ليس هناك في كتاب الله عزّ وجل أي آية تشير إلى وجود أشياء قبل الماء العرش، ولكن هناك روايات سنية وشيعية تقول بذلك.
ترى بعض الروايات الشيعية إن أول ما خلق الله تبارك وتعالى هو النور، وتخصصه أحيانا بنور النبي الكريم وأهل بيته الأطهار، وترى روايات أخرى، إن أوّل ما خلق الله العقل، أو شجرة اليقين، وفي روايات غيرها أن أول ما خلق جل وعلا القلم، ولكن هناك روايات تتطابق مع نص القرآن الصريح، أي أن أول المخلوقات كان الماء والعرش، ويطرح الفكر الشيعي اللاهوتي تفسيرا لهذه التباينات في المخلوق الأول، فإن هناك المخلوق المجرد الأول، وهو العقل أو نور النبي أو القلم، وهناك المخلوق المادي الأول وهو الماء.
وفي الحقيقة إن المعضلة الكبرى في كل ذلك، هي إن القرآن الكريم لم يذكر سوى الماء والعرش كمخلوقات أولى، ولم يبين مصدر الماء المذكور، ولا مصدر العرش، وبالتالي، هل نحن بين يدي إقرار قرآني بقدم العالم ؟
لقد كان هناك سباق روائي في تثبيت مخلوقات قبل العرش، وفي تصوري إن بعض أسباب ذلك، هو الشعور بالقلق من عدم ذكر أصل خلْقي سابق على العرش والماء، هناك خوف توهم أزلية غير الله، فكانت هذه المحاولات الخبرية المُعالجِة. وقد كان هناك سباق محموم لتأصيل وجود شخصي ينافس روحانية العرش، كانت هناك محاولة لإحتواء العرش من أجل غايات مذهبية. نقرأ في التراث الشيعي إن رسول الله قال: (إن الله خلقني وعليا وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق الدنيا بسبعة آلاف عام)، ولما يساله السائل عن مكانهم يومئذ يجيب النبي الكريم: (قدّام العرش)! وفي رواية فرات بن إبراهيم الكوفي عن الرضا: (إن أوّل ما خلق الله عزّ وجل أرواحنا فأنطقها بتوحيده وتحميده،ثم خلق الملائكة)، وفي رواية للكافي عن الصادق: (قال الله تبارك وتعالى: يا محمّد إنّي خلقتك وعليا نورا ـ يعني روحا بلا بدن ـ قبل أن أخلق سمواتي وأرضي وعرشي وبحري)، وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الثاني برواية محمد بن سنان: (قال: كنت عند أبي جعفر الثاني،فأجريت اختلاف الشيعة، فقال: يا محمّد إن الله تبارك وتعالى لم يزل متفردا بوحدّانيته، ثم خلق محمدا وعليا وفاطمة صلوات الله عليهم أ جمعين، ثم مكثوا ألف دهر، ثم خلق جميع الأشياء فأشهدهم خلقها وأجرى طاعتمهم عليها)! وفي رواية أخرى: (إن الله تبارك وتعالى تفرّد بوحدانيته، ثم تكلمة بكلمة فصارت نورا، ثم خلق بذلك النور محمدا صلى الله عليه وآله وخلقني وذريتي)، والمتحدث هو الصادق عن الثمالي! وعن أ بي الحسن البكري عن علي بن أبي طالب أنه قال: (كان الله ولا شيئ معه، فاول ما خلق نور حبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، قبل خلق الماء والعرش والكرسي والأرض واللوح والقلم...)، وفي رواية أخرى عن المفضل: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة ؟ فقال: يا مفضل، كنّا عند ربّنا ليس عنده أحد غيرنا في ظلِّة خضراء، نسبّحه ونقدّسه ونهلّله، ونمجده، وما من ملك مقرّب ولا ذي روح غيرنا، حتّى بدا له خلق الأشياء فخلق ما شاء)، وفي رواية: (إن الله خلق محمّدا وعليا واحد عشرمن ولده من نور عظمته، فأقامهم اشباحا في ضياء نوره يعبدونه قبل خلق الخلق، وهم الأئمة من ولد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).
هذه الروايات كانت تؤسس لعقيدة خفية، مفادها إن محمدا وأهل بيته هم علل الوجود، هي روايات بديلة عن العرش، إسقاط قيمة العرش، أو التقليل من قيمته، فهناك وجود علمي أفضل، وجود علمي اقدس، هناك أسباب أكثر فاعلية، العرش في طولها نزولا، فالأئمة قبل كل شي، هم الأسباب الكامنة وراء العرش ذاته، وبالتالي، هم الذين يرعون الوجود، بل الأئمة هنا هم الذين يشرفون على إنقلاب الكون، إذ يبدو أن أرواحهم مستمرة هناك، فهي خلف العرش، تفضي عليه، وهو يفضي على الوجود، وإذا كانت الأوامر تصدر من العرش للملائكة، فإن الإئمة هم الذين يصدرون أوامرهم للعرش، وبالتالي، كان الأئمة هم الو اسطة الحقيقية بين الله والوجود!
هذه المنهجية الغالية بامتياز تقابلها منهجية هي غالية بقدرها، ولكن يختلف موضوعها، إنهم الخلفاء الأربعة! فإننا نقرا: (قد جاء في الخبر إن الله تعالى خلق شجرة لها أربعة أغصان فسماها شجرة اليقين، ثم خلق نور محمد في حجاب من درة بيضاء كمثل الطاووس، ووضعه على تلك الشجرة، فسبح عليها مقدار سبعين ألف سنة، ثم خلق مرآة الحياة فوضعت باستقباله، فلما نظر الطاووس فيها رأى صورته أحسن صورة وأزين هيئة فاستحى من الله تعالى،فعرق فقطر منه ست قطرات. فخلق الله من القطرة الأولى أبا بكر رضي الله عنه،وخلق من القطرة الأولى عمر رضي الله عنه، ومن القطرة الثالثة عثمان رضي الله عنه،ومن القطرة الرا بعة عليا رضي الله عنه،ومن الطقرة الخامسة الورد، ومن القطرة السادسة الأرز...) / ينقل الخبر السيوطي في كتابه الدر الحسان على هامش دقائق الاخبار للإمام عبد الرحيم بن أحمد القاضي طبع المنار /
لم يكن القلق متأت من عدم ذكر الأصل السابق على العرش وحسب، بل كان هناك قلق يساور الفكر الديني هنا عن كيفية إستقرار العرش على الماء وهو السائل اللزج ا لمتحرك، فكانت هناك محاولات للتغلب على هذا القلق، ففي رواية تنسب إلى الصادق في تفسير العياشي نقرأ: (... وكان عرشه على الماء، والماء على الهواء، والهواء لا يجري...)، فهي محاولة للتخلص من قلق كما يبدو، فإن كون العرش على الماء يثير إشكلات، ومن قوله: (والهواء لا يجري) ختم لحل المشكلة، فلو قال إن الهواء يتحرك سيكون هناك إشكال أخر، وليس من شك إن الفكر السني والحشوي يعاني أكثر هنا، فإن عرش الله إذا كان على الماء حقا، و الله مستقر عليه، فإن الحركة ستعرض على العرش ثم على الله، وفي هذه الصورة ما يثير القلق وربما الفزع ليس في حق العر ش بل في حق الله تبارك وتعالى.
الهواء في هذه الرواية يكون هو أول المخلوقات المادية بطبيعة الحال، حيث تغيب إسبقية الماء الزمنية! ولست أدري لماذا غيَّب الله علينا هذه الحقيقة التكونية الخطيرة ؟ بل هناك روايات صريحة إن الهواء ليس أسبق زمانا من العرش، بل هو المادة التي خُلِق منها العرش، ففي تفسير علي بن إبراهيم (وخلق العرش من الهواء)! فهو قلق وجودي عبر عن نفسه بمثل هذه المحاولات، إنها النزعة البشرية في التفتيش عن سبب أول، والهواء هنا لأهميته في حياة الانسان ربما استعير لإن يكون أول المخلوقات ومنه كان العرش.
ينقل التراث عن ابن عباس قوله: (حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدمية مسيرة خمسمائة عام، وذكر أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب) / البحار ص 20 /
ترى ما هو مقيا س بن عباس في تقدير المسافات؟ هل هو المسير العادي، أي أخذ بن عباس هنا مسير الإنسان العادي، أو هو مسير الفرس والدواب باعتبار إنهما كانتا واسطة التنقل في زمن ابن عباس.
ينقل لنا التراث أيضا عن ابن عباس قوله: [ وعن ابن عباس في قوله: (ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية) قال: يُقال ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدتهم إلاّ الله، ويُقال: ثمانية أملاك رؤوسهم تحت العرش في السماء السابعة، وأقدامهم في الأرض السفلى، ولهم قرون كقرون الوعل بين أصل قرن أحدهم إلى منتاه خمسائة عام) / البحار ص 20 /
ويمكننا أن نطرح ملاحظتين على هذا المنقول عن ابن عباس، الاولى: إن لحن الكلام يفيد إن ما ينقله ابن عباس ليس مأثورا نبويا بالضرورة، وإن ابن عباس ليس عنده موقف واضح في هذا المنقول عنه!
إن التوكيد في كثير من الروايات إن حملة العرش ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عددهم سوى الله تبارك وتعالى هو محاولة لإدخال الاطمئنان إلى داخل النفس، فإن عرشا بهذه الضخامة، أي يحتوي الكرسي، والكرسي يحتوي العالم كله، من الصعب تصوره محمولا على رؤوس ثمانية ملائكة، فهرعوا إلى تكثير عدد الملائكة لأجل أن تطمئن نفوسهم، ويحصلون على درجة من الإرتياح النفسي والروحي.
تقول روايات أن النور أول ما خلق الله، ولكن النور يجب أن تكون له بداية، أو سابق، فما هو السابق هنا؟ إنه (نور الله)، كما في رواية، وفي رواية أخرى، إن هذا النور لم يكن قبله شيئا، فقد جاء عن الصادق: (أن الله تعالى أوّل ما خلق خلق نورا ابتدعه من غير شيء ثم خلق منه ظلمة...)، وبهذا أراح صاحب الحديث هذا نفسه من قلق السؤال عن البداية.
إن محاولة إفتراض خلق أول ثابت يستند إليه العرش قضية نفسية، فإن العقل الانساني ينحى إلى إمضاء بداية صلبة، صلدة، تنقذه من حيرة التسلسل الى ما لا نهاية.
إن تصور الأرض مستقرة على قرن ثور كبير، هي محاولة أخرى للتفتيش عن نهاية لتساؤل خطير وكبير وملح، كذلك القول بإن عرش الله يستند إلى قوائم ضخمة هي محاولة تأتي في هذا السياق.
في رواية عن تفسير الفرات عن علي بن أبي طالب عليه السلام: (... كان عرشه على الماء... ثم بدا له أن يخلق الخلق، فضرب بأ مواج البحور فثار منها مثل الدخان كأعظم ما يكون خلق الله، فبناها سماء رتقا، ثم دحا الارض...)، الرواية تثبت إن هناك بحورا من الماء قبل ا لخلق، وإن مصدر الخلق هو هذه البحور، ويقترب الكلام من إمضاء القرآن ان هنا ك ماء قبل خلق السموات و الأرض، ولكن صورها المنقول عن علي عليه السلام إنها بحور، فهل هي إشارة إلى كثرة الماء وغزارته أنذاك أم أن هناك حقا بحورا؟ ولكن تبقى نغمة الإلحاح على البداية والنهاية.
تقول رواية في تعليل الماء الأ ول إنه كان (من خشية الله) وذلك نقلا عن الصادق كما يروي صاحب المناقب!
نقرأ في رواية منسوبة إلى الصادق عن العرش جاء فيها: (... فإن الله خلقه أرباعا، لم يخلق قبله إلاّ ثلاثة أشياء، الهواء، والقلم، والنور، ثم خلقه من ألوان أنوار مختلفة من ذلك النور: نور أخضر منه أخضّرت منه الخضرة، ونور أصفر أصفرّت منه الصفرة، ونور أحمر أحمّرت منه الحمرة، ونور أبيض وهو نور الأنوار، ومنه ضوء النهار...) البحار ص 25. والرواية في تفسير القمي، ولكن راوي التفسير عن القمي مجهول بل لا ذكر له في كتاب الرجال!!
يلح التراث الديني الشيعي والسني على أن العرش ليس أزليا، أي مخلوق، ولكن هذا الجواب لا يشكل حلا نهائيا، فإن هؤلاء الذين كانوا يلحون على أن العرش مخلوق، لم يدعوا إنه مخلوق من لا شيء، بل حددوا أشياء سابقة، وقد تمت عملية تخليق العرش من هذه الما دة، سواء كانت النور أو الهواء...
يروي لنا صاحب الدر المنثور عن الشعبي: (العرش من يا قوتة حمراء...) فهو مخلوق من أصل، الأصل هو ياقوتة حمراء، ولكن في رواية صاحب الدر المنثور عن (حماد) أن العرش خلقه الله تعالى (من زمردة خضراء، وخلق له أربع قوائم من ياقوتة حمراء...) / البحار ص 17 / وبالتالي، لا ندري هل خلق من ياقوتة حمراء أو خضراء خلق الله عرشه المجيد، والمحاولة تؤكد نزعة الخوف من أزلية العرش، فهناك إصرار على أن العرش مخلوق، ولكن دون جدوى.
نقرأ في مروج الذهب للمسعودي قوله: [... إن أوّل ما خلق الله عز وجل الماء، وكان عرشه عليه، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دُخانا، فارتفع الدخان فوق الماء، فسمّاه سماء، ثم أ يبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين، في يومين الاحد والأثنين، وخلق الأرض على حوت، والحوت هو الذي ذكره الله سبحانه في القرآن في قوله تعالى: (ن والقلم وما يسطرون) والحوت في الماء، والماء على الصّفا، والصّفا على ظهر ملك، والملك على صخرة...) / المسعودي طبع دار المعرفة في بيروت الجزء الاول ص 36 / فإن المسعودي هنا يعبر عن قلقه بكل وضوح، فهو يفتش عن أصل يتكأ عليه، كي يرتاح نفسيا، فإن الصخرة قوة راسخة، ثابتة، متجذرة، لا تحتاج كما يبدو إلى أصل تتكئ عليه، فحصل له إرتياح.
يبقى العرش بلا أصل سابق عليه!!
يبقى العرش غير مخلوق...