الحلقة الثانية

موضوع التفكير
الجملة الخبرية هي موضوع التفكير، الحرارة كتصور موجود في الذهن لا يمكن أن يكون موضوعا للتفكير، بل قولنا: إ ن المعدن يتمدد بالحرارة هو موضوع التفكير، والتصور لا يكون موضوع تفكير إلاّ إذا سيق في جملة خبرية،وهناك حوارات معمقة حول موضوعات التفكير، خاضتها الفلسفة الوضعية المنطقية بشراسة في مواجهة الفلسفة الميتافيزيقة، لا مجال للحديث عنها هنا، حيث تحذف ا لوضعية المنطقية كل جملة غير خاضعة للتجربة، أو إمكان التجربة، وليس هناك مجال لبحث أكثر هنا.
والتفكير يحتاج إلى معلومات سابقة في اي قضية يعالجها، اللهم إلا ما يسميه المنطق الكلاسيكي والفلسفة الكلاسيكية بالمبادئ لفطرية الاولى، مثل مبدا الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع والسبب الكافي، وغيرها، فأنت كي تعالج قضية مرض السرطان مثلا، عليك أن تجمع معلومات حول هذا المرض، مسبقا، وكل ما تكون المعلومات أكثر وأدق تكون المعالجة ربما أكثر نضجا وعمقا. ولكي تعالج قضية قتل محمد باقر الصدر تحتاج إلى جمع معلومات سابقة، وفي ضوء هذه المعلومات ومبادئ المنطق الاولى / سوف أتعرض لها / ومن خلال الربط بين كل هذه المقتربات ربما تصل إلى نتيجة، وقد تكون صحيحة أو خاطئة. حتى مواضيع الرياضة تحتاج إلى هذا الشرط،أقصد المعلوما ت السابقة حتى وإن كانت من جنسها صرفا.

مبادي التفكير الاولى
لكل علم مبادئ اولى يقوم عليها، وينطلق منها، والمنطق علم أيضا في تصور كثير من المناطقة، ولذلك له مبادئه الاولى، وتمتاز هذه المبادئ على غيرها بكونها ذا صلة بكل العلوم، وإن مبادئ ا لمنطق الاولى هي مبادي العقل الاولى، كلاهما يشيران أو يدلان على نفس الشيء، وهي أربع مبادئ: ــ
1: مبدأ الهوية / هو...هو... فإن كل شي هو ذاته، التفاحة هي تفاحة.
2: لا واسطة بين الوجود والعدم، فالمصباح الذي يشتعل الان على منضدتي موجود وليس معدوما، في هذه اللحظة في هذا المكان، بالفعل معا، فهو قد يعدم ولكن ليس لحظة وجود ه الفعلي ــ عدم صورة وليس عدم مادة ــ.ولكن ماذا نسمي (الصيرورة)؟ أليس هناك وجود وعدم؟ أليست هي واسطة بين وجود وعدم؟ يجيب مفكرو المنطق الكلاسكي إن الصيرورة نوع وجود يطرا على موجود، إن ما نسميه صيرورة ليس عبورا من العدم إلى الوجود، بل درجات أو مراتب من الوجود لموجود. تحول يطرا على شيء أو أ شياء جاهزة في الوجود
3: مبدأ السبب الكافي: فإذا وجد السبب الكافي وجد الأثر، وتخضع مسالة السببية اليوم لمناقشات حادة، كا نت قد تفجرت بسبب (!) نظرية الكوانتم الفيزياوية الشهيرة، يمكن أن يكون شي سببا لشي أخر، أما أ ن يكون سبب نفسه فمستحيل.
4: لا يمكن أن يجتمع الوجود والعدم على شي ما، ويناقش كثيرون هذا المبدا باعتباره ثمرة مبدا الهوية، او هو مبدا الهوية بطريقة أخرى.
يقولون: هذه المبادئ الاربعة هي المسؤولة عن تنظيم الفكر، وهناك نقاشات مطولة عن مصدرها وعلاقتها بالوجود، وهل هي أنطلوجية وإبستمولجية أم هي ابستمولوجية صرفة، ولكن يتفق أساطيق الفكر المنطقي الكلاسيكي أنها هي التي تنظم حركة الفكر، وإن أي سجال ضدها سوف يقودك إليها، بطبيعة الحال إن رفض المنطق للتناقض ليس بسيطا وراسيا، بل هناك شروط يضعها لهذا الرفض، ليس هنا محل تفصيلها ، ولكن أهم شرطين هما الزمان والمكان. إن التناقض (الشمس طالعة، الشمس غائبة) مع وحدة الزمان والمكان وشروط أخرى عدو المنطق الكلاسيكي، وضربة موجعة له.
لابد من بداية
لا عملية تفكير بلا بداية، أقصد معرفة سابقة، إ فتراض سابق، فإن إنشتاين وهو يعمل على إكتشاف النظرية النسبية قد افترض مسبقا ثبات سرعة الضوء، وأن السرعة التي تتجاوز سرعة الضوء مستحيلة، فإن عملية التفكير مثل عملية الخلق، فأنت لا تستطيع أ ن تخلق من عدم، بل لابد مادة سابقة تخلق منها، كذلك عملية التفكير، وقد أمضى المنطق الكلاسيكي تلك المبادي الاربعة كمعارف سابقة على كل تجربة،ولكن على العموم لا تفكير حول شي، أو حدث إذا لم نجمع معلومات سابقة،عن هذا الشي أو الحدث، وقد كانت قلة المعلومات مشكلة، اما المشكلة اليوم في هي كثرة المعلومات، بل جسامة المعلومات،ومن هنا يجب أن نتمتع بقدرة جيدة على الاختيار من هذا الكم الهائل،وإلا قد يستغرق ذلك العمر كله!!!

مشكلة العلاقة بين القضايا
القضية هي الجملة الخبرية هذا كتاب، وا لشمس طالعة، والمعدن يتمدد بالحرارة، والانسان ناطق، وما أشبه، والمنطق ا لكلاسيكي يهتم إهتماما بالغا بالعلاقة بين هذه القضايا، بل موضوعه الجوهري هو القضايا.
فيما توصلتَ إن (كل إنسان ناطق) فإن من السهولة أن تصدق إن (بعض الإنسان ناطق)، لانها تنطوي تحت [صدق أو صحة ] العنوان الكبير (كل إنسان ناطق)، ولكن تستيطيع أ ن تنحت قضية ثالثة هنا: (ليس بعض الانسان ناطقا) ولكنها حتما كاذبة أو غير صحيحة، لأنها تتناقض مع [صدق أو صحّة] العنوان الكبير (كل إنسان ناطق) ، كما إنه ليس عسيرا أن تقول: (لا إنسان ناطق)، ولكن في ضوء القضية الكلية الأولى / كل إنسان ناطق / وهي صحيحة أو صا دقة حسب ما توصلت إليه تكون هذه الاخيرة كاذبة أو غير صحيجة، لأنها تتناقض مع [ صدق أو صحّة ] الكلية السابقة. وفيما توصلتَ إنَّ (بعض الانسان كاتب)، فليس بالضرورة أ ن يكون (كل إنسان كاتب)، كما ليس بالضرروة أن يكون (بعض الانسان ليس كاتبا)، فإن صدق أو صحة الحكم على بعض الإنسان بأنه كاتب لا ينفي أ ن يكون جميع أفراد الانسان كاتبا، أتكلم عن الضرورة وليس الواقع بطبيعة الحال ، وليس من شك، وعلى ضوء تصديقك بان (بعض الانسان كاتب) تكذب القضية التي تقول: (لا إنسان كاتب). لأن [ صدق أ و صحّة ] الجزئية / بعض الإنسان كاتب / ينفي [ صدق أو صحّة ] السلب المطلق للعلاقة بين ذات الموضوع والمحمول، أي إن قولك الصحيح: (بعض الانسان كاتب) ينفي قولك (لا إنسان كاتب). وإذا توصلتَ إلى أن: (لا إنسان بحجر) يكون بإمكانك أ ن تقرر وبسهولة صدق أو صحة قولك (ليس بعض الانسان بحجر)، لان صدقها ينطوي تحت [ صدق أو صحة ] العنوان الكبير (لا إنسان بحجر)، كما بإمكانك أن تقرر وبسهولة كذب أ و خطا قولك: (كل إنسان حجر) وذلك في ضوء [ صدق أ و صحة ] نقيضها المنفي مطلقا، أي قولك السابق: (لا إنسان بحجر)، كما أنه يمكنك أن تقرر وبسهولة كذب أو خطا قولك: (بعض الإنسان حجر)، لانّها تتناقض أو تتضارب مع الكلية المنفية أو السالبة (لا إنسان بحجر)
لم تعد العلاقة بين القضايا بهذه السهولة على ضوء التطورات المذهلة التي طرأت على مادة المنطق وطرق التفكير، ولكن ما ذكرته هو بدايات مهمة لعملية التفكير منذ البداية.

صياغة القانون
أقصد القانون الطبيعي والاجتماعي واللغوي، وليس القوانين العقلية مثل: ( النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان)، بصرف النظر عما يدور حول القانون المذكور من نقاشات معقدة، أقصد القانون الطبيعي الذي يقول مثلا: (الحديد يتمدد بالحرارة)، أو القانون الذي يقول (الحرارة المفقودة تساوي الحرارة المكتسبة)، وما إليها من قوانين اخرى.
إن القراءة الجديدة لمثل هذه القوانين تكون بلغة إستثنائية محكمة (كل حديد يتمدد بالحرارة ما لم يثبت العكس)، ومنطلق هذا الصياغة هو أن مثل هذه القوانين تجريبية إستقرائية، ومن الصعب إستقراء كل أفراد الحديد، فما يدرينا، لعله يثبت العكس في مكان خارج أرضنا،ومن هنا جاءت الصياغة الجديدة. وبالنسبة لقوانين الرياضيات هناك حوار معقد، فإن رياضيات جديدة مثلا أثبتت أنه بالامكان أ ن نرسم ما لا نهاية من الخطوط الموازية لخط ما من نقطة خارجة عنه، فيما تنفي ذلك هندسة إقليدس نفيا مطلقا ، والعكس كذلك! وذلك تبعا لاختلاف طبيعة المكان الذي تجري عليه العملية الريضاية، فإن هندسة إقليدس هي نتيجة تصور المكان مستويا، ولكن فيما إذا كان مقعرا أو محدبا هناك هندسات أخرى، وقد أتخذت هذه القراءات منحى قويا بعد أ ن أ ثبت أنشتاين أن الكون محدّب.

تشييد هياكل معرفية
من حقك أن تشيد لك بديهات تؤمن بها، مصادرات تؤمن بها، مواضاعات تؤمن بها، ولكن شريطة أن لا تكون متناقضة، بل يجب ويجب أن منسجمة، متناغمة، ثم، من حقك أن تشيد على هذه البدهات والمصادرات والمواضعات هيكلا معرفيا خاصا بك، شريطة أن ينسجم مع تلك الخلفية المنسجمة من البدهات والمواضعات والمصادرات، بهذا تصبح صاحب مملكة معرفية، سواء لها واقع أو ليس لها واقع.
لقد إفترضوا أن الكون محدّب، ثم صاغوا بديهيات ومواضعات ومصادرات تنسجم مع الافتراض المذكور، ثم شيدوا معرفة هندسية جديدة مستلة من هذه المقدمات...
لا حجر على العقل...
لا حجر على الافتراض...
لا حجر على تأسيس خلفيات هائلة من البداهة، لكي تستل بعد ذلك هيكلك المعرفي الخاص بك...
يتبع