تتصاعد التصريحات على لسان المسؤولين العراقيين الداعية إلى الخروج من محنة المحاصصة الطائفية التي حكمت وما زالت تحكم (العملية السياسية) في العراق، فهناك اتفاق شامل بين الأفرقاء العراقيين بأن هذه المحاصصة هي جوهر البلاء الذي حل بالعراق، ومن ثمراته المرّة هي الارهاب والتنابذ الاجتماعي وتطييف وتعريق الوزارات والمؤسسات العراقية الحساسة. ولكن هناك من يرى إن العراق تجاوز محنة المحاصصة، ودخل مرحلة المصالحة الوطنية، بمقدار ما هناك إدعاء بأن الأمن ساد العراق، ودخل مرحلة السلام والأمن والاستقرار بشكل مثالي على وجه التقريب.
قبل أيام خرج علينا مسؤول كبير في الحكومة وأحد الاعضاء البارزين في الحزب الإسلامي العراقي بتصريح ذي مغزى كبير، فقد صرّح بما معناه، إن المحاصصة الطائفية والعرقية إما أن تلغى تماما أو تكرس تماما، وهي معادلة صحيحة، وتصب في قلب الواقع.
إن المحاصصة ما زالت بل ربما تكرّست أكثر وأعمق، وما يقال عن الاختلافات داخل الكتل السياسية دليل على إن مرض المحاصصة قد ولى، إنما يقع في وهم كبير، فإن هذه الاختلافات إنما محصورة داخل هذه الكتل منشا ومجرى ونتيجة، فلم يخرج فصيل سني مثلا عن النطاق العام لإنتمائه الطائفي ليلتحق بفصيل شيعي خرج عن النطاق العام لطائفته، بل هي اختلافات أبناء (الطائفة الواحدة)، وربما هناك اختلافات داخل الطائفة الواحدة من أجل المصالح الطائفية وليس من أجل العراق، او من أجل إنقاذ العراق من محنة المحاصصة الطائفية، وليس من خفايا الامور أن العراق الآن تقسم سياسيا على أساس طائفي، فإن رئيس الجمهورية سني كردي، ورئيس الوزراء شيعي عربي، ورئيس مجلس النواب سني عربي، والخلاف على خليفة السيد المشهداني هو خلاف على من يتولى المنصب من السنة داخل السنة في الدرجة الأ ولى.
أن ما يعيشه العراق الان هو حالة توازن رعب إذا صح التعبير، فإن الصحوات سنية، وهناك دعوة لمشروع عشائر الاسناد وهي شيعية على نحو غالب، وبالمقابل هناك ا لعشائر السنية التي تجمعت في خانة متجانسة تقريبا بفضل التفاهم الامريكي السني بالدرجة الاولى، والاحزاب الدينية الشيعية تمثل قاعدة نظمية للشيعة، والاحزاب الدينية السنية تمثل قاعدة نظمية للسنة، وهناك شبه الاحزاب الشعبية العامة من كلا الطرفين، وبالتالي، هناك ساحة متطيفة بشكل مثير ومخيف، مما يعني إن السلام متوقف على مدى استمرار توازن الرعب بين هذه القوى المتمحورة حول قطبين أساسيين، السني والشيعي بشكل عام.
هذه المحاصصة المتوزعة على محورين تتداخلها محاصصة أضيق، المحاصصة الحزبية، فإن الكتلة السنية منقسمة على نفسها حول توزيع الوظائف والمكاسب وكراسي المجالس المحلية والبرلمانية كما أن الكتلة الشيعية هي الاخرى منقسمة على نفسها حول توزيع الوظائف والمكاسب وكراسي المجالس المحلية والبرلمانية، حتى وصل الامر الى لغة التصفيات الجسدية فضلا عن الإتهامات المتبادلة حول النزاهة والمسؤولية عن خراب الجنوب العراقي.
نظرة بسيطة على تشكيلة الحكومة العراقية تشكف بكل وضوح إنها ليست حكومة مصالحة وطنية، بل هي حكومة (توافق محاصصي)، وفارق كبير بين المصطلحين، وما يسمى بالحوار الوطني مجرد كلام فيما دققنا في هذه التداخلات المقعدة الشائكة.
الصراع القائم الآن بين فكرتي ا لمركز والأقاليم يصب في خلق المزيد من الفوضى ويساهم اكثر في تشويش المشهد العراقي، وربما يفرز جديدا في خارطة التحالفات ولكن تبقى معالم المحاصصة الطائفية بارزة بشكل مثير ومخيف. كما إن ارتهان كثير من الإرادات الحاكمة والمتنفذة في العراق إلى قوى من خارج الحدود سواء كانت شرقية أم غربية أم جنوبية، يعتبر من أهم وأخطر عوامل بقاء معادلة المحاصصة الطائفية نشطة قوية فاعلة.
إن الخلاص من بلاء المحاصصة الطائفية يحتاج إلى مزيد من الوقت، ويحتاج إلى كتلة شعبية كبيرة تنتظم في كيانات سياسية مختلطة، تطرح برنامج عمل مشترك، يقف بوجه الكتل الطائفية الكبيرة، ويحتاج إلى قوة ما دية تقف إلى جانب هذا التيار، فضلا عن حملة ثقافية شاقة ومضنية ومكلفة يقوم بها مثقفو العراق بتشجيع من الدولة فيما إذا كانت حقا حريصة على مثل هذا المشروع الوطني الكبير، أي الخلاص من بلاء المحاصصة الطائفية.
ليس من شك إن مرض المحاصصة الطائفية في العراق له امتداده إلى مرحلة صدام حسين، بسبب سياسته غير المسؤولة في سبيل أن يستمر سلطانه الديكتاتوري الأعمى، وما نعانيه اليوم في العراق من بلاء طائفي إنما بسبب تلك السياسة الصبيانية الفوضوية، ولكن الذي زاد الطين بلّة هو تكريس نتائج هذه السياسة التي كانت مختفية على يد القوى السياسية التي برزت بعد سقوط النظام، وبما أنها هي الحاكمة والمتحكمة اليوم، فإ نه يصعب في مثل هذه الحال أن تكون سببا موضوعيا في إنهاء معادلة المحاصصة هذه، بل أن بعضهم جاء الى الحكم بسبب هذه المحاصصة.
شخصيا أرى في هذا الحكم شيئا من التجني واللاموضوعية على هذه القوى، فإن القوى السياسية الحاكمة اليوم تستطيع معالجة هذه المعضلة، ولكن فيما عقدت العزم، وإن لا ترتكن إلى قيم محاصصية في معالجة الوضع، وإن يتم ذلك من خلال قراءة الواقع قراءة مشتركة بين قادتها ورموزها ومثقفيها، لوضع خطة تدريجية، يتمخض عنها تشكيل قوى شعبية عريضة من مختلف الانتماءات المذهبية والدينية والحزبية والسياسية، وتطرح برنامج بديل، ينافس البرامج المحاصصية، كي يجد ا لشارع العراقي ما يحفزه على الالتحاق بالمشروع، ومساندته، والتصاف معه، وإمضائه في خياراته السياسية.
إن كثيرا من الناس ينخدع بالظاهر، ولا يقرأ الباطن، والسياسة كما أعرف وكما يقول أهلها في جانبها التحليلي هي النظر في الباطن، والنظر في الظاهر مقدمة لذاك الفن العميق.