(إن صوتاً واحداً شجاعاً أكثريةٌ)
الإمام علي

كريم عبد:ربما كان أحد الأسباب الرئيسية في قلّة المفاجآت الأدبية، هو اقتصار قراءات الأدباء على الأدب في الغالب، وهذا منزلق يصعب الخلاص منه بسهولة، خصوصاً مع عدم وجود نشاط نقدي ملحوظ. لأن الإدمان على قراءة الأدب فقط، يُحوّل الإنسان إلى كائن كُتُبي (bookish) ما يؤدي إلى إبعاده عن الواقع أكثر فأكثر، أي يلغي لديه مصدر تجدد اللغة والخيال، بل وأيضاً إبعاده عن المختبر الحقيقي لتجاربة الأدبية نفسها، أي الحياة اليومية الزاخرة بتجارب الآخرين ومفارقات حياتهم وتعدد ثقافاتهم وتنوع مستوياتها، الأمر الذي يؤدي إلى جعله أقل إنسانية، أي أقل عمقاً في فهم الآخرين والتواصل معهم. الآخرون الذين شكلوا وعيه وعواطفه، بل يشاركونه في تأليف نصوصه دون أن يشعر بذلك. أن مفرداته الأولى التي شكَّـلتْ وعيه ونوازعه مستمدةٌ منهم ومن ثقافتهم التي تبدو له أحياناً، أو ربما دائماً، أنها سطحية وعابرة، فهو دون أن يشعر أو بسبب نقص المعرفة هذا، لا يدري بأنه عندما يريد التهرب منهم إنما يريد التهرب من ثقافته وإنسانيته، أي التهرب من إتخاذ موقف مسؤول مما يجري حوله، وهنا تكمن النقطة التي تميز كاتباً عن آخر.
واستطراداً، تجد روائيين لا يطالعون سوى الروايات وشعراء لا يطالعون سوى الشعر!! مُهمِلينَ التاريخ وتاريخ الشخصيات والظواهر السياسية والفكر السياسي والأنتربولوجيا والمعرفة عموماً!!
إذا لم يكن الكسل العقلي هو سبب هذا الإهمال، فهو موقف مقصود في الغالب. وإذا لم يُدركوا تأثيرات غياب هذه المعارف على مواقفهم وثقافتهم، فكيف يستطيعون إدراك الوشيجة بين المعرفة وبين الواقع؟! تلك الوشيجة التي هي منبع ولادة اللغة وتجددها، أي مصدر إنتاج النصوص والأفكار.
لم يكن بوسع ماركيز مثلاً تقديم (ليس لدى الكولونيل من يكاتبه) التي يعتبرها أهم رواياته، وكذلك (مائة عام من العزلة) وغيرهما لو بقيَ متأثراً بديستويفسكي وفوكنر، أي لولا عودته لوقائع التاريخ السياسي وكذلك تاريخ الخرافات والأساطير وجروح الإنسان في منطقته، أي الثقافة المحلية (Local culture (بتاريخها الطويل، وكذلك فعلَ العديد من الكتّاب في أمريكا اللاتينية. ومن الكتّاب الأكثر ذكاءً أمين معلوف الذي قدم لنا مجموعة من أجمل الروايات بعد تطوافه في تاريخ العديد من شعوب الشرق، المنطقة التي ينتمي إليها. وقبل أن يتطوع البعض في إيراد أسماء أخرى عربية وغير عربية قدمت نصوصاً روائية أو قصصية في نفس الإتجاه، وهو أمر صحيح أيضاً، فإن السؤال الذي نود طرحه من خلال كل ذلك هو: كيف تتطور لغة الكاتب وتتجدد رؤاه؟! أي ماهي العوامل التي تؤدي إلى هذا التطور في لغة الأدب؟! ولأن الأدب الإنساني واحدٌ من حيث الجوهر، نستطيع أن نتسائل أيضاً: لماذا لم يستطع الأدب الحديث عموماً أن يُنتج نصوصاً تضاهي القمم الكلاسيكية المعروفة؟!
لنبدأ من السؤال الأخير، لنجد أن الأدب الكلاسيكي، بدءاً بملحمة كلكامش مروراً بهوميروس وفرجيل وليس إنتهاءً بديستويفسكي، هو أدب الجماعات المتصادمة أو تلك التي شردتها الحروب فصارت تبحث عن مكان وهوية جديدة، أو تلك الأروح الهائمة المتصادمة مع نوازعها الداخلية، والتي تبحث عن معنى لوجودها. أنه أدب الأسئلة. وكل هذا كان يستدعي موقفاً مشاركاً من قِبل الكاتب نفسه. موقفاً عملياً يقترن بدفع ثمن عادةً، حتى لتبدو الأحداث وكأنها هي التي تصنع الكاتب بقدر ما هو يصنعها، ففي الغالب ليس بوسعنا أن نفصل تجربة الكاتب عن الأحداث التي كتب عنها، وأحياناً يَصعب فهم النص من دون فهم الخلفية التاريخية التي يستند إليها.
ففي خضم التجربة ومفارقاتها ومخاطرها، يكتشف الكاتب لغته وعوالمه الداخلية ليتجدد خياله ورؤاه في هذا الخضم. وكل هذا يحدث عبر قيم شارك الكاتبُ الجماعةَ في الإيمان بها والدفاع عنها، وهذا هو معنى قول نقاد الأدب الكلاسيكي: (أن الألياذة تعلمنا القيم أكثر مما تفعل جميع الفلسفات النظرية). لقد كانت اللغة بكراً، والأسئلة الإنسانية تُجدِّدَها مشقّات التجربة دائماً، تجددها في مواجهة اللغة ذاتها وإمتحان الثقافة التي تقف وراءها.
كان عقلُ الكاتبِ وخيالُهُ حُرَّين، وهما مختبر لكل تلك التجارب. فقد واجه المبدع والمفكر إنقلابات التجربة الإنسانية ومفارقاتها من حيث كان يواجه حيرته هو إزاء كل ما يحدث. كان الأدب أدباً والفكر فكراً والسياسة سياسةً والحرب حرباً، كانت ثمة ثقافة وقيم ثقافية يخضع لها قرار السياسي وسلطته. السياسي الذي يطمح أن يكون فارساً كي يبقى كذلك، وعليه كان لا بد له من ثقافة وقيم إلى جانب الشجاعة والسيف وإلا أصبح أحمقَ أو تابعاً لمن هو أكثر منه حكمة وقوة. كان هذا أيضاً، هو شرط وجود المبدع والمفكر كي يكون لائقاً وجديراً بالفرسان والمفكرين والمبدعين الآخرين، أي أن يكون لائقاً وجديراً بعصره. لم يكن وقتذاك ثمة مؤسسات وشروط وممولين، بل كان المفكر والمبدع هو المؤسسة وهو المرجع حتى لو اضطر أن يعتمد على جهة ما أحياناً.
ومقابل ذلك، كان على الحاكم والفارس والمجتمع أن يحترموا شروط المفكر والمبدع أو شروط ثقافته ومعناها وتأثيرها حتى لو أختار العزلة أو الهامش، بل حتى عندما يتعرض للاضطهاد أو قسوة الظروف، فقد كان المعنيون يعرفون أن مكانتهم وحضارتهم ستكون ناقصة بدونه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما تطورت تلك الحضارات ووصلت إلى ما وصلت إليه. لقد كان المفكر والمبدع يتقاسم الفروسية مع الفرسان حتى عندما تقهره قوى متخلفة، لا أن ينتظر فتات عطاياهم، وعلى هذا الأساس نشأت البذور الأولى والعظيمة للديمقراطية الأغريقية، الديمقراطية التي كانت ثمرة للصراعات الاجتماعية الرهيبة وإنعكاساتها على الإبداع والفكر الكلاسيكي فتطورت مع تطوره. ولذلك نجد تداخلاً بين التاريخ الثقافي والتاريخ السياسي عند الشعوب التي تركَّزَ فيها الإنتاج المعرفي والأدبي أكثر من سواها. إن واحداً من أهم العوامل التي كانت تقف وراء أمجاد أثينا القديمة وعظمتها، هو احترام الإنسان كقيمة عليا، يقول المفكر الأغريقي بروتوغروس (إن كلَّ شيءٍ في الكون يُقاس، من حيث قيمته، بالنسبة إلى الإنسان). فنجدُ الترجمة السياسية والحقوقية لهذا المفهوم، في قول بركليس، الذي حكم أثينا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، في مرثاته الخالدة لتكريم شهداء الحرب البيلوبونيسية الرهيبة بين أثينا وسبارطة 431 ق.م حيث قال (ليس هنالك من مواطنين بيننا يشعرون أن أسيادهم أدنى وأحقر من أن يكونوا أسياداً) وهذا ما يضعنا في مواجهة مفارقة حساسة في تجربتنا نحن العراقيين والعرب المعاصرين عموماً، سنعود إليها لاحقاً في سياق المقال.
أنواع متعددة من العبودية!!

وإذا كان لكل عصر ظروفه ومفارقاته، فإن موقف المبدع والمفكر وشروط نتاجه، ستظل كما هي، من حيث الجوهر، في جميع العصور، وكل ما نحسبه مختلفاً سنجده ينتمي للتفاصيل.
لنعد إلى السؤال الأول إذن: كيف تتطور لغة المثقف المعاصر وتتجدد رؤاه؟! أي ماهي العوامل التي تؤدي إلى هذا التطور في لغة السرد الأدبي والفكري؟!
عندنا في الأدب العربي المعاصر عموماً، إذا استثنينا قلة من الكتاب، نجد إشكالية إعادة إنتاج اللغة الأدبية وتكرارها ظاهرة واضحة، بل بدأ الحديث عن (جدار اللغة) منذ منتصف السبعينات، كدليل على تحول هذه اللغة المتكررة في نصوص الأدباء إلى جدار صعب الأختراق، ولذلك ظل الأدب العربي يراوح في مكانه، أو يتطور ببطء، منذ ذلك الحين!! أي أنه أدب يعيش تحت عبودية اللغة المتكررة. تظهر العديد من الأسماء في كل جيل ومعها تصدر المئات من الكتب ولكن ما يؤثر ويبقى هو قليل جداً، كنتيجة لعدم توفر القدرة دائماً على إبتكار رؤى جديدة أي لغة جديدة. والسبب الأساسي، بعيداً عن أية تعقيدات تنظيرية، هو أن غالبية الكتّاب ليس لديهم مواقف حقيقية مما يدور في بلدانهم، وبالتالي فليس لديهم أسئلة وهواجس إنسانية خاصة حول ما يدور في مجتمعاتهم من أزمات، فكيف، والحالة هذه،، يمكن أن تتجدد رؤاهم ولغتهم؟! من هنا جاءت سطوة اللغة المتكررة لتستعبد مشاعرهم ونصوصهم.
على أن البعض يعيش تحت وطأة أنواع أخرى من العبودية، وخاصة جراء الخوف من فقدان إمتيازات ذاتية معينة، أو مُفترضة، أي إمتيازات لا يملكها أساساً، أي أنه يتوهم إمكانية إمتلاكها لاحقاً!! فتسيطر عليه أنانيته، أو تلك الملكية المتوهمة أو المتمناة وتستعبده!! فيصير يدافع عنها بمزيد من التخاذل أمام الحقائق، وكأن التخاذل هو شرط من شروط الحصول على الأمتياز أو الجائزة!! لكن هذا المستوى من الدباقة الدنيوية يتناقض مع روح الأدب والإبداع المعرفي. لماذا إذن يصر البعض على المتاجرة الثقافية ولا يفتش عن تجارة أخرى أنفع له وأكثر ربحاً؟!
وهناك مصدر آخر للعبودية، سببه الخوف من نجاح الآخرين!! وكأن البعض يعتقد إن حضور أسماء معينة وتكريسها سيؤدي إلى تهميشه وإقصائه من (التاريخ الثقافي)!! وهنا سنكون أمام أزمة أخرى هي أزمة عدم الثقة بالنفس!! أو تلك النرجسية العمياء التي تجعل، لا الثقافة فقط، بل الحياة نفسها نوعاً من الضغينة والتوتر الدائم بالنسبة لأصحابها!! ومن هنا تنشأ الصغائر والأحقاد المريضة الشائعة في الأوساط الأدبية والتي لا يتحدث عنها أحد رغم شيوعها، ورغم أضرارها الأخلاقية والثقافية الفادحة.
أن العبودية، بأشكالها المختلفة، لا تُنتج إبداعاً بل أوهاماً وأكاذيب. هذا من ناحية الموقف والمعنى المترتب عليه، أما من ناحية الشكل والتفاصيل، فإن تراكم القراءات الأدبية يُنتج لغة وتصورات محصورة داخل العوالم المحددة بتلك القراءات، أي خيالات تكرر إنتاج نفسها. لكن الأسئلة والهواجس الخاصة التي تلاحق بعض الأدباء تدفعهم للبحث في كل شيء، في التاريخ وفي علم السياسة ومفارقاتها وفي الفكر الإنساني قديماً وحديثاً. إن قراءاتٍ عميقةً وجادةً من هذا النوع سيكون بوسعها أن تزيح تراكم القراءات الأدبية أو تغربلها، أي تُخرج الكاتب من شرنقة اللغة المتكررة، ليواجه العالم من جديد فيبتكر لغةً أخرى مختلفة كي يَعبرَ بها إلى أماكن أخرى في خياله الإبداعي، كنتيجة لمواجهاته في الثقافة وفي الحياة الواقعية اليومية والقضايا الجوهرية، بعد ذلك حين يعود إلى الأدب أي إلى الكتابة يعود برؤى وأدوات مختلفة.
ولكن لنعيد السؤال أيضاً: هل المسألة بهذه السهولة؟! أي هل نستطيع أن نجدد لغتنا ونصبح قادرين على الإبتكار بمجرد أن نوسع قراءاتنا لتشمل التاريخ والفكر السياسي والمعرفة؟! الجواب هو: (نعم و لا) متداخلة تماماً. فالدخول إلى تلك العوالم ضروري، لكن المسألة ليست مجرد رغبة، أي ليس لمجرد أننا نريد أن نبتكر لغة جديدة فنقرأ كذا وكذا لكي نصبح مبدعين. أنما هناك سؤال مرادف أو متولد عن السؤال السابق، وهو كيف ولماذا؟ أي لماذا نريد وكيف نصل إلى ما نريد، أي ما هي طبيعة دوافعنا وأدواتنا؟ إذا كانت دوافعنا سهلة لدرجة التصور بأننا لمجرد رغبتنا أن نكون مبدعين فعلينا أن نفعل كذا وكذا، فإن النتائج ستأتي تبسيطة بل سطحية أي لا جدوى منها، لأن نوعية الدوافع في الأدب والثقافة والحياة عموماً توصلنا إلى نتائج مشابهة لها.
أن الأدباء، والمثقفين في البلاد العربية عموماً، هم ضحايا لمفاهيم شكلية من ناحية الهيئة وسيئة من ناحية المضمون. شكلية لدرجة مفرطة، فالشاب الذي يبدأ حياته بالقراءات الشعرية وهو متأجج الروح والمشاعر، لا يجد واقعاً يستوعب تأججه هذا، ففي ظل غياب الحرية والعدالة في البلدان العربية لم تعد ثمة حياة حقيقية وعميقة تشجع الإنسان على الأمل والتواصل!! ولكن من هنا أيضاً تصبح للأدب والثقافة أهمية إستثنائية، لا من أجل أن نستعيض عن الحياة الواقعية بمواد خيالية هي النصوص، بل أن نجعل لهذه النصوص قيمة أهم، قيمة البحث عن المعنى، وأهميتها بأن تجعل الحياة أقل صعوبة، وكذلك أهمية أن تجعل إبتذال الطغيان في مواجهة جمال العدالة، أي أن تحوّلَ الطغيان إلى فضيحة للمستفيدين منه والصامتين عنه!!
لنعيد ما قلناه قبل قليل محاولين فهم الإلتباس: أن الأدباء، والمثقفين في البلاد العربية عموماً، هم ضحايا لمفاهيم شكلية من ناحية الهيئة وسيئة من ناحية المضمون. شكلية لدرجة مفرطة، فالشاب الذي يبدأ حياته بالقراءات الشعرية وهو متأجج الروح والمشاعر، لا يجد واقعاً يستوعب تأججه هذا، ناهيك عن وجود قيم نقدية تضبط إيقاعه وتوجّه مشاعره، ليجد لاحقاً أن العديد من مشاهير الأدب الذين قرأ لهم وتمنى أن يكون مثلهم، يلعبون على حبال المؤسسات والقوى النافذة، ويحسبون لكل صغيرة وكبيرة ألف حساب لكي تأتي النتائج مربحة أو من دون خسائر في الأقل. فيجدهم يتصدرون الواجهات والمهرجانات ويتقاسمون الجوائز، ويجد أيضاً أن لجان منح الجوائز تحسب لكل هذه الصغائر والفهلوات في سوق الأدباء حساباً، فيكون المتوقع أن ينال الجائزة فلان لكن النتيجة تتغير في اللحظة الأخيرة لأنهم يكتشفون بأن أديباً آخر أكثر تتطابقاً مع مواصفات الجائزة، وأكثر أريحية في تمثيل الدور المطلوب!!
ولكنه، أي الأديب الشاب، لا ينتبه إلى كون الاستغراق في هذه التفاصيل يؤدي إلى ربح الجوائز وحضور المهرجانات أحياناً، لكنه أيضاً يؤدي أيضاً إلى خسارة المرء لنفسه، أي خسارة أسئلته الخاصة وهواجسه واعتداده بذاته، فيخسر الأدبُ جوهرَهُ وقيمتَهُ. وهكذا نجد أن الكثير من الأدباء الجدد يخسرون اللعبة قبل دخول الملعب!! أي يخسرون أنفسهم قبل أن تُدرج أسماءهم على قوائم المرشحين للجوائز.
وربما بقي البعض معتداً بإنسانيته وقيمه لكنه أحياناً يكون ضحية لمفاهيم أخرى لا تقلّ سوءاً، فيرتد إلى الخيال المحض في الغالب، يعزز عنده هذا المنحى إبتعاده المفرط عن الواقع من جهة ومن جهة أخرى سقوطه تحت وطأة الرؤية المثالية لشخصيات الشعراء السالفين وللشعر نفسه.
الرؤية المثالية التي تقدمها بعض الكتب، تلك الكتب المغرية التي تتحدث عن (الشاعر الذي يجلس على محور الكون... الخ) فهو يُصدّق كل ذلك ولكن دون أن يسأل نفسه مثلاً: ما المقصود بمحور الكون هذا، وأين يقع، وكيف يمكن الوصول إليه؟! وما هو الفرق بين عصرك وبين عصر أمرىء القيس وحياته وتجربته؟! ما هو الفرق بينك وبين رامبو؟! أو بين رامبو وبين دانتي؟! أليس هؤلاء وأمثالهم وصلوا إلى قمة الإبداع رغم إختلاف عصورهم وشخصياتهم وتجاربهم الفردية؟! ألم تكن مواقفهم ومواجهاتهم هي القاسم المشترك في تاريخهم الشخصي، وهي التي أوصلتهم إلى ما وصلوا إليه؟! هل كرر أحدهم تجربة الآخر وأدواته؟! أليس المقصود ب(محور الكون) هو جوهر التجربة الإنسانية؟! ذلك الجوهر الذي قد تجده في القضايا الكبرى، وقد تجده أحياناً في تفاصيل الحياة اليومية. المهم أن تجد (محور الكون) هذا، أي المعنى. وستجده حتماً إذا لم تكن قد خدعتَ نفسك أو كذبت على الآخرين، أو أنك لا تستطيع الصمت عن قول الحقائق التي تعرفها لأنك لا تستطيع أن تعيش جباناً، فليس من المعقول أن تكون جباناً ومبدعاً في الواقت نفسه.
وعندما لا تستطيع الصمت عن الحقائق التي تعرفها، ينبغي أن تُحسن قولها، وقولها بطريقتك الخاصة، لأن قول الحقائق بطريقة مضطربة ليس الطريقة المثلى لإيصالها إلى الآخرين، بل ربما ألحق ذلك ضرراً بالحقيقة وقائلها، وهنا تتجسد نوعية الثقافة التي تحمل كل مثقف.
وعلى ذكر المتاجرة الثقافية، فعندما يُمجد ناقد معين نصاً رديئة لحساباته الخاصة، فهو لن يستطيع تحويله إلى نص عظيمة مهما استخدم من فبركات ومصطلحات، بل ما يحدث عادة هو أن يخسر الناقد مصداقيته وسمعته، في حين يبقى النص الرديء رديئاًً حتى لو مجده عشرات النقاد.
أن الثقافة السطحية لا تطرح على صاحبها أسئلة مهمة، بل هي تبحث عن مردودات سهلة وسريعة، فالشاعر والقاص والروائي والناقد في هذه الحالة، يعتقد أن اللغة هي مجموعة كلمات، كلمات تداولها السابقون وأصبحوا مشاهيرَ، فعلينا أن نكرر ما قاموا به لنحصد ما حصدوا. وهنا نكون أمام فهم سطحي للغة ذاتها، فهم سطحي يؤدي إلى عملية تلاعب بالكلمات ناتجة عن محاولة للتلاعب بالقيم المعرفية والإنسانية!! لكن الكثيرين لا يشعرون بأن أول ضحايا هذه المحاولة هي الكلمات أو النصوص ذاتها. الأدب العربي الحديث هو في الغالب تلاعب بالكلمات، لكن الأدب الحقيقي هو لعب داخل عوالم اللغة، لعب في مكنوناتها وجوهرها لتفكيكها واكتشافها من جديد، من أجل إعادة خلقها.
ولا يمكن أكتشاف هذا الجوهر وتلك المكنونات إلا إذا أكتشف الأديب كلماته في جروح أيامه ويديه، وفي ملامحه الأخرى غير المرئية بالضرورة. وكذلك في الكوارث التي يعيشها الناس في بلده، حيث يتشرد الإنسان ويجوع أو يُقتل لمجرد كونه إنساناً، إذ تكون السياسة سياطاً والتقاليد المتخلفة غباراً خانقاً. وإذا لم نتمكن من تفكيك مفردات تلك السياط وذلك الغبار لن نجد وسيلة أخرى تـُمكّننا من أكتشاف لغتنا الخاصة وإيقاعنا الخاص، أي أننا سنعيش ونكتب ولكن بدون روح، لأننا نخاف من صخب الواقع ونخشى من نتائج مواجهته، فنحاول تمويه عبوديتنا لهذا الواقع، أو ننزوي بعيداً عنه، ننزوي داخل ذواتنا الخائفة سواءٌ عشنا في بغداد أو لندن أو سويسرا. ما معنى أن يكون الأديب منفياً خارج وطنه لعشرات السنين، دون أن يعرف القراء لماذا هو منفي، دون أن يتحرك قلمه أو ضميره ليكتب بوضوح الروح وجرأة العقل عما دار ويدور من مآسٍ داخل وخارج وطنه. أن التراجع الروحي سيؤدي حتماً إلى ترجاع اللغة نفسها أو تكرارها أو انزوائها وتسطحها أو زيفها أحياناً!!
اللغة ليست مجرد مجموعة كلمات أو مصطلحات، اللغة هي منظومة ثقافية، وهي في الأدب تُصبح أيضاً ثقافة بذاتها، والكلمات داخل نظام اللغة يُصبح لها معنى وتأثير عندما تنتمي لتجربة إنسانية متحركة ومواقف واضحة وقيم محددة تميز تلك التجربة وهذه المواقف. هذا هو معنى الثقافة. ثقافة تتجدد بحضور حاملها ومواقفه أي مواجهاته لما يدور حوله. وهذه هي أدوات الحوار التي توفر أيضاً فرصة اللعب بالكلمات، فاللعب بالكلمات هنا هو لعب بأحجار الروح وحقائق الحياة، حيث هنا فقط يمكننا أن نرى شرارت اللغة، أي من تصادم الكلمات بعضها بالبعض الآخر.
اللغة ثقافة، كل كلمة لها تاريخ وجرح ومعنى ودلالة داخل هذا التاريخ، الذي هو تاريخ حياة ومواقف الأديب نفسه، وليس معناها ودلالتها في تاريخ حياة وجروح رامبو أو ديستويفسكي أو ماركيز. أننا في هذه الحالة نسرق كلماتهم وعوالمهم دون أن نعرف أو نحس بالأوجاع والمواقف التي كابدوها، أو نار الروح والأيام التي أحرقتهم ليُخرجوا كلماتهم تلك من رمادها الحار.
اللغة ثقافة يعني اللغة موقف، موقف من القيم السائد ومن الحروب ومن التناقضات ومن أنظمة الحكم ومن الأدباء الكذابين ومن عالم الجوائز والمهرجانات السخيفة، فهذا كله في غياب الموقف يؤدي إلى تعفن اللغة لأنه يفرّغ روح وضمير الإنسان من معناه، فيتعفن كل شيء تقريباً، كما هو حاصل في الثقافة العربية مع الأسف.
أن ابتعاد الأدباء عن السياسة بحجة الترفع الثقافي، هو موقف مغشوش أو عبودية صريحة، لأنه في الواقع تخلٍّ عن أتخاذ موقف حقيقي إزاء ما يدور حولهم، موقف له ثمن يترك آثاراً على الوجه واليدين، كي يكون لوجوهنا ملامحها الخاصة وليدينا خطوطها ونشاطها.
أن القول بأن الأديب إذا أنخرط في العمل السياسي سيخسر السياسة والأدب معاً، هو قول صحيح غالباً، لكن ليس هذا هو المطلوب، ليس المطلوب من الأديب أن يصبح حزبياً أو يكتب أدباً بلغة السياسة. ولكن المطلوب هو أن لا يموّه المثقفُ الحقائقَ أو يصمت عنها، أو يستعيض عن الصمت بالتهريج، أي أن لا يختار بين العزلة المفتعلة وبين التهريج السياسي. لا فرق جوهرياً بين أن يعمل المثقف بعقد مع البنتاغون ودباباتها تحتل بلده، لقاء مبلغ يجعله يفقد صوابه ولا يعود يميز بين قرقعة الدولارات وبين عواقب الأمور، أو أن يقبضَ رشوة شهرية أو مكافأت موسمية من هذا الحزب أو ذاك مقابل تواطؤ ودور محسوب سلفاً، أو أن يتبنى المثقف دور المهرج السياسي ضد الاحتلال إرضاءً لأنظمة وجهات معينة وانتظاراً لجوائزها ومهرجاناتها، مؤدياً دور البطل في مسرح جمهوره من البعثيين والارهابيين والمغفلين بينما الجثث تتناثر على المسرح العراقي وأرصفته وشوارعه تلطخها دماء الضحايا بفعل الاحتلال والبعثيين والأرهابيين ذاتهم. لا فرق بين هذا وذاك ولا بينهما وبين الصامت عن الحق والمستغرق بالترفع المفتعل.
عندما تدعي الترفع وأنت في الواقع تقبض رشوة خفية أو علنية من هذا النظام أو ذاك، أو تنتظر (اللحظة المناسبة) كي تتكلم!! هذا يعني أنك تغش نفسك والآخرين معاً، أي تخون اللغة التي تكتب بها، وهو يعني أنك أيضاً تعمل في السياسة وغارق فيها حتى أذنيك، لأنك تعمل مع اتجاهات سياسية تفتش عن أدباء ومثقفين مغشوشيين وغشاشين مثلك.
أنك بهذا تساهم في غش الوطن برمته، لذلك تصبح الوطنية بالنسبة لك (رهاباً) يقض مضجعك ويربك أيامك، فتحاول أن تتظاهر بعكس ما أنت عليه، تحاول أن تسخر من (رهاب الإنسان الشرقي من مسألة الوطنية) وتدعو الآخرين لأزدرائها والتحرر من أوهامها!! أنك في الواقع تدعوهم للتحرر من الحقائق التي لا معنى لوجودهم وثقافتهم من دونها. أنك تريد أن تلغي حقائق الصراع ومعادلاته، أي تريد أن تلغي الفرق بين الضحية والجلاد مقابل مبلغ محدد ليس إلا. ثم تريد أن تحوّل الدجل السياسي أو التهريج إلى ثقافة بديلة لكل ما عداها، وكل هذا هو تعويض بائس عن تاريخ من الفشل السياسي الطويل ومداواة لجروح الذات بالدولارات أو الجوائز والمهرجانات أو الأوهام!! فهذه العوامل والنوازع هي التي تصنع (العبودية المختارة).
هل يوجد أديب مهم في كل تاريخ الثقافة الإنسانية، لم تكن له مواقف حقيقية ومواجهات واضحة، وأحياناً مؤلمة، مع ما كان يدور في عصره، أو على الأقل في حياته الشخصية، هل يمكن أن يكون المرء أديباً أو ناقد وهو مخاتل أو دجال أو مهرج، يظهر متى يريد ويختفي عندما يشعر أن ظهوره مقترن بتضحية معينة؟!

سوق للثقافة وسوق للمثقفين

في الغرب الديمقراطي الرأسمالي هناك سوق للثقافة، وعملية تسويق (marketing (تتم بعد أن تحقق المادة الثقافية شروطها فيحقق المثقف حريته الاقتصادية من مردودات نتاجه، ولذلك فهو قادر على إمتلاك حريته الداخلية، حرية عقله وروحه ومواقفه بينما تضمن القوانين له ولسواه من المواطنين حرياتهم الفردية والعامة، وإذا كان كل ذلك يحدث ضمن طبيعة النسق الحضاري للغرب الديمقراطي، فإن هذا النسق الحضاري نفسه لم يهبط عليهم من السماء، بل دفعوا ثمنه غالياً. دفع المثقفون الأوربيون ضمناً فاتورة باهظة لحرية شعوبهم، فلم يكن جان جاك روسو أو كارل ماركس أو رامبو أو غوغان أو ديستويفسكي يعيشون متنقلين بين مهرجانات الأنظمة العربية وفنادق الدرجة الأولى، بل كابدوا قسوة التجربة كي يكتشفوا المعنى والأسباب. إن ظاهرة الجنون والإنتحار والتشرد بين المثقفين والمبدعين الأوربيين في العصور الوسطى واللاحقة، والتي خُصصت لها درسات عديدة معروفة، لم تكن أسبابها فزيولوجية أو نفسية بل كانت أسباباً أخلاقية في الغالب. كان الأحساس الفادح بغياب العدالة هو الذي يقود المفكرين والمبدعين لمواجهة السلطات أو مفاهيم التخلف أو ركود المجتمعات، لذلك خلقت تلك الحقبة مفكرين ومبدعين كباراً غيروا الثقافة الإنسانية ونقلوها من أزمنة الإنحطاط والتعثر إلى عصر الأنوار.
عندنا لا يوجد سوق للثقافة، أفضل كتاب لا يبيع أكثر من ثلاثة آلاف نسخة تذهب مردوداتها إلى جيوب دور النشر. وإذا كان العديد من المثقفين والمبدعين في البلدان العربية أرتضوا عيشاً بسيطاً من مردود وظائفهم الخاصة، وبعضهم يعيش ويموت في شظف العيش، فإن ظاهرة معينة تجددت في العقود الأخيرة على هيئة مثقفين أنيقين يدخنون الغليون ويُحدّثون الأشباح بمفاهيم الحداثة التي لا يفهمها الجمهور المُفقر معيشياً وثقافياً، ولا أهل السلطة التي يعيشون في ظلالها وعلى فتاتها، أو أن الأخيرين أساساً في غنى عن هذه المفاهيم، لكن المثقف الحداثوي الأنيق مصرّ على أداء دور الرائد والمجدد والمقارع للتخلف وهو غارق في مستنقعات الكذب والأزدواجية!! مستنقعات الكذب على الذات وعلى الآخرين، فيتم تسويقه هو لا أفكاره أو إبداعاته التي لم يعد يهتم بها أحد، فكلما فقد المثقف حقيقته فقدت ثقافته معناها وألقها المفترض، فيصبح من مكونات الديكور الرسمي والثقافة الرسمية.
في الغرب توجد سوق للثقافة تحرر المثقفين من التبعية وصعوبة العيش. عندنا توجد ثقافة يتم اقصاؤها وتهميشها فلا يوجد لها سوق، ومقابل هذا ابتكرت الدولة سوقاً مربحة أخرى، لا للثقافة بل للمثقفين!! في الغرب يوجد سعر للكتاب ومواطنين يحتاجونه فيشترونه، عندنا توجد سوق للمثقفين وتسعيرة لكل مثقف وفنادق خمس نجوم لهم جميعاً كي يتعارفوا ويطري بعضهم بعضاً، لذلك تكرّسَ الانحطاط رسمياً وأصبح ثقافة عامة!!
إن هذه الظواهر لا تأتي إعتباطاً، بل هي تتزامن أو تكون نتيجة لتدهور القيم الأخلاقية والوطنية في بلد معين، وهذا هو واقع الحال في البلدان العربية عموماً، حيث أصبحت هذه القيم مصدر خسارة ومتاعب لحامليها، ومع طول فترات التدهور تبدو هذه القيم غير ذات جدوى، بل يُصبح التخفف منها نوعاً من الذكاء!! لكن الحقيقة أكبر من سواها. الحقيقة هي أن لا وجود لحركة ثقافية جادة من دون قيم، القيم هنا هي البوصلة وهي المعيار، ولكن عن أية قيم نتحدث؟! القيم جميعها تتركز في معيار واحد هو الإنسان، حرية الإنسان وكرامته. وعندما يتنازل المثقف عن حريته وكرامته للسلطة، أية سلطة نافذة مقابل إمتيازات مادية معينة، فكيف يتسنى له أن يدافع عن حرية وكرامة الآخرين؟!
لنعود إلى موضوعنا ونطرح السؤال بطريقة أخرى، هل يمكن أن يكون المثقف معروضاً للبيع أو مباعاً، أو خائفاً من حقائق الحياة ومغشوش الضمير ويمكن أن يُنتج لغة أدبية أو نقدية جديدة، حقيقية ومؤثرة؟!
عندما يحترق بلدك وتحتله كلاب وخنازير السياسة المحلية والدولية وأنت متراجع الروح ومنزوٍ، أو ناشط في البحث عن ممولين لنشر الأكاذيب، كيف بوسعك أن تواجه بياض الأوراق وشرار الكلمات، كيف يمكن أن تتجدد لغتك؟! في أي عالم وأي خيال؟! ومن خلال أي موقف؟! كيف يمكن أن تملك لغة خاصة والورقة والزمن والأشياء ملطخة بدماء الناس والكلمات مختنقة بصراخهم؟! ثم أية ثقافة هذه التي تريد من خلالها تغييب المواقف الواضحة لتحل محلها (النوايا الحسنة)!! هل هذه نوايا حسنة أم مواقف مغشوشة؟!
أننا لسنا بصدد إدانة شخص بذاته، فهذا ليس مهماً هنا، وللحياة قوانينها على كل حال، والواقع أن البعض لم يعد مهتماً أساساً حتى بأن يُدانَ بقدر أهتمامه بالدرهم والدينار!! لا نتحدث عن شخص معين، ولو كانت مسألة أشخاص لهانت، إنما عن ظاهرة بدأت تتكرس بالتدريج، ويبدو أنها بحاجة إلى رواد، رواد يريدون أن يتذاكوا علينا قبل أن تتبدد الفرصة وتضيع من بين أيديهم!! لكن وفي جميع الأحوال، ليس بوسعنا الصمت حين نرى العراق يحترق بينما هناك من يريد أن يزيف حقائق الصراع ليعمم علينا ثقافته المغشوشة!! ليس بوسعنا الصمت لأن الحياة نفسها ستسخر منا ومن وجودنا برمته، فالكلام هنا هو دفاع عن ثقافتنا وقيمها الحضارية والأخلاقية، دفاع عن مشاعرنا وبلادنا ووجودنا ومبررات هذا الوجود.
عندما يحتل المشهد الكذابون والمهرجون، ويسيطر على إعلامنا وثقافتنا باعة البراغي والتايرات، أو مروجو الدجل السياسي وتجار الموت إلى جانب العملاء المكشوفين، حيث نرى التراجع يجتاح جميع مناحي الحياة، عندها سيكون من حقنا كمثقفين، أن نتساءل عن أسباب تراجع اللغة المبتكرة والنص المتدفق. إن أبسط واجباتنا هنا هو أن نقلق على مستقبل الثقافة العراقية وسمعتها، لنتساءل عن طبيعة تلك المفاهيم (الجديدة) التي يُراد لها أن تتحكم بثقافتنا وَوجودنا ومصير العراق، بلادنا التي لا نملك بلاداً سواها.
ولنعد إلى بركليس الآن: (ليس هنالك من مواطنين بيننا يشعرون أن أسيادهم أدنى وأحقر من أن يكونوا أسياداً) وهذا في الواقع هو ذروة الرقي الإنساني الذي بلغته أثينا وقتذاك. فهنا يتداخل الثقافي بالسياسي بصورة إنسانية رائعة، فنكون أمام المعنى الحقوقي والأخلاقي للثقافة والسياسة معاً، حيث لا يوجد عبيد مقابل أسياد، بل مواطنون يختارون حُكّامَهم بطريقة يعتزون بها، فالأسياد هنا هم الأشخاص الرسميون الذين يتحملون إدارة الشأن العام، وسيادتهم هي كناية عن سيادة الدولة التي يُديرون شؤونها. ولكن ماذا لو قارنّا إحساسنا نحن العراقيين إزاء حكامنا بما كان عليه إحساس مواطني أثينا إزاء حكامهم؟! هل يمكن أن يخطر تعبير بركليس هذا على بال أحد منا أم أن العكس هو الصحيح؟!
خلال عقود متواصلة تسلط على بلادنا حكام غير مشرفين مطلقاً، أجيال متتالية يسيطر على مصائرها وطريقة حياتها شعور مرير بالخيبة والهزيمة والإنكسار جراء تسلط وجوه موحشة وضمائر صدئة وقسوة وفضاضة تخجل منها الوحوش الكاسرة!! هل درس أحد النتائج الشعورية والنفسية والثقافية المترتبة على تسلط وطبان وصدام وطارق عزيز وسبعاوي والدوري والجزراوي وبرزان ومزبان.. على الدولة العراقية، وانعكاس كل ذلك على حياة وثقافة المجتمع العراقي؟! وكيف أغتصبوا البشر والتاريخ والثقافة واللغة والمعاني والحقوق والحرمات. أية عبودية رهيبة كانت؟! وأية آثار مدمرة للشخصية الإنسانية خلفت وراءها؟!
أن إحتقار القيم الوطنية من خلال إشاعة مفاهيم زائفة وتكريسها في ظروف الحرب والاحتلال، كما يفعل البعض الآن، هو أخطر آثار تلك العبودية المقيتة، بل هو إدامة لتلك العبودية بأقنعة ومسميات أخرى. وهذا الأمر إن تم تبريره أو الصمت عنه، سيؤدي بالتراكم إلى تكريس ثقافة زائفة تخلق بدورها أجيالاً سيئة التفكير. وهذا هو بالتحديد ما تجب مواجهته قبل أن نتحول إلى مسخرة لكل من هب ودب!!
فقد أصبح من الواضح الآن، إن هناك من له مصلحة بتحويل الدجل والكذب والتهريج إلى ثقافة عامة في العراق، أي خلق أجيال لا تعرف ماذا تريد، ولا إلى أين تقود نفسها، تذهب إلى التهلكة وكأنها ذاهبة إلى منتزه!! من هنا يأتي دور الثقافة الوطنية الحاسم في مواجهة الاحتلال والتفكك الأخلاقي. أن الدفاع عن عقول الناس ومشاعرهم كي لا تحتلها المفاهيم السيئة هو الأساس في الدفاع عن الوطن وكرامته ضد أحتلال الدبابات وأجهزة المخابرات. أن من يخسر مشاعره لا يعود مهتماً بالوطن، فيخسر لغته وكبرياءه معاً دون أن يدري.
لقد أدت الأربعون سنة من الديكتاتورية المقيتة إلى تشويه المفاهيم خصوصاً عند أولئك الذين يمتلكون إستعداداً لاستقبال المفاهيم المشوهة!! فالإبتعاد عن السياسة والفكر السياسي وفهم التاريخ وأحداثه وشخصياته، هو بحد ذاته سياسة لتبرير الإنكفاء أو موقف مقصود لتسهيل الدخول إلى عالم المكاسب المادية الرخيصة. لقد أصبحت لدينا مفاهيم جديدة تحتقر الوطنية وتسميها رهاباً، وتشمئز من القيم وقول الحقائق وتسميه لغواً مثالياً فارغاً، تقابلها مواقف أخرى تدعي مقاومة الاحتلال من أجل مكاسب أكثر رخصاً!! ها نحن إذن أمام لغة جديدة وإبتكار جديد لتبرير الإنحطاط والتراجع الروحي. فالأنزواء أصبح ذكاءً، والكذب والغش موهبة!! أصبحنا أمام مثقفين يتعاقدون مع قوات الاحتلال للعمل في ظل الدبابات التي تسحق على رؤوس العراقيين!! هذا أيضاً أبتكار ونحن حقاً أمام لغة جديدة، لكنها ليست عذراء كلغة النصوص العظيمة، بل هي لغة مدنسة شعثاء وجاحظة العينين.
عندما يتخلى المثقف عن تاريخه فهو يتخلى عن لغة بكاملها، لذلك يحاول أن يبتكر لغة جديدة للتهريج وإبداع الأكاذيب وتمويه الحقائق. وعندما يكون المثقف بدون تاريخ أساساً فهو، وبعد سقوط الديكتاتورية، سيجد منظمات ثقافية جديدة مهمتها جمع المثقفين المتخلين عن تاريخهم إلى جانب أولئك الذين بلا تاريخ أساساً، هذا نوع جديد من (الوحدة الوطنية) بين مثقفين عراقيين من جميع القوميات والأديان والمذاهب، لكنها وحدة خارج المعنى والوطن وجروح الناس وصراخهم الذي يوجع الحجر. أو أنها داخل الوطن لكنها في ظلال الأحزاب والأعطيات والمهرجانات المدفوعة الثمن والأوهام التي بلا ثمن أساساً. لقد أصبحنا أمام مثقفين يتقافزون من مائدة إلى مائدة ومن مهرجان إلى مهرجان ومن منظمة ثقافية مدفوعة الثمن إلى منظمة أخرى ميتة وبدون كفن. هذه ثقافة ميتة لمثقفين ميتين وليست شيئاً آخر.
إن كل هذا بطبيعة الحال، لا يُنتج لغة مبتكرة تليق بأدب إنساني حديث، بل يُنتج وحلاً وغباراً وأشباح مثقفين يصطدم بعضهم بالبعض الأخر دون أن يشعروا بوجودهم، أو بفداحة هذا العالم الموحش الذي أغرقوا أنفسهم فيه، لأنهم لم يشعروا بوطأة الديكتاتورية أساساً، لا في الداخل ولا في المنفى، ولم يحسّوا بخطورة المفاهيم التي كرستها، ففضلوا التراجع والإنزواء، أو الكذب على الذات وعلى الآخرين، فلم يكونوا مع الديكتاتورية ولم يدركوا كيف يكونون ضدها. أدباء بلا فكر حقيقي أو مثقفون من دون ثقافة يُعتد بها، وهم الآن أما مستفيدين من الاحتلال ونتائج الاحتلال، أو ليسوا مع الاحتلال ولكن ليسوا ضده عملياً. أو ضد الاحتلال لأنهم لم يستفيدوا منه!! مثقفون من دون مصداقية، أو مثقفون لا مع ولا ضد، مثقفون بلا مواقف واضحة، أي بدون لغة محددة، لأنهم ليسوا بحاجة إلى لغة من هذا النوع، يترتب عليها موقف ودفع ثمن. يكفيهم الكلام المغشوش، أو الصمت المغشوش. وإذا اضطروا تكفيهم لغة القطيع، فهي سهلة وجاهزة وغير مُكلِّفة، وهي لا تؤثر على أحد ولا تخاطب أحداً بعينه، لغة سائبة وضمائر خَدِرة. فهل ثمة، بعد كل هذا، أمكانية أو ضرورة للحديث عن لغة مبتكرة ونصوص عذراء؟!
نعم ثمة ضرورات ولكن خارج هذه العوالم الملوثة، عوالم الكذب والتهريج والارتزاق.
لندن
نقلا عن مجلة quot;أقواسquot;