الموسيقى المرتفعة أو كلام الأفلام ونشرات الأخبار عربية كانت أم أجنبية على اتساع مدى الصوت كان أمرا اعتياديا تأقلم معه سكان الحي على مضض حين يجدون مصدره شقة أسامة. فالشاب الثلاثيني لم يتمكن يوما من النوم مع زوجته إلاّ بعد استكمال عدد من الإجراءات الأمنية الإعتيادية من إقفال للأبواب والستائر وإطفاء لكل الأنوار ليلا ونهارا ليتوجها بإشعال التلفاز ورفع الصوت عاليا في الأجواء.
تنزعج الأمهات لا شك حين يحاولن عيثا إرسال أولادهن إلى النوم، والآباء يشتمونه حتما فمنهم من هو من المصلين الذين ليسوا عن صلاتهم ساهون ومنهم من يحبذ النوم باكرا ومنهم من يمثل دور ناظر المدرسة لأولاده وهو يحاول تدريسهم وجعلهم من المجتهدين رغم أنه يعرف تمام المعرفة أنه لن يفلح في ذلك أبدا فجيناتهم ورثت الفشل والكسل كاملا.
كل ذلك يحدث وأسامة وزوجته لا يأبهان بأحد؛ فهما بالكاد يسمعان صوتيهما حتى. لكن تلك الليلة لم تكن ككل الليالي حين قام محمود الموظف في محطة إستقبال البث الفضائي، التي تغذي شاشات المنطقة ومعها تلفاز أسامة بالإشتراكات، بفعلته.
حلّ الليل وغرقت السماء بالظلام.. عاد السكان إلى منازلهم.. إمتلأت بطون الآباء وجفّت أفواه الأمهات وهن يحاولن تأنيب أولادهن.. واعترك من اعترك منهم ونام من نام وسهر من سهر..وخرج الشبان إلى نواصي الشوارع بأراكيلهم وكراسيهم.. هدأت الطرقات وركن السائقون فاناتهم.. واحتل السبات الثابت المكان تنساب من خلاله ألحان ربابة وصوت حزين شجي لمستمعيه يناجي البحر ويقول: quot;يا بحر يا غدار اشفق على حالي رملك حرقني بنار موجك ما طفاني ارحمني يا غدار اشفق على حاليquot;.
أسامة كان غارقا مع زوجته في العسل وصوت فيصل القاسم يفصل بين متعاركين يصخب في الأجواء ويربط المشرق بالمغرب، وأم سعيد من مصطبتها المواجهة وquot;القلوب المليانة التي لا علاقة لها بالرمانةquot; كانت التي صرخت على وقع أصوات الشريط الجنسي المرتفعة، بعد تلاعب محمود بالقنوات، ترتفع أكثر وأكثر من صراخ وكتمان أهل الحي جميعا في ليالي أنسهم وتلج بيتها الطاهر-استغلالا للحظة الحاضرة- دونما استئذان، وبدأت وصلتها المعتادة؛ quot;يا عكاريت يا كلاب تفو عليكن وعلى أخلاقكنquot;.. يستيقظ الحي بأكمله ويتأهب للجهاد.. فكأن أم سعيد قد نفخت في الصور. تنتقل الموجة المكسيكية بين باقي المصاطب على امتداد الشارع؛ تلك تشتم، وذاك يهدد ويرمي تفاحة تنفجر على أحد جدران الشقة، وغيره يبصق، ومنهم من يرفع يديه إلى السماء ويدعو لأسامة بالتوبة النصوح حتى تكاد الكواكب تسقط من دعائه.
أسامة أقفل الأبواب والنوافذ وشدّ الستائر مجددا.. فالأصوات آتية من الخارج هذه المرة تتنفس حسدا وغيرة وتتحول بغضا.. لكن من يجرؤ على منع أسامة من الإستمتاع بليلته!!؟