ما هو موضوع مأساة مكبث؟
هل هو الطموح؟
أم هو القتل؟
أم هو الحسد والغيرة؟
أم هو الخطيئة؟
أم هو الصراع بين الشر والخير؟
اختلف النقاد في ذلك، وكل منهم يستشهد بنص أو ثيمة تشع بما يرّجحه من رؤية، مما يضطرنا أن نقول إنها النظرة ا لتجزيئية في معالجة النص.
إن الطموح ليس شرطا يتحول إلى جنوح، وليس شرطا يتسبب في مجزرة هائلة يستمر نزفها حتى نهاية الفصل الاخير،يبدأ بمذبحة وينتهي بمذبحة، وليس من قواعد الطموح بالضرورة أن تُوظَّف كل غرائز الشر من أجل أهدافه. والقتل هو المظهر العام الذي يشغل تضاعيف النص وحركته، لقد قتل مكبث الملك طمعا، ولكن أصبح القتل فيما بعد طقسا يوميا، إلا أن السبب هنا يختلف، إنه الخوف من القتل ذاته، فمكبث قرر معالجة القتل بالقتل!. والخير والشر طالما يستعين بهما نقاد الفن المسرحي لتشريح المسرح بشكل عام، على أن ا لخير والشر قيم نسبية، تتبع في تحديد هويتها النهائية على مجمل ما تثقفنا به وتثاقفنا عليه. أم هي الخطيئة إذن، أختطفها شكسبير من ثقافة اللاهوت المسيحي لينسجها حركة شاخصة تشع بمعانيها العميقة، ولكن لا ننسى إن الخطيئة هي خطيئة ذات وليس حجر، والدم الذي تكرر ذكره في العمل عشرات المرات في سياق من تداعيات رعب مذهل بمثابة كائن فيزياوي، نتيجة قتل وليس الاخير نتيجة دم.
إن موضوع مكبث هذا وذاك، بقدر ما للنفس من حضور في هذا وذاك، أو بحجم ما لهذا وذاك من حصة من تضاعيف هذه النفس. ولست أشك كثيرا أن شكسبير كان يرسم شخصياته وفق هذه المعادلة الموضوعية حسب تصوري.
لكن من دون شك كان القتل هو اللغة السائدة المتسيّدة على عرش النص، اللغة التي تغلغلت في شرايين النص وجزئياته وحركاته وسكناته، القتل كان مسلسلا دائما، فقد قُتِل الملك، ثم الحارسان، ثم قائد الجيش باكوو،ثم ابن عائلة النبيل مكدف، ثم ابن النبيل مروص، ثم مكبث بالذات، وبطل القتل مكبث نفسه كما هو معلوم.
ليس هنا ك ما يثير الاستغراب في هذه الدراما، فإن القتل الجماعي البشع ظاهرة كونية، تاريخية، والتاريخ حسب منطق الكتب المقدسة بدأ بجريمة قتل مفجعة، وما زال التاريخ يشهد أمثال هذه الفواجع، وهناك من يقتل بدم بارد، ويذهب للمشنقة صلب الاعصاب، جامد القلب، لا يرف له جفن، ولا تأخذه رجفة وهو يصعد المشنقة، رغم أنه قتل غيلة وظلما وإستلابا، ربما آلاف من البشر الأبرياء، ولكن مع كل هذا لم يمرْ بما مرَّ به مكبث ولا الليدي مكبث!
فما الجديد هنا إذن؟
النص الشكسبيري لا يمكن أن تفوته هذه الحقائق، فهي بادية للعيان قبل العقل، فلابد أن نفتش عن سر أعمق. كان القتل بشعا، وكان بغير حق، وكان حالة مرضية، فتَّت الدولة، وقلب الموازين في العلاقات داخل القصر، ولكن ليس ذلك بدعا، وليس بالضرورة كل قاتل ظلما وعدوانا هو(مكبث)، أقصد مكبث الذي عالجه النص الشكسبيري.
أن شكسبير تعمد مقاربة شخصية لها مرضها الخاص بها، إن المشكلة ليست القتل، بل القاتل، القاتل في تكوينه النفسي، في إستعداته الداخلية، في تركيبه الروحي، وليس كل قاتل، بل قاتل من طراز خاص...
إنّه... القاتل مكبث!
ليست الاشكالية في حد القتل، بل في حد القاتل، ليس في الجريمة، بل في المجرم، فإن له مزاجه النفسي الخاص، مزاج مرضي مثير، خاصة وإن مكبث أبدى ندمه منذ اللحظة الاولى التي مضت على قتله للملك! وبدل أن يتحول الندم إلى مُطهِّر روحي، يستحثه على تعديل الموقف، يدفع به لأن يغوض في الدم!
لقد خطوت في الد م بعيدا
بعيدا،فحتى لو لم أخض المزيد
لكان النكوص مرهقا كما المضيّ.
لقد كان مكبث قائدا عسكريا شجاعا، اشترك في الكثير من الحروب، وقتل الكثير حتما، ولكن كل ذلك لم يحول ذاته إلى جحيم لا يطاق، فيما قتله للملك فتح عليه باب جهنم الكبرى، وها هو يسميها بـ (الفعلة الدموية)!
المجرم المحترف يقتل والكون من حوله يرقص ربما طربا، فرحا، جذلا، ليس كل مجرم بالطبع، ولكن هناك من المجرمين من يحقق لذاته أروع لذة نفسية عندما ينقض على جسد بشري ويمثل به، بعد أن يزهق روحه، و لكن ماكبث قتل الملك فكان هناك وجود من طراز آخر، بل إن الوجود تسرب بالدم، وراح يبكي مصيره التعيس.
لقد تسربل الكون بالدم، وانحرفت الطبيعة عن مسارها المعهود، واستحوذ على الوجود سكون أزلي،يزف بشرى الموت الدائم، هكذا يخبرنا شكسبير عن مكبث، ما كان يشعر به مكبث بعد تلك (الفعلة الدموية)، فالدم يعبر عن نفسه من خلال هوية القاتل، من خلال طبيعة تكوينه النفسي، خفايا ضميره، إعتمالات هواجسه، مكونات تاريخه الفكري والاجتماعي، وبالتالي، ليست مآساة مكبث ترا جيديا حدث بقدر ما هي تراجيديا ذات لها خصوصياتها، هي إشكالية، ولكنها إشكالية شخصية بالدرجة الاولى، وحدث بالدرجة الثانية، وبهذا المنظور سيكون نص شكسبير آخر فيما لو أن مكبث كان الملك المقتول وليس القائد العسكري القاتل.
التصدّع كان ظاهرة بارزة في المأساة، تصدّع الذات في البداية، تصدّع الكون، تصدّع الدولة، تصدّع الحياة، على أن المنبع هو الذات، حيث دخلت في ملكوت الإنشقاق الجسدي، والتشطّر الكياني والتفتت الوجودي، وكون كل شي أصبح عبارة عن (أُلهية) كما صرخ مكبث تعبير عن عبثية الصور الذهنية التي هي إنعكاس لعبثية كل شي في نظر القاتل.
لقد بدأ تصدّع الذات قبيل عملية القتل، في اللحظة التي تحقق فيها شي من نبؤة الساحرات، حيث يمهد ذلك لولادة الحدث التاريخي: ـ
(لماذا آراني أستسلم لذلك الايحاء الذي صورته الراعية ينتصب لها شعري، وتجعل قلبي المسكين يقرع أضلاعي، شذوذا عن طبيعتي؟ إن مواضع الخوف الراهنة لأخف وقعا من ا لتخيلات المرعبة، وأ ن فكري الذي ليس القتل فيه إلاّ متخيلا، ليزلزل كياني الموحد إنسانا حتى ليختنق الفعل في التكهن، وما من حقيقي إلاّ الذي ليس بالحقيقي).
لقد اصطبغ الدم بنكهة الذات، وليس العكس، فكان قمينا،أن يحول الخيانة إلى شجاعة، وأن يقلب الكون من سر يتجلى في علنِ جميل إلى علن يختفي وراءه شر مستطير، أن يحتل الشر مكان الخير والخير يذوب إلى الابد، أن يتحول الواقع إلى شبح... فما كان للدم كل هذه القوة الشيطانية المذهلة لو لم يكن لها سابق عهد في أعماق القاتل. الدم يتكلم باسم الذات، والذات تطعم الدم تشحن الدم بخباياها القصية...
أتكلم عن الدم الآثم...
هل هو الطموح؟
أم هو القتل؟
أم هو الحسد والغيرة؟
أم هو الخطيئة؟
أم هو الصراع بين الشر والخير؟
اختلف النقاد في ذلك، وكل منهم يستشهد بنص أو ثيمة تشع بما يرّجحه من رؤية، مما يضطرنا أن نقول إنها النظرة ا لتجزيئية في معالجة النص.
إن الطموح ليس شرطا يتحول إلى جنوح، وليس شرطا يتسبب في مجزرة هائلة يستمر نزفها حتى نهاية الفصل الاخير،يبدأ بمذبحة وينتهي بمذبحة، وليس من قواعد الطموح بالضرورة أن تُوظَّف كل غرائز الشر من أجل أهدافه. والقتل هو المظهر العام الذي يشغل تضاعيف النص وحركته، لقد قتل مكبث الملك طمعا، ولكن أصبح القتل فيما بعد طقسا يوميا، إلا أن السبب هنا يختلف، إنه الخوف من القتل ذاته، فمكبث قرر معالجة القتل بالقتل!. والخير والشر طالما يستعين بهما نقاد الفن المسرحي لتشريح المسرح بشكل عام، على أن ا لخير والشر قيم نسبية، تتبع في تحديد هويتها النهائية على مجمل ما تثقفنا به وتثاقفنا عليه. أم هي الخطيئة إذن، أختطفها شكسبير من ثقافة اللاهوت المسيحي لينسجها حركة شاخصة تشع بمعانيها العميقة، ولكن لا ننسى إن الخطيئة هي خطيئة ذات وليس حجر، والدم الذي تكرر ذكره في العمل عشرات المرات في سياق من تداعيات رعب مذهل بمثابة كائن فيزياوي، نتيجة قتل وليس الاخير نتيجة دم.
إن موضوع مكبث هذا وذاك، بقدر ما للنفس من حضور في هذا وذاك، أو بحجم ما لهذا وذاك من حصة من تضاعيف هذه النفس. ولست أشك كثيرا أن شكسبير كان يرسم شخصياته وفق هذه المعادلة الموضوعية حسب تصوري.
لكن من دون شك كان القتل هو اللغة السائدة المتسيّدة على عرش النص، اللغة التي تغلغلت في شرايين النص وجزئياته وحركاته وسكناته، القتل كان مسلسلا دائما، فقد قُتِل الملك، ثم الحارسان، ثم قائد الجيش باكوو،ثم ابن عائلة النبيل مكدف، ثم ابن النبيل مروص، ثم مكبث بالذات، وبطل القتل مكبث نفسه كما هو معلوم.
ليس هنا ك ما يثير الاستغراب في هذه الدراما، فإن القتل الجماعي البشع ظاهرة كونية، تاريخية، والتاريخ حسب منطق الكتب المقدسة بدأ بجريمة قتل مفجعة، وما زال التاريخ يشهد أمثال هذه الفواجع، وهناك من يقتل بدم بارد، ويذهب للمشنقة صلب الاعصاب، جامد القلب، لا يرف له جفن، ولا تأخذه رجفة وهو يصعد المشنقة، رغم أنه قتل غيلة وظلما وإستلابا، ربما آلاف من البشر الأبرياء، ولكن مع كل هذا لم يمرْ بما مرَّ به مكبث ولا الليدي مكبث!
فما الجديد هنا إذن؟
النص الشكسبيري لا يمكن أن تفوته هذه الحقائق، فهي بادية للعيان قبل العقل، فلابد أن نفتش عن سر أعمق. كان القتل بشعا، وكان بغير حق، وكان حالة مرضية، فتَّت الدولة، وقلب الموازين في العلاقات داخل القصر، ولكن ليس ذلك بدعا، وليس بالضرورة كل قاتل ظلما وعدوانا هو(مكبث)، أقصد مكبث الذي عالجه النص الشكسبيري.
أن شكسبير تعمد مقاربة شخصية لها مرضها الخاص بها، إن المشكلة ليست القتل، بل القاتل، القاتل في تكوينه النفسي، في إستعداته الداخلية، في تركيبه الروحي، وليس كل قاتل، بل قاتل من طراز خاص...
إنّه... القاتل مكبث!
ليست الاشكالية في حد القتل، بل في حد القاتل، ليس في الجريمة، بل في المجرم، فإن له مزاجه النفسي الخاص، مزاج مرضي مثير، خاصة وإن مكبث أبدى ندمه منذ اللحظة الاولى التي مضت على قتله للملك! وبدل أن يتحول الندم إلى مُطهِّر روحي، يستحثه على تعديل الموقف، يدفع به لأن يغوض في الدم!
لقد خطوت في الد م بعيدا
بعيدا،فحتى لو لم أخض المزيد
لكان النكوص مرهقا كما المضيّ.
لقد كان مكبث قائدا عسكريا شجاعا، اشترك في الكثير من الحروب، وقتل الكثير حتما، ولكن كل ذلك لم يحول ذاته إلى جحيم لا يطاق، فيما قتله للملك فتح عليه باب جهنم الكبرى، وها هو يسميها بـ (الفعلة الدموية)!
المجرم المحترف يقتل والكون من حوله يرقص ربما طربا، فرحا، جذلا، ليس كل مجرم بالطبع، ولكن هناك من المجرمين من يحقق لذاته أروع لذة نفسية عندما ينقض على جسد بشري ويمثل به، بعد أن يزهق روحه، و لكن ماكبث قتل الملك فكان هناك وجود من طراز آخر، بل إن الوجود تسرب بالدم، وراح يبكي مصيره التعيس.
لقد تسربل الكون بالدم، وانحرفت الطبيعة عن مسارها المعهود، واستحوذ على الوجود سكون أزلي،يزف بشرى الموت الدائم، هكذا يخبرنا شكسبير عن مكبث، ما كان يشعر به مكبث بعد تلك (الفعلة الدموية)، فالدم يعبر عن نفسه من خلال هوية القاتل، من خلال طبيعة تكوينه النفسي، خفايا ضميره، إعتمالات هواجسه، مكونات تاريخه الفكري والاجتماعي، وبالتالي، ليست مآساة مكبث ترا جيديا حدث بقدر ما هي تراجيديا ذات لها خصوصياتها، هي إشكالية، ولكنها إشكالية شخصية بالدرجة الاولى، وحدث بالدرجة الثانية، وبهذا المنظور سيكون نص شكسبير آخر فيما لو أن مكبث كان الملك المقتول وليس القائد العسكري القاتل.
التصدّع كان ظاهرة بارزة في المأساة، تصدّع الذات في البداية، تصدّع الكون، تصدّع الدولة، تصدّع الحياة، على أن المنبع هو الذات، حيث دخلت في ملكوت الإنشقاق الجسدي، والتشطّر الكياني والتفتت الوجودي، وكون كل شي أصبح عبارة عن (أُلهية) كما صرخ مكبث تعبير عن عبثية الصور الذهنية التي هي إنعكاس لعبثية كل شي في نظر القاتل.
لقد بدأ تصدّع الذات قبيل عملية القتل، في اللحظة التي تحقق فيها شي من نبؤة الساحرات، حيث يمهد ذلك لولادة الحدث التاريخي: ـ
(لماذا آراني أستسلم لذلك الايحاء الذي صورته الراعية ينتصب لها شعري، وتجعل قلبي المسكين يقرع أضلاعي، شذوذا عن طبيعتي؟ إن مواضع الخوف الراهنة لأخف وقعا من ا لتخيلات المرعبة، وأ ن فكري الذي ليس القتل فيه إلاّ متخيلا، ليزلزل كياني الموحد إنسانا حتى ليختنق الفعل في التكهن، وما من حقيقي إلاّ الذي ليس بالحقيقي).
لقد اصطبغ الدم بنكهة الذات، وليس العكس، فكان قمينا،أن يحول الخيانة إلى شجاعة، وأن يقلب الكون من سر يتجلى في علنِ جميل إلى علن يختفي وراءه شر مستطير، أن يحتل الشر مكان الخير والخير يذوب إلى الابد، أن يتحول الواقع إلى شبح... فما كان للدم كل هذه القوة الشيطانية المذهلة لو لم يكن لها سابق عهد في أعماق القاتل. الدم يتكلم باسم الذات، والذات تطعم الدم تشحن الدم بخباياها القصية...
أتكلم عن الدم الآثم...
التعليقات