يفهم اللبنانيون الشرفاء حقا معنى الحدث. يفهمونه جيدا. لذلك نزل مليون ونصف مليون مواطن من مختلف المناطق والطوائف والمذاهب والطبقات الأجتماعية ألى الشارع يوم الرابع عشر من فبراير ndash; شباط الجاري في الذكرى الثالثة لأستشهاد رفيق الحريري. هناك معنى واحد لأغتيال الرجل. كل الباقي تفاصيل تدور حول هذا المعنى. كان رفيق الحريري يمثل مشروعا أستقلاليا في لبنان. كان يمثل مشروعا عربيا منفتحا على العالم وعلى كل ما هو حضاري فيه. لذلك، قرر النظام السوري التخلص منه في سياق تعزيز مشروع مختلف ومتخلف للمحور القائم بين دمشق وطهران. يقضي هذا المشروع، الذي يشكل أحتلال جزء من وسط بيروت، حيث الأكلاك الخاصة والعامة، بواسطة عناصر من quot;حزب اللهquot; والتابعين له من أزلام النائب ميشال عون أفضل تعبير عن المشروع الأيراني- السوري القاضي بأبقاء لبنان تحت الوصاية ومجرد quot;ساحةquot; للمحور المذكور. يعكس هذا المشروع الذي يهدد بحرب داخلية ذات طابع مذهبي في لبنان صلب الأزمة التي يعيشها النظام السوري. هل هناك أعمق من أزمة نظام مضطر ألى أن يقتل ويفجّر بأستمرار من أجل أثبات أنه لا يزال حيا يرزق وأن له دورا أقليميا وأن على المجتمع الدولي الأعتراف بهذا الدور؟
تكمن عقدة النظام السوري في أضطراره ألى الهرب المستمر ألى أمام بدل مواجهة الواقع والتعاطي معه. يعتقد هذا النظام أن أخضاع لبنان يضمن له أمنه وبقاءه. ولذلك لم يتوقف لحظة عن محاولة أخضاع الوطن الصغير وتدجينه معتقدا أنه يغطي بذلك أزمته، هو الذي ليس قادرا لا على السلام... ولا على الحرب ألا بأجساد الآخرين. يعتقد النظام السوري من خلال التخلص من رفيق الحريري أن في أستطاعته العودة ألى لعبة قديمة مارسها الأسد الأب تقضي ببث الذعر والخوف في صفوف اللبنانيين. ألم يكن أغتيال كمال جنبلاط في العام 1977 كافيا، من وجهة نظره، لأفهام كل لبناني أن في أستطاعة دمشق أقتلاع كل من يقف في وجه المشروع الذي تريد تنفيذه في لبنان؟
في محطات كثيرة، أثبت النظام السوري أنه يمتلك ضوءا أخضر أميركيا ودوليا وحتى أسرائيليا في لبنان. لذلك، لم يسأل أحد عن ظروف أغتيال الرئيس المنتخب الشيخ بشير الجميل في العام 1982. ولم يسأل أحد لماذا أغتيلت كل هذه الشخصيات السنية على رأسها المفتي حسن خالد، ولماذا أغتيلت معنويا شخصيات سنية أخرى مثل الرئيس صائب سلام والرئيس تقي الدين الصلح، رحمهما الله. ولم يكن هناك من يطرح مجرد سؤال عن الظروف التي رافقت أغتيال الرئيس رينيه معوض في العام 1989 بعيد أنتخابه رئيسا للجمهورية نتيجة التوصل ألى أتفاق الطائف.
في أساس القدرة على ممارسة القتل وأرهاب اللبنانيين عمل دؤوب مارسه النظام السوري أستهدف خلخلة الصيغة والتركيبة اللبنانيتين منذ أواخر الستينات من القرن الماضي حين كان حافظ الأسد لا يزال وزيرا للدفاع. أستهدف الأسد الأب لبنان منذ البداية. كان مطلوبا في أستمرار أن تكون هناك دولة داخل الدولة في لبنان. لهذا السبب وليس لغيره، كانت تتدفق الأسلحة من الأراضي السورية على المخيمات الفلسطينية في لبنان وكان المسلحون الفلسطينيون يرسلون ألى الأراضي اللبنانية كي يزداد الوضع سوءا في الوطن الصغير. حصل ذلك في وقت لم يكن هناك وعي كاف لدى معظم المسلمين لأهمية المحافظة على الدولة المركزية القوية في لبنان ولضرورة رفض قيام دولة داخل الدولة فضغطوا في أتجاه التوصل ألى أتفاق القاهرة في العام 1969. في المقابل، لم يحسن معظم المسيحيين التصرف والعمل على بلورة موقف موحد من الوجود الفلسطيني، خصوصا عندما كان في الرئاسة شخص أسمه سليمان فرنجية رضخ نهائيا للأرادة السورية عندما أغلقت دمشق الحدود أثر محاولة الجيش ضبط التمدد المسلح الفلسطيني في ربيع العام 1973. روضت دمشق سليمان فرنجية وحولته منذ تلك اللحظة مجرد أداة من أدواتها، بدل أن يكون رئيسا للبنان، كل لبنان كما يفترض في أي رئيس للجمهورية...
في العام 1976، قطف النظام السوري ثمار زرعه الفوضى في لبنان في لبنان وذلك عندما قرر وزير الخارجية الأميركي وقتذاك هنري كيسينجر السماح له بدخول لبنان عسكريا بطريقة مكشوفة بغية quot;وضع اليد على منظمة التحرير الفلسطينيةquot;. كانت لدى النظام رخصة أميركية تسمح له بالقتل. جدد الرخصة في العام 1990 عندما أنضم ألى التحالف الدولي الذي أخرج الأحتلال العراقي من الكويت. كان تجديد الرخصة الثمن الذي دفعته واشنطن لدمشق مقابل أرسال جيشها للقتال ألى جانب الجيش الأميركي في حرب تحرير الكويت.
في مرحلة معينة لم تعد هناك رخصة. من أعطى الرخصة للنظام السوري سحبها منه. هذا ما لم يفهمه النظام في دمشق ولم يفهم خصوصا أن الشريك الجديد في مشروع الهيمنة على لبنان، أي النظام الأيراني، لا يستطيع أعطاء رخصة بالقتل من دون محاسبة في يوم ما من جهة وأن اللبنانيين نضجوا من جهة أخرى. يستطيع النظام الأيراني المساعدة في القتل وفي تفجير الوضع اللبناني وأثارة النعرات المذهبية بواسطة أدواته المعروفة على رأسها ميليشيا quot;حزب اللهquot; وأدوات الأدوات المستأجرة من نوع النائب ميشال عون ومن هم على شاكلته، لكنه لا يستطيع لا هو ولا النظام السوري أخضاع اللبنانيين ولا يستطيع منع قيام محكمة دولية تلاحق القاتل وأدواته.
في الذكرى الثالثة لأستشهاد رفيق الحريري وباسل فليحان ورفاقهما، يفترض في النظام السوري التفكير مليا في أحداث السنوات الثلاث الماضية. عليه التواضع قليلا وأستيعاب أن الجريمة لا تغطى بجريمة أخرى. لا يوجد لبناني يريد الأذى لسوريا والسوريين. سوريا دولة شقيقة والسوريون في قلوب اللبنانيين، لكن بيروت لا تحكم من دمشق. مرحلة الوصاية السورية أنتهت. وضع رفيق الحريري الأسس للأستقلال الثاني الذي جسدته حكومة فؤاد السنيورة. تخلص النظام السوري من رفيق الحريري ليكتشف أنه لا يستطيع التخلص من لبنان الحر السيد العربي المستقل. هل لديه القدرة على أستيعاب المعادلة الجديدة التي كرسها اللبنانيون بالدم؟ هل يفهم معنى أستشهاد رفيق الحريري؟ هل يفهم معنى نزول مليون ونصف مليون لبناني ألى ساحة الحرية في بيروت متحدين المطر الغزير لأعلان الولاء مجددا لمشروع رفيق الحريري المجسد حاضرا في نجله سعد وحلفائه من شيعة ومسيحيين ودروز جاؤوا من كل المناطق... أنهم فقراء وأغنياء ومتوسطو الحال يجمع بينهم الولاء للبنان الحضاري العربي السيد المستقل الذي لا يمكن أن يهزمه محور التخلف الذي لا يؤمن سوى بالقتل والتفجير والأرهاب وأثارة الغرائز المذهبية. منذ متى يصنع الأرهاب والعمل على أثارة الغرائز دولا وحضارات؟
أية اعادة نشر من دون ذكر المصدر ايلاف تسبب ملاحقه قانونيه
التعليقات