العالم كله يترقب ما يحصل في إيران، احتجاجات شعبية واسعة النطاق نسبيا، اختلافات جوهرية بين رموز النظام حول الكثير من بنود السياسة الخارجية خاصة الموقف من الغرب، كذلك الدور الذي يجب أن تلعبه إيران في المنطقة، تفاوت واضح في الرؤى حول الحريات الشخصية، إتهامات متبادلة بالخيانة الوطنية، شكوك حول نتائج الانتخابات hellip; وما زال دخان حرائق هنا وهناك يعلو سماء إيران وفي المقدمة العاصمة الساحرة طهران hellip; ومن حق ما يجري في إيران أن يكون محل رصد وترقب العالم، فإيران ليست دولة إقليمية فقط، بل دولة ذات صدى كبير ومؤثر في المعمورة، وملفها النووي قضية كبيرة تشغل صناع القرار السياسي في الدول الكبرى ، وتشكل كفة التوازن الأقليمي في المنطقة مع تركيا السنية التي بدأ نجمها يتصاعد، وحضورها يمتدد اقتصاديا وسياسيا وفنيا!
المؤشرات تميل لصالح الهدوء النسبي، ومن هذه المؤشرات خفت حدة المظاهرات والاحتجاجات، والدعوات المتكررة من الرموز الإيرانية الكبيرة إلى ضرورة التهدئة واللجوء الى لغة الحوار، وهناك من العوامل الحاسمة التي تحول دون اشتداد ظاهرة الاحتجاج والتظاهر، منها إن النظام يحتمي بدرع أمني حديدي قاس، ومنها أن هناك قطاع شعبي كبير متعاطف مع النظام، بل هو القطا ع الأكبر من الشعب، ومنها أن الحوزة العلمية تكاد أن تميل إلى التهدئة حتى وإن لم تعلن تأييدها للحكومة، بل حتى وإن كانت تعارض الحكومة في بعض النقاط، لعل في مقدمتها استقلال الحوزة عن الدولة، ومن هذه العوامل ربما خوف القيادات الكبيرة من المعارضة من تدخل خارجي، كذلك الخوف من تداعيات قومية وطائفية تعرض الا من القومي الإيراني لمشاكل كبيرة، فالعلاقة بين الفرس والترك والعرب والسنة والشيعة في ايران تكاد تكون متوترة، وبالتالي، يميل كثير من المحللين إن هذه الانتفاضة أو التظاهرات أو الاحتجاجا ت في طريقها إلى الهدوء، ولكن هذا الهدوء سيكون قلقا، مشوبا بالحذر، فهو قابل للتفجر بين مناسبة وأخرى، ذلك إن الانقسام قد حصل، ليس بين قادة الثورة ورجال الحركة الدينية بشكل عام، بل بين الأجيال الإيرانية ذاتها، وإذا لم تسارع الحكومة الحالية بقيادة ولي أمور المسملين علي خامئي والسلطة التنفيذية إلى معالجة الكثير من الملفات، فإن عوامل التفجر الكامنة تحت رما د هذا الهدوء سوف تتفجر مرّة ثانية، وربما بمنسوب أكثر ضراوة وشدة وشراسة. إن من أبرز الملفّات كما يبدو هو ملف الحريات الشخصية، وفي مقدمتها الحرية الفكرية، والحرية السياسية، وحرية الجسد، فهذه الحريات مقموعة في إيران، فليس هناك حق في تشكيل أحزاب سياسية خا رج النطاق الاديولجي الديني الإسلامي، وليس هنا ك صحافة حرّة كما هي في العراق المجاور، وليس هناك حرية شخصية يتمتع بها المواطن الإيراني على صعيد معالم حياته الخاصّة به بل هو محكوم بمعايير الشريعة ومقاييس الدين الحاكم كما تفصله الحكومة ، وليس هناك مسارح حرّة، والديمقراطية في إيران هي ديمقراطية محصورة بين المعتقدين بالإسلام السياسي، أي ديمقراطية مجزوءة، وليست ديمقراطية حقيقية أو ديمقراطية تتمتع بنصيب وافر من معالم وشروط وخصائص الديمقراطية المدينية التي يعرفها العالم الغربي، وهو ما نجد له شبه مصداق في العراق . ويرى كثير من المحللين إن ظاهرة الاحتجاج أو الانتفاضة الاخيرة لم تكن ضد رئيس الوزراء بشخصه، بل ولا حتى ضد ولي أمور المسملين، بل هي ضد نسق من الحكم، أي هناك احتجاج رمزي على حالة رمزية، احتجاج قيمي ضد نسق خاص من القيم، سواء كان ولي الفقيه الخامنئي أو غيره، وسواء كان الحاكم التنفيذي نجا د أو غيره.
هل يشرع الحكام الحاليون باستدراك هذا الواقع المرير؟ فيضعون أمام أعينهم هذا الملف الخطير، ويتداولون بجرأة وشجاعة وموضوعية مواده الساخنة، أقصد مادّة الحرية، حرية الفكر، وحرية التعبير، وحرية الجسد، وحرية العمل السياسي؟
لقد كانت المرأة أكثر حضورا في هذه الظاهرة من الرجال، وكان الشباب أكثر حضورا من الكبار، وكان أبناء المدن أكثر حضورا من أبناء القرى والأرياف، وكان الجامعيون أكثر حضورا من رجال الاعال والموظفين، فهل ينتبه الحكم إلى هذه الحقائق المشعة بالقوة والتحدي؟
لقد لاحظ كثير من المراقبين إن الجسد الإيراني يشتعل ثورة رهيبة في الهتاف والصياح والصراخ والاحتجاج، كان جسدا ملتهبا بالشوق الى ما وراء الإملاء الخارجي، وسطوة الكلام الشفهي الملقى من فوق المنابر، كان صوتا مشبوبا بظلال الماكياج المتلطي بشكل عشوائي حيث سال من شدة الحر يتناغم مع نغم الصوت المنادي بالحرية.
لم تكن الظاهرة بهذه البساطة حيث يدعي محللون إنها مجرد اختلاف رموز على السلطة، بل القضية أبعد وأعمق من كل ذلك، كانت ظاهرة فكرية وجسدية وسياسية، وبنسب لا تتفاوت بترجيح بارز أو تفضيل راسخ، ذلك إنها ظاهرة قيمية بكل المقاييس.