يرى كثير من علماء المنطق إن موضوع هذا العلم هو (الفكر، التفكير) الواضح الفعّال، ويرون أن كثيرا من الناس يملك ذكاء حادا وقابلية فذه على التفكير المنطقي ولكن هذه القابلية لم تترجم نفسها واقعيا. ويركز هؤلاء على أن (المنطق) هو العمود الفقري للثقافة الحقيقية، ويرفض هؤلاء أن يكون التفكير المنطقي عبارة عن تعامل مع مصطلحات وكلمات لغوية ورموز منطقية، فربما يكون هناك تعامل من هذا النوع ولكن من دون أن يكون هناك تفكير مفيد ومثمر.ومن أجل أن يجترح هؤلاء في وضع منهجية منطقية للتفكير الصحيح يطرحون الملاحظت التالية على سبيل المقدمة والتمهيد.
أولا: إننا نرتكب كثيرا من الاخطاء في الحكم على الاشياء والحوادث لاننا لم نبذل المزيد من الانتباه للواقع الذي نعيشه (حب، غضب، ربح، خسارة).
ثانيا: وذلك طالما يحدث أو يحصل في الحالات المتشابهة (الملتبسة)، فإن الأشياء وا لظواهر والاحداث المتشابهة تجعلنا غير دقيقين وتروطنا باحكام اعتباطية.
ثالثا: نحن ضحية الفهم الخاطئ عندما نعتقد إن هناك حالات متطابقة،أو متشابهة، بل نفترض أن الحالات سوف تقع، ولكن الفكر الصلب لا يؤيد ذلك، ويرى أن كل حالة هي فريدة، ويبغي أن نكون واعين لقرا ءتها.

كن منتبها!
إن هذه العبارة إ نشائية، أمرية... والانتباه يكلفنا الكثير، فهو يريد منّا أن نكون يقظين، متابعين، ولا يجتمع مع السلبية والسكون!
نعم...
1: لا يكفي ان ننظر، بل يجب أن (نرى).
2: لا يكفي أن نسمع، بل يجب أن (ننصت).
3: لا ينبغي أن نتوجع من التفاصيل، بل يجب الركض ورائها.
4: إن إ همال الامور التافهة والصغيرة هو بداية الجريمة المعرفية، هي التي تقودنا إلى الكبيرة.
ولكي نحصل على الحقائق ينبغي أن نعرف أن (الحقيقة) شي مصنوع أ و مُمارسة، الجوهر هنا هو إمتلاك وجود موضوعي، الحقيقة تملك وجودا موضوعيا، وهي وجود شرس، ملح، مؤذي فيما لو لم ننتبه أو نتعرف عليها.

ولكن هل الموجودات الموضوعية على نسق واحد؟
يوجد نموذجان من الحقائق الموضوعية: ــ
الاولى: الاشياء (بغداد).
الثانية: الحوادث (سقوط نظام صدام حسين).
إن النموذج ا لا ول من الوجود الموضوعي اهم من الثاني، بل لا وجود للثاني من دون وجود موضوعي للاشياء، لا (إشراق شمس) من دون وجود شمس فعلا.
يمكن التأكد من وجود بغداد مباشرة، بالعيش فيها، رؤيتها، ولكن يمكن إ ثبات وجودها بصورة غير مباشرة، فإن هناك الكثير من ا لعرب والمسلمين والاوربيين زاروا بغداد، وفيهم ثقاة، نقل الثقة هنا برهان.

ولكن!
ماذا بالنسبة لحادث سقوط نظام صدام حسين؟ بل ماذا بالنسبة إلى مقتل محمد باقر الصدر مثلا؟ لا يمكن لنا البرهنة المباشرة على ذلك، لان حادث الموت قد مضى، وليس هناك شاهد عيان على قتل محمد باقر الصدر ينقل لنا الحدث، هنا يتعين علينا أن نلجا الى أشياء متنوعة من أجل البرهان، وثائق محكمة محفوظة، تقارير شرطة، الصحافة، وما إلى هنالك من شواهد يمكن بعد تجميعها نصل إلى ا لبرهنة على مقتل محمد باقر الصدر، وهذا هو الطريق غير المباشر.

ترى هل هناك تقسيم للحقائق؟
نعم، يرى علماء المنطق أن هناك أكثر من تقسيم للحقائق، وهذه التقسيمات تنفع كثير في تنظيم فكرنا،وفي جعله أكثر فاعلية وإنتاجا، ومن هذه التقسيمات، أن تنقسم الحقائق إلى: ــ
الأولى: الذاتية، مثل شعوري بوجع راسي،وهو ما يسميه علماء المنطق الاسلاميين بالعلم الحضوري.
الثانية:الموضوعية، مثل معرفتي ببغداد، فإن هذه العاصمة لها وجودان، وجود خارجي (موضوعي) ووجود في داخل ذهني (ذاتي). وهو ما يسمى عند المناطق المسلمين بـ ( العلم الحصولي).
إن أي فكرة موجودة في الذهن لابد أن يكون لها مصدر في الخارج ــ هناك حوار فلسفي طويل حول إطلاقية هذه المعادلة لا أتطرق إليها الان، لان الغرض من هذه المقالات الثلاث طرح تصورات بعض علماء التفكير ــ
إن أي فكرة ذاتية هي إ نعكاس لخارج ما، وهنا يسجل بعض علماء التفكير ملاحظة دقيقة، إ ن الفكرة الذاتية لشييء أو حدث خارجي إذا كانت مضطربة أو مشوشة، فهو دليل على إ ضطراب وتشوش مصدرها الخارجي بشكل من الأشكال.
تتشكل تصوراتنا عن العالم منذ الطفولة، وندين بهذه التصورات إلى الواقع وعقلنا معا، وإن أفكا رنا تكون واضحة وقوية ومشعة فيما إذا كانت علا قتنا بمصدرها قوية،أي بالواقع ا لخارجي، فإن الأفكار الموجودة في ذهننا هي أفكار ذاتية، وهذه منشأها أساسا، وبعد التحليل الدقيق هي الحقائق الموضوعية، وذلك مهما كانت تلك الأفكار الذاتية موغلة بالغيب والغموض والإبهام، ومهما كانت و اضحة مشرقة.

ثلاثة عناصر في عملية التفكير
عملية التفكير تتقوم بثلاثة عناصر،هي: ـ
أولا: الحقيقة الموضوعية الخارجية / كتاب /.
ثانيا: الفكرة الذهنية لهذا الكتاب.
ثالثا: الكلمة التي نتوسل بها إلى الفكرة اتي تتيح لنا إيصال الفكرة بغيرها.
فإذا لم يكن هناك كتاب، لما كانت هناك صورة للكتاب في الذهن، ومن ثم لا توجد هناك كلمة نشير بها إ لى هذا الكتاب الذهني الذي هو إنعكاس للكتاب الخارجي.
العلاقة بين المعرفة الذهنية والواقع الخارجي ليست دائما سهلة، فإن الصورة الذهنية للكتاب يمكن أن نرجع بها إلى الكتاب الخارجي، ولكن ماذا لا وتعاملنا مع كلمة مثل (الديمقراطية)؟ أي صورة ذهنية للديمقراطية؟ ثم أين هو الواقع الذي يمكن تسميته بـ (الديمقراطية)؟
هل من السهولة أن نجد تلك السهولة في المطابقة بين الصورة الذهنية للديمقراطية والواقع الخارجي لها؟
إن الديمقراطية تراث ضخم، يتصل بكمية هائلة من المفردات والمقتربات والأفكار (فلاسفة، سياسيين، حوادث، أنظمة حكم...)، وبالتالي، هناك كمية كبيرة من المصادر التي يعود إليها هذا التصور أو هذه الفكرة، فإذا أردت أن تشير أو تتحدث عن تصورك للديمقراطية يجب أ ن تتحدث عن الجذور الواقعية / الموضوعية الخارجية التي تشكّل المصادر المنشئة لهذا التصور. ومن أجل الحيلولة دون أن تكون أ فكارنا بعيدة عن المثالية الصرفة علينا أن نرجع دائما إلى الأصول الواقعية لهذه الأفكار، وبمقدار ما تكون الأفاكار واضحة في علاقتها بمناشئها الواقعية / الخارجية يكون من السهل إختيار الكلمة التي تشير إليها.
إن وضع كلمة أو علامة أ و إشارة إلى فكرة ليست عملية ميكانيكية، وربما تشكل أحيانا تحديا كبيرا للفكر والمفكرين والعلم وا لعلماء.
إننا نستطيع أن نعي ما نريد،ولكن ليس با لضرورة نستيطع أن نبتكر أو نستخدم الكلمات التي تعيننا على إيصال ما نريد أو ما نفكر به للأخرين، ومن هنا يجب الرجوع إلى الأصول الواقعية للفكرة علّ وضوحها يساعد على تكوين فكرة أكثر وضوحا، ثم كلمة أكثر وفاء لما نريد إيصاله. وفي بعض الأحيان يكون التطابق بين الكلمة والفكرة واضحا لان العلاقة بين الفكرة وأصولها الواقعية شديدة التطابق.

اللغة والمنطق
يؤكد علماء المنطق الحديث وبعد تطورات مذهلة طرأت على قراءات (فن أو التفكير) إن العلاقة بين اللغة والمنطق مصيرية، أو شبه مصيرية، أو لنقل إنها علاقة وثيقة. ومن المهم جدا أن تسترجع الفكرة الذهنية علاقة المنطق باللغة، وهناك حديث أو نزاع فيما هل من السهل أن نحمل في أذهاننا فكرة دونما كلمة دقيقة تعبر عنها بطريقة وأخرى؟
وفي كل لحالات: ـ
[إذا نحن حاولنا ربط فكرة بأخرى يلزمنا إستخدام الكلمات].
وهنا يسجل بعض علماء هذا الفن ملاحظتين مهمتين: ـ
الأولى: إن الكلمات الواضحة المعبِّرة عن الأفكار هي الخطوة الاولى لبناء علاقات صحيحية بين الأفكار.
الثانية: أن نضع الأفكار معا لنشكل الجمل المفهومة.
إن الكلمات هي بمثابة أحجار بناء اللغة، ولكن ا لجملة، والجملة الخبرية بطبيعة الحال هي التي يبدا بها بناء المنطق، لانها الوحيدة التي تستطيع أن نتحدث من خلالها عن الحقيقة وغير الحقيقة، والمنطق يُبنى على أساس ما هو الصحيح وما هو الزائف / هناك نقاش طويل حول هذه النقطة بالذات /
الجملة با لنسبة للمنطق الأكثر إعتبارا وهي يجب أ ن تكون صريحة كاملة، إن الجمل الواضحة بالنسبة للفكر المنطقي هي نفس مقام الحالات الواضحة.
أربع قواعد مهمة يجب أن تضعها في الاعتبار، وهي:ـ
1:لا تفترض إن المخاطب يفهم فكرتك إذا لم تجعلها واضحة.
2: تكلم بجمل كاملة.
3: لا تتعامل مع قيم الجمل وكأنها جمل الحقائق الموضوعية.
4: تجنب لغة (نفي النفي) من أجل الاثبات.
ملاحظة مهمة:
لقد إستفدت في بعض معالم العرض المنهجي للموضوع من كتاب (ا لوجود المنطقي) لأحد اساتذة المنطق الامريكيين (دي، كيو، مكلنري) المطبوع في واشنطن كدليل للتفكير الصحيح للمدارس الامريكية.
يتبع