هل نصدق أن هذه القضية دخلت مضمار التنافس و(التعايب) بين المسلمين واليهود في عصر النبي الكريم؟ بل بين المسلمين أنفسهم أيضا!
إن روايات كثيرة تقول إن الآية الكريمة: (نساءكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم) جاءت ردا على اليهود، في سجال جرى بين اليهود والمسلمين في صور النكاح ونماذجه وألوانه وطرائقه وهيئاته واساليبه، أقصد العملية الجنسية في ذورتها.
تقول الرواية كما في الطبري: [حدثني يونس قال: أخبرني وهب قال: أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي بلال: إن عبد الله بن علي حدّثه: إنه بلغنا أن ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يتحدثون يوما ورجل من اليهود قريب منهم، فجعل بعضهم يقول: إنّي لآتي امرأتي وهي مضطجعة، ويقول الآخر: إني لآتيها وهي قائمة، ويقول الآخر: إنّي لآتيها على جنبها وباركة، فقال اليهودي: ما أنتم إلاّ أمثال البهائم! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة، فأنزل الله تعالى ذكره: (نساؤكم حرث لكم) فهو القبل].
الرواية تعاني من ضعف بطبيعة الحال في السند، فلسنا ندري جهة إبلاغ الرواي عبد بن علي، ولكن هناك روايات تعضد إتجاهها العام، على أ ن الرواية تفيد إ ن الحديث عن الجماع بأقصى ذروته الصريحة كان سائدا كما يبدو في عصر النبي الكريم. ولست أدري مغزى وجود إشارة إلى (القبل) في ذيل الرواية، اللهم إلا إذا قيل إن جو المجامعة باشكاله المختلفة كما يبدو يعني ا لجماع في قبل، وإن الإتيان، أي إتيان المرأة إنما ينصرف إلى الإتيان في القبل وليس غيره.
هذه الرواية نقرأها بصيغة ثانية، ففي تفسير ابن الأثير إن عرب الأنصار تعلموا من اليهود النكاح على حرف واحد، ولم يتعدوه، فلما اختلط الأنصار بالمهاجرين، وتزوج أحد المهادرين أنصارية، كان يشرح شرحا أي يفتح فخذيها عن إخرهما، وينكح بها قائمة واجفة مضطجعة، أي على هيئات متعددة ومتنوعة، ولكن المرأة كانت تتألم من ذلك، ليس تألما جسديا كما يبد و، بل لأن ثقافة المرأة الأنصارية الجنسية كانت تحصر النكاح بطريقة واحدة، هي المضاجعة على حرف، فاعترضت على زوجها القرشي، وخيرته العودة إلى النكاح (الأنصاري) الذي تعلموه أصلا من اليهود! فلما شاع الخبر نزل وحي على النبي الكريم: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم)!!
هناك صيغة أخرى، فقد جاء في سنن أبي داود: [ حدثنا سهل بن أبي سهل وجميل بن الحسن قالا: حدثّنا سفيان بن عيينة، عن محمد المنكدر، إنه سمع جابر بن عبد الله يقول: كانت يهود تقول من آتى امرأته في قبلها من دبرها كان الولد أحول، فأنزل الله سبحانه: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم إنّى شئتم) / رقم 1925 / والحديث أو الرواية موجودة بعينها في البخاري رقم 4528، كذلك في صحيح مسلم رقم 1435 /
تختلف نغمة رواية جابر عن سابقتها، فهنا لم نعثر على ذلك الحديث أو التحادث الشبقي الجنسي الذي كان يدور بين جمع من الصحابة، والعلة في نزول الآية ليس ردا على إهانة اليهودي لهذه التشكيلة من الإتصال الجنسي أو الجماع التي كان المسلمون يمارسونه، بل هي رد على تصور تكويني خاطئ لنوع من انواع الجماع، وهو إتيان المرأة في قبلها ولكن من خلفها، حيث كان اليهود يعتقدون إن جماعا من هذا النوع يولد الحول في العين.
نقرأ في تفسير الطبري: [ حُدِّثت عن عمار قال، حدّثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (فأتوا حرثكم أنّى شئتم) يقول: من أين شئتم، ذكر لنا ــ والله أعلم ـ إن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قبل أعجازهن، فإذا فعلوا ذلك جاء الولد أحول، فأكذب الله أحدوثتهم فقال: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم)].
الحقيقة لو كان ذلك صدقا، لورث العرب مئات بل آلاف ذوي الحول! ولكن التاريخ لم يحدثنا بذلك للأسف الشديد، ولكان لذوي الحول طقوسهم وقوانينهم وعاداتهم بصفتهم طبقة بشرية متميزة بكثرة عددية، وبصفة متميزة. فهل هي سجل من سجلات الصراع الأديولجي بين اليهود والمسلمين؟ إن التاريخ مليء بالعجائب.
هذا الصراع (الاديولجي) عن كيفية نكاح المرأة يتصل بخلفية أهم، هو صراع حول الموقف من الزوجة حين حيضها، فقد وردت الر وايات تفيد إن اليهود كانوا يعتزلون المرأة كليا عندما تمر بعادتها الشهرية، فجاء الإسلام فابطل هذا الموقف، وحصر الا عتزال في ممارسة المباشرة الجنسية الصارخة، وأجاز بقية الممارسات من تقبيل وتفخيذ ولمس وقرص، فيما كان اليهود يعتزلونها حتى على صعيد المؤاكلة والمشاربة!
هل هي (موضوعات) يهودية من أجل إظهار نظافة ولياقة الجنس اليهودي وإظهار سماجة وسذاجة الذوق الإسلامي، أو المجتمع المسلم؟
إن مثل هذه الروايات تبعث على الشك حتى إذا كان سندها صحيحا، فربما هي من إختلاقات هؤلاء القوم في سياق صرا ع من أجل إثبات الذات وأ صالة الحضارة وجذرية المواقف الجميلة.
إن التحكّم بالعملية الجنسية في هيئة واحدة وعلى طريقة ميكانيكية معينة ومشخصة عملية صعبة وغير معقولة، وليست واردة في سياق الطبع البشري وسياق العملية ذاتها، ولذلك أعتقد إن الروايات هذه مصنوعة لغايات بعيدة، وكيف يصدق الأنصار مثلا إن اليهود كانوا يجامعون نساءهم وفق هيئة ثابتة الهوية والوضع!!
إن هذه الروايات تكشف لنا عن حرب سرية بين اليهود والمسلمين في المجتمع الإسلامي في أبان عهودة الأولى، حرب تتصل بأجواء الجسد، والأسرار الخا صة، فهي معركة ماوراء الثياب والاستار والموانع. ليس من شك إن مثل هذه الروايات تكشف أيضا إهتمام المجتمع أنذاك بالنكاح وطرائق إتيان المرأة، وإن مثل هذه القضية كانت حياتية وليست عارضة.
الاسلام هنا يربط ا لجنس، وبالذات عملية الإتيان بطقوس ممضاة شرعا، فهي محاولة من الإسلام للتغلغل إلى أسرار التواصل الخاص، وعملية نفاذ إلى أعمق ما يتصل بذات الإنسان، بل ما يتصل بحريم سره وإسراره.
تروى في الأثناء غير هذه الأسباب وراء نزول هذه الآيات الكريمات، وهي أسباب لا تخرج في عمومها عن مسألة الموقف من الحيض والموقف في الوقت ذاته من الجسد أثناء مجيء الحيض، حيث يتأكد تطلع الإنسان هناك إلى تقنين حياته في هذه العملية، ولا يريدها أن تكون عملية عرضية وهامشية وخالية من معنى. يبدو إن عالم الجسد كان يشغل خيال الناس أنذاك، وكان لهذا ا لعالم طقوسه ومذاهبه وفلسفته.
يشاع في أوساط الحديث عن (الجماع) أن هناك طريقة فرنسية، وأخرى مصرية، وهكذا، فهل يمكننا القول لقد كانت هناك طرق متنوعة للنكاح في ذلك الزمن، بحيث لكل قوم طريقتهم، فهناك النكاح اليهودي والنكاح القرشي والنكاح الأنصاري... وما أشبه الليلة بالبارحة!