1من 2
هذا الرجل كان عربيا، من بني نبهان وهم بطن من طي، كان أبوه الأشرف قد أصب دما في الجاهلية فاتى المدينة فحالف بني النضير فشرف فيهم، وتزوّج عقيلة إبن بنت أبي الحقيق فولدت له كعبا، وعليه، يكون أبوه عربيا طائيا وأمه يهودية.
إن كعب حسب هذه المعطيات ليس يهوديا، فلماذا تعده كتب السيرة يهوديا؟ هل بسبب تحالف إبيه مع بني النّضير؟
المصادر تذكر لنا إسم أبيه وعشيرته وقبيلته فيما تسكت عن نسبه لأكثر من أبيه، فيما هو كان شاعرا مجيدا، وصاحب بسطة بالجسم، ويُنسب له نشاط متميز ضد النبي الكريم ودينه! ولم يكن نكرة في العرب، ويروي لنا الترمذي وكذلك ابن داود من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه إنه كان شاعرا، وكان يهجو رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحرّض كفار قريش عليه / 1، فتح الباري في شرح البخري ا نسخة الالكترونية /، وتذكر المصادر إنه عندما وصله خبر مقتل بعض المشركين في بدر، غادر المدينة إلى مكة وهناك نزل ((... على المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة السّهمي وعنده عاتكة بنت أبي العيص بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، فأنزلته وأكرمته،وجعل يحرض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم،وينشد الأشعار،ويبكي أصحاب القُليب من قريش الذين أٌصيبوا ببدر...)) / 2 سيرة ابن هشام تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، طبع دا ر التراث، 2003، القاهرة، 2 ص 335 / وتروي بعض المصادر إنه كان أحد الذين حاججوا النبي الكريم عندما تحولت القبلة من المقدس إلى مكة المكرمة ويطالبونه بالعودة إلى قبلته الأولى / 3 دلائل النبوة للبيهفي تحقيق سيد إبراهيم، طبع دار الحديث، القاهرة، سنة 2006، طبعة أولى 2 ص 428 / وتذكر المصادر أن كعب كان يساجل المسلمين شعرا إنتصارا لقريش وأعداء النبي، وبا لتالي، يبدو أنه شخصية نشطة، فلماذا يهمل نسبه بهذه الطريقة المثيرة؟
المصادر تذكر أن سبب قتله كونه كان يهجو النبي كثيرا، ويشبب بنساء المسلمين، أي يتغزل بهن بشكل فاضح.
يحكي لنا البخاري القصة في أكثر من مناسبة: ــ
(1): ففي باب رهن السلاح نقرا: ((حدّثنا علي بن عبد ا لله، حدّثنا سفيان،قال عمرو: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:من لكعب بن الاشرف، فإنه آذى الله ورسوله؟ فقال محمد بن مسلمة: أنا، فاتاه فقال: أردنا أن تُسلفنا وسقا أو وسقين، فقال: أ رهنوني نساءكم، قالوا: كيف نرهنك نساءنا وأنت أ جمل العرب؟ قال: فأرهنوني أبناءكم، قالوا: كيف نرهن أبناءنا، فيُسب أحدهم، فيقال: رُهن بوسق أو وسقين، هذا عار علينا،ولكنا نرهنك اللأمة، قال سفيان: يعني السلاح، فوعده أن يأتيه فقتلوه، ثم أ توا النبي فأخبروه))/ 4 البخا ري، طبع دار المعرفة، بيروت، سنة 2004، مجلد واحد، ص 647، حديث رقم 2510 /
(2): في باب الكذب في الحرب نقرأ: ((... عن عمرو بن دينار،عن جابر بن عبد رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لكعب بن الأشرف، فإنه قد آذى الله ورسوله؟ قال محمد بن مسلمة: أتحب أن أ قتله يارسول الله؟ قال: نعم. قال: فأتاه فقال: إن هذا ــ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ـ قد دعانا وسألنا الصدقة، قال: وأيضاً والله لتملنّه قال: فإنّا أتبعناه فنكره أن ندعه، حتى ننظر إلى ما يصير أمره، قال: فلم يزل يكلمه حتى إستمكن منه فقتله))/5 نفس المصدر حديث رقم 3031.
(3) في باب الفتك با هل الحرب: ((... عن عمرو بن دينار، عن عبد ا لله بن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من لكعب بن الأشرف؟ فقال محمد بن مسلمة: أتحب أن أقتله؟ قال:نعم، قال: فإذن لي فأقول، قال:لقد فعلت.)) 6 حديث رقم 3032 /
(4): في باب قتل كعب بن الأشرف نقرأ رواية مفصّلة، وفيها أن القوم الذين تكفلو ا قتل كعب وبعد أن اتفقوا معه على أن الاستسلاف بوسق أو وسقين، ورفضهم رهن نساءهم وأولادهم، واتفاقهم معه على رهن السلام الذي بيدهم، تقول الرواية ((... ولكنّا نرهنك اللأمة... فواعده أن يأتيه، فجاءه أبو نائلة، وهو أخو كعب من الرضاعة، فدعاهم إلى حصن،فنزل إليهم، فقالتله إمرأته: أين تخرج هذه السّاعة؟ فقال: إنّما هو محمد بن مسلمة وأخي أبو وائلة، وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتا كأنه يقطر منه الدّم،قال: إنّما هو أخي محمّد بن مسلمة، ورضيعي أبو نائلة، إن الكريم لو دُعي إلى طعنة بليل لأجاب. قال: ويدخل محمد بن مسلمة معه رجلين ـ قيل لسفيان: سمّاهم عمرو؟ قال: سمّي بعضهم ـ قال عمرو: جاء معه برجلين، وقال غير عمرو: أبو عبس بن جبر، والحارث بن أوس، وعبّاد بن بشر. قال عمرو: جاء برجلين، فقال:إذا ما جاء فإني قائل بشعره فأشمه، فإذا رأيتموني استمكنت من رأسه فدونكم فأضربوه. وقال مرّة: ثم أُشِمُكم فنزل فنزل إليها متوشحا وهو ينفح منه ريح الطيب، فقال: ما رأيت كاليوم ريحا، أي أ طيب، وقال غير عمرو: قال: عندي أ عطر نساء العرب و أكمل العرب. قال عمرو: فقال: أتأذن لي أن أشَم رأسك؟ قال: نعم، فشمَّه ثم أشم أصحابه، ثم قال: أتأذن لي؟ قال: نعم، فلمّا ا ستمكن منه، قال: دونكم، فقتلوه، ثم أ وتوا النبي صلى الله عليه وسلم فاخبروه))/ 7 حديث رقم 4037.
تراجيديا الجمال
هذه هي رواية البخاري، وهي رواية أحاد، يرويها عمرو بن دينار سماعا عن عبد الله بن جابر الانصاري.
الرواية تحمل عناصر كثيرة تصدِّعها من داخلها، فإن إمرأة كعب كانت قد نصحت كعب أن لا يذهب مع الرجلين إلى ا لقلعة، ولكن كعب أكد لها أنْ لا خطر عليه، لانه مطمئن إلى محمد بن مسلمة فهو أخوه، كما أن أبو وائلة أ خاه بالرضاعة، حيث نقع هنا على مفارقة كبيرة، ذلك كان الأولى بكعب أن يقول لزوجه أن الرجلين إكتشفا حقيقة محمد، وإنهما صبئا عن دين الاسلام بعد ان تسبب ذلك في فقرهما!
الرواية بكل وضوح تحمل معالم مدح وإطراء دقيق للسلوك اليهودي متمثلا في شخص كعب بالذات، فهو لابد أن يستجيب للدعوة حتى وإن كان فيها حتفه، لان (الكريم لو دُعي إلى طعنة لأجاب...)، على حد قوله. ونحن إذا قارنا بين سلوك كعب وسلوك كل من الذين قتلوه من المسلمين لرأينا الوفاء هناك والغدر هنا!!
وقد كان هناك محاولة لاستغلال هذه المفارقة من قبل جهد يهودي ذكي، فنحن نقرأ في دلائل النبوة للبيهقي: ((أخبرنا أبو زكريا... عن عمر بن سعيد أخي سفيان بن سعيد الثوري، عن أبيه، عن عباية، يعني ابن رفاعة قال: ذكر مقتل كعب بن الأشرف عند معاوية فقال يامين: كان قتله غدرا، فقال محم بن مسلمة: يا معاوية أيغدر عندك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا تنكر، وا لله لا يظلني وإياك سقف بيت أبدا، ولا يخلو لي دم هذا إلاّ قتلته))/8 3 ص 151 رقم 1088. وسواء كانت الرواية هذه صحيحة أم لا، فإنها تكشف لنا عن إمكان توظيفها ضد الأخلاقية الإسلامية.
تحتل قضية الجمال مكانا مهما بل مركزيا في الرواية، فإن كعب كان أجمل العرب، فقتله تعبير عن إغتيال الجمال، وحشية دامية، وذوق سمج.
إن شَعر كعب كان جزء أيروسيا في الرواية، فهو طويل ومعطّر بأحسن العطور،وكان الاخر يشم الشعر منتشيا برائحته القوية، لقد تضافرت كل عناصر الرفعة الذوقية في جسد كعب، فهو كان طويلا، وسيما، ذا شعر معطّر، ذا بطن، وهامة كما تذكر رواية.
الرواية أو السرد مصمم بدقة على جبهتين، الاولى وفاء وجمال وثقة، والاخر غدر وخبث ومؤامرة، الجبهة الا ولى هي الخلق اليهودي، أو على الاقل خلق هذا الرجل اليهودي، والثانية هي خلق المسلمين، أو هؤلاء المسلمين! هناك تميم ذكي مبرمج، منحوت بطريقة خفية.
الرواية تؤكد أن كذبة محمد بن مسلمة التي وارى فيها قصده وهو يتحدث إلى كعب إنما هي بإجازة من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم!
وفي روا ية أن ا ليهود عاتبو ا وحاججوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه اللغة، أي أن صاحبهم قتلة غيلة، مما يعني إنها نقطة حساسة، وتحولت إلى مصدر إيلام وخدش بالاخلاقية الاسلامية.
حدس يهودي متميز!
لم يعد هذا التمييز الجمالي والاخلاقي وحده من نصيب الشخصية اليهودية في الرواية، بل كذلك الحدس، ففي رواية البخاري السابقة نقرا أن زوجة كعب كانت قد حذرت كعب إن يخرج للقوم على موعد قائلة له: ((... أين تخرج هذه الساعة؟ فقال ـ أي كعب ـ إنما هو محمد بن مسلمة واخي أبو نائلة، وقال غير عمرو: قالت: أسمع صوتاً كأنه يقطر منه الدم...))، وفي رواية الكلبي ((... فتعلقت به إمرأته،وقالت: مكانك، فوالله إني لأرى حمرة الدم مع الصوت)) 9 / نقلا عن فتح ا لباري النسخة الالكترونية / وفي سيرة ابن هشام نقرا: ((... والله إني لأعرف من صوته الشَّر...)) 10 / المصدر ص 340 / وفي مرسل عكرمة نقرا: ((... أخذت بثوبه فقالت: إذكر ك الله إن لا تنزل إليهم، فوالله إنّي لأسمع صوتا يقطر منه الدم)) / 11 من فتح البا ري النسخة الالكترونية /
فهذه المرأة اليهودية ذات حدس متميز، تدرك ما بعد الظاهرة، فإن الصورة المطروحة لنا عن هذه المرأة تكشف عن غوص عميق في الظاهر لتنفذ علما وكششفا في الباطن، كما أن لغة التصوير تبلغ الذروة في الإثارة الادبية والحدسية لدى السامع، هو الأمر الذي استرعى بعض العلماء، فإن ابن حجر العسقلاني يصف ذلك في كتابه فتح الباري بقوله: ((... وفي دلالة على قوة فطنة إمرأته المذكورة، وصحة حديثها، وبلاغتها في إطلاقها أنّ الصوت يقطر منه دما...)) / 12 المصدر من النسخة الالكرتونية /. وبالتالي، تجتمع لدينا في الرواية كل دواعي تهويل قدرات الشخصية اليهودية، ذكاء وحدس ومال وجمال ووفاء وحسن ا لظن، فيما في الطرف المقابل الغدر والفقر وافتقاد الحسن الانثوي!