غالب حسن الشابندر: (حزينيا أو نقص في كريات الفرح) هي المجموعة القصصية الا ولى للشاعرة العراقية فليحة حسن، صدرت عن دار () وكان تصميم الغلاف من إبداع الفنانة العراقية (عفيفة لعيبي)، والسيدة فليحة حسن شاعرة عراقية نالت العديد من جوائز التقدير لنشاطها الشعري المتميز بالقوة والخصب والروح والتوتر، ولها إسهامات فنية بارزة في عالم الأدب، في النوادي والمحافل العراقية التي تشهد منذ سقوط الديكتاتورية فعاليات مستمرة تتسم بالقوة المشرقة والحضور الحي، الأمر الذي ينبيء عن مستقبل عراقي متألق على صعيد النشاط الثقافي والروحي والفكري.
تضم المجموعة أربعة عشرة قصة قصيرة (إغفاءة على هدب عينيها، حزينيا أو نقص في كريات الفرح، في إنتظارها أموت، سندرلا الرمل، إشارات، إمتدادات يوم معطوب، سر المرايا، طوق الحديد، إينانا ويستمر الاحتراق، الشاهدة وجه آخر للبرد).
تصر السيد فليحة حسن أن تنتمي إلى فن القصة بملكوتها الجديد، حيث تتحرر من عبودية الحبكة المكثفة على شكل حدث، لتحيلنا إلى حبكة الحدث المنتشر، أو حبكة الحدث الحاضرة على إ متداد السرد، وهي بذلك تجعلنا نعايش حدثا واحدا ولكنّه يتوزع بمهارة فنية شاعرية شفافة وحارقة على جسد السرد كله، فالحدث روح والسرد جسم، والروح تتنقل بحركة ساخنة على كل ذرات الجسم. فيما تشكل الفكرة بوصلة التواصل بين الحدث والسرد، أي بين الروح والجسم، وبهذه الطريقة الفنية الجميلة يتشكل هيكل الإنجاز، متميزا منفردا.
في (حزينيا أو نقص في كريات الفرح) يلتقطنا الحدث ليصهرنا في روحه المتوثبة حزنا، والسرد وإن كان يعبر عن (أنا) مكثفة ولكنه يتوزع بين هذه الأنا والآخر كقضية ملحة وساخنة، تستوجب من القاري والناقد على حد سواء أ ن يلاحق الحدث المتوزع بين الطرفين ليصل إلى نتيجة، ليس لأن الحدث بحد ذاته يشغل آخرين وليس فليحة حسن وحدها، بل لأن الحوار يشكل عمقا في الرؤى، وتصورات عميقة عن ا لمآساة، وكل من الطرفين يملك شخصيته وهويته الخاصة، مما يستدعي الصراع والتوتر الحادين. ولكنه في النتيجة بين طرفين، أحدهما يشعر بالضعف و الأخر بشعر بالقوة، والإحالة هي أكداس الماضي وا لموروث المترسخ في أ عماق اللاوعي الاجتماعي المذهل والقاهر.
هناك صراع بين قوة الكسل، وضعف الجدية، صراع بين أصالة المشاعر وقسوة العضلة، صراع بين الصبح البازغ والنهار الكسول، وكل ذلك هو صراع بين روح تغلبت على جسد، وجسد تغلب على روح، فما أ بعد ا لشقة بين الطرفين، وكيف لهما أن يشقا طريقهما في هذه الحياة؟
ــ العاشرة أعلنت عن نفسها وهو لما يزل نائما، منتشيا،ككل يوم بكسل إشتراه بعمري، وصار أن تبادلنا الادوار ـ قسرا ـ هو ينام إلى ما تيسر من الوقت وأنا اركض لاقمة ثوبي بفمي....
يلعب الرمز هنا دوره في سرد فليحة حسن، الرمز المادي الذي يخفي وراءه عالما كبيرا من المثال والخيال، فالزمن هو العاشرة صباحا، ولكنه هو العمر كله، بما ينطوي عليه من حقيقة روحية ساكنة خلف الجلد واللحم ولكنه متوهج بالمشكلة، ثائر على الزمن الممتد لهذا التوقيت المحلي البسيط.
ينحاز مصطلح الإنتصار إلى الوهم في (حزينيا) فيما ينحاز الإنتظار الى الحقيقة، لان لا شي في ضمير (السارد) سوى الانتظار، ولكنه على مضض، وعلى أمل أن يكون هناك حدث ما يغير المعادلة ويقلب الموازين، ولكن كما يبدو لا نتيجة.
حب تصنعه الضرورة لا يدوم (هل الحرب وحدها قادرة على لصق أذاننا بهمس العشاق، ودوي القنابل معا، فإذا رحلت سكن كل صوت)!
مثل هذا الحب يترجم كل الحياة المشتركة بـ (كفى) كمدخول كامل وحصري لأعمق علاقة تصنع الوجود.
ــ أعرف أنك زوجتي وكفى.
كان الرمز المادي حاضرا بقوة، ولكن يختزن بقوة أيضا الحقيقة المخفية، تراود نفسها من بين ثنايا الرمز لتعلن أنها هي الواقع، وإن (فليحة) تتكلم خائفة ليس من الوشاية، بل من الواقع ذاته.
ــ هو ينام الآن مستلقيا على جانبه فيحتلني،إيهٍ من هذه اللحظة، إذ لا درع يقنيني من سليل الذكريات.
إحتلال جسد لروح، وهيمنة ظل على شاخص، وتمادي وهم بتورية الحقيقة الساطعة، وهناك تضيع الحياة!
ــ ها قد أتعبه النوم على جهة واحدة، هو ينقلب ليواجهني بوجه لا أعرفه،فأصرخ في داخلي: من هذا؟
إنه هو، تعرفه جيداً، ولكنها تعرفه بإسمه لا بسماه، ضاع في داخلها، وضاعت في داخله، ليحتل الفراغ كل هذا الوجود.
في عملها (ليس من حقك أن أ تلاشى) نلتقي بتجربة أخرى، ولكنها تلتقي بكل بسابقتها من حيث الجوهر، هي قسوة الحياة عندما تفرض معادلاتها بغير إرادتنا، فمثل هذا القدر الجاسي يقود إلى (تشيء) الروح، وتحويلنا الى سلعة من دون أن نشعر في كثير من الاحيان بأننا تحولنا إلى سلع، وهي مآسآة أقل وجعا فيما لو علمنا ذلك ووعيناه، وفليحة كا نت تشعر بإن هناك ضغطا هائلا يحول دون ممارسة روحنا لحقها من الحب والحياة!
ــ وأطرق خجلا وأريد أن أخبره بأني لم أُصب يوما بالتبلد العاطفي غير أنهم يجعلوني أتجه صوبه وأنخرط به مرغمة.
تلك هي مآساة الكثير من البشر في عالمنا اليوم، وإذا كانت هي نتيجة غير منطقية لتيار الحياة كما أرادها الله، فإنها تأتي لأسباب كثيرة، يبدو إ ن السارد هنا التقط منها ما يتصل بنا نحن ابناء الشرق.
يرسم لنا السرد مأساة الحب مقابل لا شي، ولكن الطرف الآخر يستهين بمثل هذه المعادلة ويستغلها لأنه من الجنس القوي الذي حكم التاريخ صدفة وبسبب ظروف خارجة عن منطق الحياة.
ــ اصخب في ّ كل شي، أنا التي لم ارد منه شيئا ما.
ـ سأقول له.
ـ لماذا تتركني صاخبة بك وترحل.
تلك هي الخاتمة، في سياق سرد متوتر، متوزع، يتحكم به تيار اللاوعي، ليس على صعيد الصياغة الشعرية،بل حتى على صعيد الحدث، فكا نت الا حدات تجري رغما عن السرد.