية المعرفة؟
يقولون: ــ
كل إنسان ميّت، ومحمد إنسان، إذن محمّد ميت!
هذه أبسط صورة إستدلالية وأوسع طريقة للوصول إلى نتائج من مقدمات حسب هيكلية المنطق الكلاسيكي، ونحن إذا دققنا سوف نجد جوهر القياس هنا يكمن في الحد الا وسط، أي (إنسان)، فهو الذي مكننا من الانتقال والحركة، رغم أنه غاب في النتيجة، فهو الحاضر الغائب إذن، وما عليك سوى أن تركز عليه، فانت تقول: س يساوي ص، (و) ص يساوي ع، فإذن س يساوي ع.!
السر يكمن في الوسط (ص) بطبيعة الحال، فهو الذي أمّن لك طريق الخروج بالنتيجة، رغم أنه غاب في صياغة النتيجة، فالحد الاوسط إذن شهيد المعرفة.
يجب أن تتحرك بين أفكار، وبين الا فكار تتحرك فيما كان هناك حد وسط، وإلا كيف تنتقل؟ فتش عن الحد الاوسط، الحد الرابط بين الافكار تغنم بنتائج.

شكلي وليس واقعي بالضرورة
تقول: ــ
كل إنسان حجر.
محمد إنسان.
إذن محمد حجر!
أحقا محمد حجرا؟ أ ليس هو إنسان يفكر ويشعر ويحس ويمارس عمليات بايولجية بإمتياز من حيث القوة و الفاعلية وا لنشاط؟
ولكن قبل هذا وذاك، أليس الانسان ليس حجرا، بل هو حياة وفكر؟
أن الثغرة هنا في الاعتراض كونك أخذت الجانب الواقعي من الانسان، فيما العملية المطروحة عليك هي بيان إستدلالي ذهني صرف، وحسب قواعد القياس المنطقي من الشكل الاول تعتبر النتيجة صحيحة!!
فليس كل ما هو صحيح إستدلاليا حسب قواعد المنطق الكلاسيكي هو واقع وصحيح على صعيد الواقع.
إذن ما عليك سوى أن تفترض مقدما ت من فكرك وخيالك وتجربتك، مقدمات تستوفي شروط القياس الصحيح، ومن ثم تربط بينها بحد أوسط، ثم تستنتج!
سوف تحقق ملايين النتائج بهذه الطريقة، وربما تكون كل هذه الملايين من النتائج ليس لها أي رصيد من الواقع سوى عناصرها من القياس المبثوثة في الكون، كما في المثال السابق، حيث هناك حقا حجر، وهناك حقا إنسان، ولكن ركبنا مقدمات منهما لا رصيد لها من الواقع كصورة نهائية، وخرجنا بنتيجة صحيحة من حيث الشكل، ولكنها ليست واقعية من حيث الخارج!
ليس هناك تناقض بطبيعة الحال...
مرِّن ذهنك على مثل هذا القياس الجميل...
متعة فكرية خيالية رائعة،وتوفر لك نشاطا مستقبليا فذا...

لا تنسى القضية الشرطية
مشاكله كثيرة، ولكن العقل البشري إجترحها لحل الكثير من المشكلات، بل تكاد تنفرد بالمعرفة في نشاطها الاكثر تعقيدا.
نتحدث عن أبسط صياغاتها، ونتحدث بمثل دون المصطلح كي لا ندخل في تعقيدات لا داعي لها...
تقول:
إذا طلعت الشمس فالنهار موجود!
وبكل بساطة يمكنك ان تسنتج أن القضية الشرطية هي قضيتان، كل منهما مبتدا وخبر، مربوطتان بأداة شرط. وهي بصورتها هذه أما صحيحة وأما كاذبة، وإذا ما كان حقا الشمس طالعة، فإن النهار موجود حقا، وعليه، صدق الجملة المتاخرة يتوقف على صدق الجملة المتقدمة، ولكن ليس العكس صحيحا دائما، فقد يكون النهار موجودا، قد نكون في عز النهار، ولكن الشمس غائبة.
الجملة الاولى تسمى مقدم ا لقضية، والجملة الثانية تسمى تالي القضية، وعليه تكون صياغة القانون فيما يخص الشكل الذين نحن فيه (إذا صدق مقدم القضية صدق تاليها، وليس العكس).
كان بودي أن أستمر في تشريح القضية الشرطية، ولكن اكتفي بهذا لانها خطوات متواضعة على طريق التفكير وليس أكثر...
ربما نلتقي على صفحات إيلاف الجميلة، وما أجملها يوم تعرض علينا ولنا تمارين في الفكر و التفكير
[email protected]