يقول تعالى في كتابه الكريم: (بديع السموات والأرض وإذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكوون) البقرة آية رقم 117 /
يقول تعالى في كتابه الكريم: (بديع السموات والأرض أنّى يكون له ولد ولم ت كن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم) الأنعام آية 101 /
يقول الله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها....)
في لسان العرب: ((بدع الشيء يبدعه بدْعا وابتدعه: أنشاه وبدأه. وبدع الكرَّكية: استنبطها واحدثها... وقال أبو عدنان: المبتدع الذي يأتي أمرا على شبه لم يكن ابتدأه إياه. وأبدعتُ الشيء: أخترعته لا على مثال... والبديع: من أسماء الله تعالى لإبداعه الأشياء و إحداثه إيّاها وهو البديع الأول قبل كل شيء، ويجوز أن يكون بمعنى مبدع أو يكون من بدع الخلق أي بدأه، والله بديع السموات والارض، أي خالقها ومبدعها فهو الخا لق المخترع لا عن مثال سابق، قال أبو إسحق: يعني أنشأها على غير حِذاء ولا مثال))
لا تشير المادّة في لسان العرب إلى إيجاد شيئ من لا شيء، نعم تشير إلى إنشاء وخلق وإيجاد على غيرمثال سابق، كما هو صريح اللسان، وأن ابتداء شيء لا يعني إيجاده من لا شيء، فأنت تبدأ لوحتك الفنية من شيء، وليس من لا شيء، كذلك الإنسان يبدأه الله من طين، وقوله تعالى (يبدأ الخلق ثم يعيده) على هذا الجري، وسوف نلتقي مع مادة (ب، د، أ) لاحقا.
إن الرهبانية التي ابتدعها بعض علماء النصارى إنما إبتدعوها في تضاعيف الدين الموجود، زيادة أو نقصان أو تطوير أو تحريف، وليس هناك إبداع في فراغ أو من فراغ. والبدعة ليست بلا أصول سابقة عليها بشكل من الأشكال.
تسخدم المادة للدلالة على العظمة والجودة والإتقان والفتنة، وفي هذا السياق يأتي ((ورجل بدع وامرأة بدعة إذا كان غاية في كل شي، كان عالما أو شريفا أو شجاعا)).
جاء في الصحاح في اللغة: ((أبدعت الشيء: أخترعته على غير مثال. والله تعالى بديع السموات والأرض.والبديع: المبتدع...)) وليس هناك أي إشارة إلى أن المادة تستخدم في الخلق من لا شيء.
جاء في مقاييس اللغة: ((الباء والدال والعين أصلان: أحدهما إبتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والأخر الإنقطاع والكلال، فالأول قولهم: أبدعت الشيء قولا أو فعلا، إذا إبتدأته لا عن مثال سابق...))، وليس هناك ما يشير إلى أن المادة تعني الإيجاد من لا شيء.
وفي الحقيقة يصعب القول بأن معنى الإبداع هو الإيجاد من العدم، لأن القرآن الكريم نسب الإبداع إلى البشر، فهو يقول: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)، فحتى إذا كان معنى الإبداع هو الخلق من عدم، فذلك ليس على نحو الحصر.
يقول صاحب مفردات القرآن: (بدع:إنشاء صنعة بلا احتذاء واقتداء... وإذا استعمل في الله تعالى فهو إيجاد الشيء بغير آلة ولا مادّة،ولا زمان، ولا مكان، وليس ذلك إلاّ الله...) ولكن ما هو الشاهد؟ إن صاحب المفردات يتكلم بلغته الكلامية وليس بالعودة إلى الأصول اللغوية والمعجمية، والشاهد القرآني لا يسعف هذه القراءة، فالله (بديع السموات والأرض)، أي خلقها، او قدرها على غير مثال، وهذا لا يعني إنه خلقها من لا شيء.
نقرا في قاموس المحيط: (... بدع ا لرّكية: استنبطها... وابدأ: بدأ...) والاستنباط ليس خلقا أو إيجادا لشيء من لا شيء، والبدئ لا يشترط به أن يكون بلا مادة سابقة، فأنت تبدا لوحتك الزيتية وتبدا مصنوعك، وتبدا واجبك، ولكن ليست هذا الإبتداء يجري في فراغ ولا يخلق أو يوجد شيئا من لا شيئ).
يقول الرازي في التفسير: (الإبداع: عبارة عن تكوين الشيء من غير سبق مثال، ولذلك فإن من أتى في فن من الفنون بطريقة لم يسبقه غيره فيها، يقال: إنّه أبدع فيه) /جزء7 ص 124 /
يقول صاحب مجمع البيان في تفسير قوله تفسير آية 101 من سورة الأنعام: [ بديع السموات والأرض (أي مبدعهما ومنشئهما بعلمه إبتداء لا من شيء،ولا عن مثال سبق...)، ولكن صاحب التفسير لا يرجع في ذلك إلى أي مصدر لغوي أي معجم لغوي في صرف المادة هنا إلى الإيجاد من لا شيء، ولا يستشهد بأي شاهد شعري أو نثري ينتمي إلى الجاهلية أو صدر الإسلام. وربما هذا الاستعمال متأخر فأخذه الطبرسي.
يقول الزمخشري في أساس البلاغة: (ابدع الشيء وابتدعه: إخترعه، وأبدعت الركاب إذا كلّت، وحقيقته أنها جاءت بأمر حدث... ومن المجاز:ابدعت حجتك:إذا ضعفت)، ولا إختراع من مادة سابقة.
يقول صاحب تفسير الميزان: [ (بديع السموات) بداعة الشيء كونه لا يماثل غيره ممّا يعرف ويؤنس به ] / ا لميزان 1ص 258 /
جاء في المصباح المنير (أبدع الله الخلق إ بداعا: خلقهم لا على مثال، وأبدعتُ الشيءوابتدعتها: استخرجته وأحدثته...) فلم نجد هنا إشارة إلى الخلق من عدم أومن لا شيء، والخلق كما مرّ بنا قبل قليل التقدير أو الإيجاد من سابق، كما هو السائد في استعمالات الكتاب الكريم.
ولكن قوله تعالى (بديع السموات والأرض) قد يفسرها بعضهم بمنحى آخر، مستفيدا من المعاجم بطبيعة الحال، فهو بديع بلاحظ (أن لا شبيه له في السموات والأرض، ولا مثيل له في الوجود، ولا عديل له في الخلق)، وهذا التفسير ينطلق من بعض إستعمالات المادة، وهو الأقرب للصواب في تصوري لسبب بسيط، فإننا إذا قلنا إن الله بديع السموات والأرض بمعنى خالقها من لا شيء سابق، نقع في تناقض كبير بلحاظ الرجوع إلى القرآن الكريم نفسه، فإن الله تعالى يخبرنا إنه خلق الإنسان من نطفة، وخلق الأحياء من ماء، وإ نه أنبت الموجودات في الأرض نباتا، وخلق السموات السبع من دخان، فكيف نصرف الإ بداع في الآية إلى كل السموات والأرض جملة واحدة، أي نقول خلقها جملة واحدة من العدم أو من لا شيء؟!
إن صرف مادة (ب، د، ع) هنا إلى الخلق من عدم، وملاحظة مدخول المادة بأنه الوجود كله، يتضاد مع جملة هائلة من المخلوقات التي قال الله تعالى في كتابه أنه خلقها من أصول سابقة عليها، ربما يكون الجواب إ ن الله خلق أصل الكون أو أصول الكون الأولى من عدم أو من لاشيء، ثم تطورت إلى هذه الهيئة الوجودية الهائلة، وبالتالي، يمكن أن نقول إن الله خلق الكون أو الوجود من لا شيء، وهذا الجواب وإن كان فيه شيء من المعقولية، ولكن فيه تحميل كبير، وفيه تكلف، فيما هناك نقاش حول أصل المبنى، أي هل حقا كانت هناك أصول أولية خلق الله منها كل هذا الوجود وهي مخلوقة من لا شيء؟ ولكن الإنصاف، إن الآية الكريمة تشير إلى إبداع (الوجود كله) وبشكل يحول دون التجزئة والتحليل، مما يعني حسب منطق الآخرين إن الله خلق العالم كله جملة و احدة من عدم أو من لا شيء.
نعود إلى آية 101 من سورة الأنعام: (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عمّا يصفون، بديع السموات والأرض أنّى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم).
أن الله وصف نفسه (بديع السماوات والارض) في قبال وصف المشركين لله حيث جعلوا لله شركاء وبنات وبنين، مما يشي بأن مقصود الآية هو (تفريد) الله بالوجود، ونفي الشبيه عنه، وإفراده بالكمال والجمال و البهاء والقوة... فإن (رجل بدع...) إذا كان غاية في كل شيء، كان عالماً أو شريفاً أو شجاعا... وا لله عز وجل (له المثل الاعلى...)، فهو البديع حقا، وربما يفسر بعضهم كلمة (بديع) بنهاية الآية (خلق كل شيء) ولكنه تفسير بارد لسبب بسيط أيضا، إذ لو كان ذلك صحيحا لقال في غير القرأن (بديع السموات والأرض... فخلق)، كما أنه لا معنى لعطف الخلق على الإبداع إذا كانا المعنى واحدا، أضف على ذلك إن هناك حائل أو فاصل بين قوله (بديع السموات والأرض) وبين قوله (وخلق كل شي) مقطع نفي الأبوة عنه (أنّى يكون له ولد)، ومن كل هذا الرصف نستفيد أن الآية بصدد تنزيه الله وتفريده. فهو جل وعلا بديع السماوات والارض بمعنى أنه سبحانه أكمل ما في الوجود، من جميع الوجوه وكل الجهات، كما تقول فلان جميل العشيرة أو فلان مفكر الحزب، فذاك أجمل ما في العشيرة وهذا أكمل مفكر في الحزب.
إن الآية تتمركز في معادلة تجمع بين كونه تعالى (بديع السموات والأرض) وبين إتصافه تعالى بـ (أنّى يكون له ولد)، وقوله تعالى: (وخلق كل شي) أضافة توضيحية لكونه البديع حقا، أي هي إضافة تعزيزية إلى المعادلة خارج صلب المعادلة، المعادلة التي تؤسس الآية بروحها وعقلها وهدفها.
نعود إلى آية رقم 117 من سورة البقرة: (وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السموات والأرض كل له قانون، بديع السموات والأرض وإذا قضي أمرا فإنما يقول له كن فيكون)، فالله عز وجل وصف نفسه هنا بـ (بديع) مقابل العقيدة الز ائفه بحقه، أي مقابل وصفه بالأبوة، فالوصف في سياق الفرادة في الوجود ونفي الشبيه عنه (وليس كمثله شي)، وربما يفسر بعضهم (بديع) هنا بقوله تعالى: (وإذا قضى أمرا) في حين لو كان ذلك صحيحا لجاء في غير القرآن الكريم (فإذا قضى أمرا)، بل هناك ما هو أبلغ في الدلالة على هذا الإتجاه، فإن الآية تتصدر بنفي الأبوة عن الله وتثبيت ملكية الوجود له عزّ وجل ثم يأتي قوله تعالى: (بديع السموات والأرض) مباشرة ومن دون عطف، مما يجعل من ذلك تفسيرا للمقدمة، والمقدمة ليس فيها أي إشارة إ لى الخلق أو الإيجاد، بل إلى الملكية الأصلية، فيما يتأخر فعل الخلق عن الوصف بـ (بديع السموات والأرض) لاحقا بحرف العطف (و) !.
يطلق البديع على غير الله أ يضا، بدليل قوله تعالى (ورهبانية أبتدعوها) وفي لسان العرب (وهو ـ الله عز وجل ـ البديع الأول قبل كل شي)، أي هناك مبدعون آخرون). ويصف صاحب لسان العرب ا لله تعالى (... والله تعالى كما قال سبحانه: بديع السموات والأرض، أي خالقها ومبدعها فهو سبحانه الخالق المُختَرِع لا عن مثال سابق...)، فهو فسر الخلق والإبداع بـ (الخلق المُخترَع)، والأختراع إيجاد من مادة سابقة، ولذا قال صاحب مقاييس اللغة: (والعرب تقول: أبتدع فلان الرِّكي إذا استنبطه) فهذا يعني أن هناك مبدعا غير الله عزّ اسمه.
لقد أكد المتكلمون في تعريفهم للإبداع بأنه خلق من لا شي، وهو تعريف يستند إلى إرتكاز عقلي راسخ في وجدانهم ولا شعورهم، بحكم كونهم علماء كلام يتحدثون عن الخلق والتوحيد وما شابه ذلك، وهو تعريف متأخر، لا شاهد له من اللغة....
والحمد لله اولا وآخرا