قراءة النصوص الإغتسالية الدينية برؤية الحاسّة اليقظة تشف عن لعبة ذكية، تشف عن أمل الإنبعاث من جديد، مواصلة مشروعية الذات الفردية، الإنفتاح بشهية على العالم، كل عملية إغتسال سياحة داخل الماء، إنغماس كلي في مشروع مُستحدَث،إن الإغتسال العادي متعة بسيطة، متعة عابرة، إنتعاش مؤقت، حتى إذا صاحبته النية، إنها النيّة التي تلامس الرغبة من أطرافها المرتخية، ولكن الإغتسال الديني إمتلاك للرغبة ذاتها، تنطوي على نيّة تمتد به خارج الزمن الذي يحتويها، إن هذه النيّة الرائعة تشده إلى جذر عميق من ترنيمة الفكر الذي شغل التاريخ، وسوف يشغله إلى الأبد، ذلك هو الإيمان.
كم هو رائع عندما يزودنا الإيمان بمتعة الانغماس في الماء، ذلك الذي يؤدي إلى إضطرام الجسد بنشوته الإلهية، ذلك المشروط باستيعاب فلسفة الغُسل.
الجسد الذي يمر الماء عليه مجرّدا من نيَّة القربى يسبب تبعيض الله، لله حضوران بالنسبة للجسد المتطهر باسمه، حضور تكويني، لان الماء من الله، والجسد صنيعة الله، ولكن هنا ك الحضور المعنوي، هذا الحضور الذي ينبثق من الداخل.
التطهر الجسدي طقس بالغ الالتصاق بمعناه المباشر، فالماء ينبغي أن يمارس حالة التسرّي الى كل ذرة من ذرات الجسد، ليتشرٍّب الجسد كفايته من الانتعاش الرطب، بل الانتعاش المنساب بكل حيوية ويقظة، فقول نبي الاسلام (تحت كل شعرة جنابة)، يشي بكليانية جسدية، تطهرية، كلية جسدانيّة وليس روحية، كلية حواس وحس. يشي قول النبي الكريم هذا عن رغبة حاسمة بمزاولة الوجود مرّة أخرى ولكن في ظل تجديد طهوري شامل، بحساسية فائقة الرعشة على ضرورة البدء من جديد بحياة جديدة، وضرورية الاستعداد الجاد لمثل هذه البداية.
يستوجب غسل الممارسة الجنسية للرجل حركة ذكورية خاصّة تتماهى مع وضع الجسد، وبالوقت ذاته هناك خريطة أخرى لمواصفات الجسد الإنثوي كي يستوفي رغبته من أنفاس الماء اللعوبة.
يتوحد الماء مع الجسد، تنبثق من هذا التوحّد حياة مستأنفة، لان الغُسل بإسم الله، يسيل الماء على الجسد، فيطلي الجسد بآهة البركة المقدسة، لان الماء توشيّى باسم الله، يتبلور الماء حبيبات راقصة على الجسد، داخل كل حبيبة رغوة تشتهي لقاء النظير، لأن الماء كريم العطاء بعد أن يمضي عليه أسم الله المقدّس.
الماء..
الماء...
الماء
... لا يروي العطشى ولا يسقي الزرع، ولا يقاوم الجفاف، الماء والعري والنية الخلصة ــ الكلمات البريئة ــ كل مقترب من هذه المقتربات بمثابة إعلان سافر، وضوح، نقاء، تحرّر، الشفافية هنا ليست تحصيل حاصل، بل هي نقطة جمع أوّلا، ثم تماهي ثم إ نصهار كلّي، بين الما ء الشفاف أساسا والعري الذي هو شفاف بجوهره، والنيّة الخالصة التي هي لغة الشفافية وماهيتها وروحها، بين كل هذه المقتربات يتحرك الجسد بحرية، وينطلق عاريا مهما تدثر با لثياب، الثياب ستر خارجي وحسب، وليست سترا للعُري في جوهره، يبقى الجسد عاريا مهما كانت الثياب غليظة محكمة و متداخلة ومكتضّة ومتراكمة...
يبقى عاريا...
الثياب زينة ظاهرية، الثياب عملية مؤقتة، فإن لحظات العري الصارخة، لحظات العري التي يعبِّر فيها العري عن جوهره الصارخ، بداية لمسيرة الخلْق الإنساني، فهو الاصيل إذن، والثياب طارئة، ليس ذلك تاريخيا، بل مسيرة إنسانية، بداهة ندرك ذلك، العُري يدخل في صميم الخلْق، في مسيرته، في صيرورته، في نشأته، والأمر بالثياب حفظا للعري أن يكون في وقته المناسب، أي الثياب في خدمة العري أصلا.
الثياب تزين العري من أن يكون مبتذلا، تحميه من الابتذال، تحميه من الشعوذة، من التلاعب به سلعة رخيصة تافهة.
نستر عرينا، وليس نقتل عرينا، ستر العري لحماية العري، كم العري إذن غال، وكم هو مقدّس، وكم هو مثير وكم هو جوهر؟
العري إذن عملية مقدّسة، لا أتحدث عنه في الا سواق، ولا في الشوارع، ولا على السواحل، بل أتحدث عنه كبداية لعمل إنساني، لشهوة تحترم طقوسها، وتجل قوانيها التي سنّها الله في شرعه وأديانه، بل سنّها الضمير الحي، والذوق السليم.
الثياب لا تخفي التعرّي، لا تقتله، بل تحميه، تحافظ عليه، تستره، تصد عنه العيون المفترسة، تجعله في مأمن من كنزه، من ثروته الداخلية، فله أهله، له مالكه، له صاحبه، فالثياب ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة لحماية غال، لحماية مقدس، ذلك هو العري، ولنقل الجسد العاري، ا لثياب لا تحمي الجسد المتدثر بها، ذلك تناقض مفضوح، بل تحمي الجسد العاري، أي العري أصلا.
التطهر الجسدي إرتفاع به، الروح تسمو بالتطهر الجسدي، التطهر الجسدي مقدمة لممارسة الشهوة بروح منتعشة بزادها، كلاهما ينتعشان، الجسد والروح، عملية مزدوجة!
الجسد الانثوي وهو يتطهر بالماء ينشد رغبة آتية، النهدان يحاوران حبّات الماء، حلمتان يوصل بينهما مستقيم من حبّأت الماء المرتعش، يهز في الذات رغبة اللقاء.
الجسد يتلوى مع دفق الماء، والماء يزرّق الجسد شهوته العارمة، فالماء أكثر الحقائق شهوة للوصال بالاشياء، ألم يقل تعالى (وجعلنا من الماء كل شي حيا)؟
هل الحياة هنا حركة آلية وحسب؟
أم هي نشاط يتصل بكل ما يثمر الوجود، ويزيد من بركاته العظيمة؟
لا يغني أي سائل عن التطهر بالماء!
كذلك... قال شرع الإسلام...
مهما كان ذلك السائل غنيا، مهما كان جميلا، مهما كان ذا ر ائحة نفّاذة، الماء وحده المُطهِّر، والطهارة هنا ليست مادية وحسب، بل روحية أيضا.
نتطهر لنعاود عملا يضطرنا للتطهر، تلك هي اللعبة الجميلة، لعبة التطهر الجسدي، فهو ليس نهاية المطاف، بل بداية المطاف... كي تتجدد الحياة.
لا ننسى...
لا ننسى...
نُبْعًث عراة...

أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه