أظهر كاتب الزمن الاسلامي (السيرة النبوية خاصة) فنا رائعا في دبج خبر السيرة النبوية، وقد تجلت بعض مظاهر هذا الفن في سرد (صلح الحديبية)، فقد تراوح السرد بين كسر وجبر فنيين رائعين ودقيقين، وأقصد بالكسر عندما يذكر لنا السرد ما يمكن إعتباره نقصا أو ذما أو مثلبة عقدية أو سلوكية بحق صحابي كبير، وأقصد بالجبر محاولة ترميم هذا الكسر بطريقة فنية ذكية، وبذلك يشكل لنا السرد قصة ممتازة، والهدف البعيد هو حفظ كرامة الصحابي الكبير!
هنا، وكعمل تطبيقي لفكرة الكسر والجبر في أخبارالسيرة النبوية نأخذ صلح الحديبية كمثال على ذلك،مستعينين بسيرة ابن إ سحق باعتبارها النموذج الأرقى والاصح والأكثر أهمية في قراءة سيرة النبي الكريم.
إن أول كسر يواجهنا في سرد ابن إسحق هو رفض الخليفة عمر بن الخطاب الذهاب إلى مكّة بطلب من النبي للتفاهم مع قريش، بحجة أنه يخاف قريشا لعدم وجود أحد من بني عديّ، وللعداوة المستحكمة بينه وبين قريش / ص 259 /
وهو كسر بطبيعة الحال مهما كانت الاسباب والاعذار، يتناقض مع ما عرف عن عمر من شجاعة منقطعة النظير، ولأنه الفاروق، ومن الذين صدّقوا النبي، وكثيرا ما نزل القرآن على ضوء طروحاته ومواقفه.
فهل يبقى الكسر بلا جبر؟
الجبر جاء حالا، فإن السرد يقول مباشرة أن عمر لم يرفض بدون بديل، بل طرح البديل: ((... ولكني أدّلك على رجل أعز بها منّي عثمان بن عفّان))/ ص 259 / وقد إستجاب رسول الله لاقتراح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أرسل فعلا عثمان الى مكة للتفاوض مع قريش حول مجيئه للعمرة وبغية إقناعهم بأن مجيئه للعمرة لا للقتال، وإنّه سيرجع للمدينة مجرد أ جراء منساك العمرة هو واصحابه الكرام.
الكسر الثاني الذي نواجهه في سرد ابن إسحق هنا، هو موقف عمر أيضا من الصلح، ذلك الموقف الشهير الذي عبر عن قلق عمري ساخن تجاه عملية الصلح، لقد كان رافضا للصلح، مشككا بجدواه، وربما كان يرى أن ذلك خلاف حكمة النبوة!
هنا، وكعمل تطبيقي لفكرة الكسر والجبر في أخبارالسيرة النبوية نأخذ صلح الحديبية كمثال على ذلك،مستعينين بسيرة ابن إ سحق باعتبارها النموذج الأرقى والاصح والأكثر أهمية في قراءة سيرة النبي الكريم.
إن أول كسر يواجهنا في سرد ابن إسحق هو رفض الخليفة عمر بن الخطاب الذهاب إلى مكّة بطلب من النبي للتفاهم مع قريش، بحجة أنه يخاف قريشا لعدم وجود أحد من بني عديّ، وللعداوة المستحكمة بينه وبين قريش / ص 259 /
وهو كسر بطبيعة الحال مهما كانت الاسباب والاعذار، يتناقض مع ما عرف عن عمر من شجاعة منقطعة النظير، ولأنه الفاروق، ومن الذين صدّقوا النبي، وكثيرا ما نزل القرآن على ضوء طروحاته ومواقفه.
فهل يبقى الكسر بلا جبر؟
الجبر جاء حالا، فإن السرد يقول مباشرة أن عمر لم يرفض بدون بديل، بل طرح البديل: ((... ولكني أدّلك على رجل أعز بها منّي عثمان بن عفّان))/ ص 259 / وقد إستجاب رسول الله لاقتراح عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أرسل فعلا عثمان الى مكة للتفاوض مع قريش حول مجيئه للعمرة وبغية إقناعهم بأن مجيئه للعمرة لا للقتال، وإنّه سيرجع للمدينة مجرد أ جراء منساك العمرة هو واصحابه الكرام.
الكسر الثاني الذي نواجهه في سرد ابن إسحق هنا، هو موقف عمر أيضا من الصلح، ذلك الموقف الشهير الذي عبر عن قلق عمري ساخن تجاه عملية الصلح، لقد كان رافضا للصلح، مشككا بجدواه، وربما كان يرى أن ذلك خلاف حكمة النبوة!
هل يمضي الكسر بلا جبر؟
إذن ترتبك نظرية عدالة الصحابة، وتخترق الشكوك جسد ذلك الزمن الصافي، الزمن الذي يعتبر خير الأزمان وأكملها وأشرفها.
لا بد من جبر!
يأتي الجبر بشكل دقيق وعلى مستويات من المواقف تنسيك ما بدر أولا، وتمسح على سطور ذلك الموقف بخطوط أشد منها وضوحا، ولكنها خطوط بيضاء للغاية!
لقد كان عمر بن الخطاب من الموقِّعين على وثيقة الصلح! ثم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي تولى تهدئة روع ذلك المسكين الذي كان الصلح سببا في الكثير من معاناته، أقصد أبا جندل! فإن مقتضى المعاهدة أن يرد النبي كل مسلم يهرب من المشركين ويلجأ إليه، وكان أبو جندل ممن تنطبق عليه هذه المادّة، فعاش معاناته بشكل مذهل، ولم يكن سوى عمر ليدخل على خاطره الطيب، ويصبره، فيما كان الرجل ثائرا محتجا، خائفا من مصير أسود: ((...فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنّما هم ا لمشركون، وإنّما دم أحدهم دم كلب...)) / ص 263 /
عملية تعويض عن ذلك الموقف الذي كان كسرا، كسرا يثلم المستقبل، حقا نحن بين يدي عملية جبر مذهلة، فن راق للغاية.
الواقدي صعّد من عملية الجبر هذه، فهو يروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول لجندل بن سهيل بن عمرو بن يوسف ا لمحاور في الصلح عن قريش: ((... يا أبا جندل، إنّ الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجل برجل...))/ 1 ص 609 /.
هل هي عملية تعويض عن تلك (الزلّة) العمرية أصطنعها الزمن العربي على لسان كاتبيه كي يرمم عقيدة باتت جوهر قطاع كبير من ا لمسلمين؟
فها هو يطلب أو يشجع أبا جندل على قتل أبيه، ذلك أنّه مشرك، ودمه نجس؟ أي هناك تصور(عمري) للإيمان يقوم على أصالة مطلقة وتسليم مطلق.
إنها أشبه بتلك الثيمة التاريخية التي يرويها الشيعة عن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن عليا كما تذكر مصادر شيعية وغير شيعية رفض أن يمحو (محمد رسول الله) من وثيقة الصلح فيما كان يمليه الرسول نفسه! ولكنّنا نصا دف جبرا لهذا الموقف العلوي، إذ نقرا في مصدر شيعي وغير شيعي أيضا: ((... قال محمد بن إسحق بن يسار: وحدّثني بريدة بن سفيان، عن محمّد بن كعب، أن كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان علي بن ابن طالب عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم: (أكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو) فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا ّ محمد ر سول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد)،فكتب ما قالوا...))/ البحار 20 ص 335 /
هنا نلتقي بعمليّة مركبة، كان علي لا يشك أن محمدا رسول الله، حتى ذهب به الموقف أن يرفض إملاء إسم النبي مجردا من الرسالة بأمر النبي نفسه! فما علينا سوى أن نتذكر (شك) عمر السابق، أي شكّه بنبوة محمّد أو تساءله ذا الطابع الحائر عن مدى إنسجام مشروع النبوة مع مشروع ا لصلح!
فهل هي معركة خفية تتحكم في كتابة السيرة النبوية، معركة غائرة في عمق التاريخ، تترجم ماض قاس، ماض مضطرب؟
وهي لعملية ذكية وفي غاية الذكاء، فإنها تبرر لاحقا بسابق، السابق هو صلح محمد مع قريش، واللاحق هو صلح علي مع معاوية!
وهي لعملية ذكية في غاية الذكاء، فإ نها توظّف النبوة لصالح الامامة rsquo; والامامة لصالح النبوة.
الرواية ضعيفة ضمن معطيات علم الرجال السني، لا أقل من جهة محمّد بن كعب بن سليم لانه من الطبقة الوسطى من التابعين، فتكون الرواية مرسلة، كما أن (بريدة بن سفيان) ليس بالقوي، ولعل السند منقطع لسقوط لغياب الواسطة بين التابعي والصحابي. وقد أورده الذهبي في مغازية وفي سنده بريدة، كذلك الصالحي في (سبيل الهدى والرشاد 5 ص 54) بنفس السند!
لا يهمني هنا ضعف الرواية، وإنما يهمني فن الكسر والجبر في كتابة التا ريخ الاسلامي، الزمن الإسلامي، إنه زمن مرمَّم وليس مرصودا!!
المعروف إن النبي الكريم فيما أقرَّ الصلح وكتبه أمر أصحابه بالنحر والحلق، ولكن الصحابة الكرام رفضوا ذلك، وعمل النبي باقتراح أم سلمة رضي الله عنها، نحر وحلق، فما كان من الصحابة حتى يعملوا ما عمل!
الصحابة في ذلك خالفوا نبيهم، وكان النبي الكريم قد عانى من خيبة، توجّع لهذا الموقف، اشتكى لام سلمة، ثم هي مخالفة تسمّى في عرف الفقه مولوية شرعية!
إذن لابد من جبر!
تقول الرواية: ((... وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا...)) / البخاري كتاب الشروط 2732 /
هكذا كانت الاستجابة!
النقطة الجوهرية هنا ليس الحلق والنحر، بل اللوم المتبادل الذي كاد يصل إلى قتل الجميع، قتل بعضهم بعضا، إنّها عملية تعادل لذلك الموقف السيئ،الموقف الذي أساء للنبي وتسبّب له بالالم والشكوى، فالصحابة هنا قاموا بعمليّة تطهير داخلي، غسلا لذلك الإثم الكبير، فإذا جاء تاريخ يحاكم الصحابة على هذه (السقطة الكبيرة) يجيبه تاريخ بانّها السقطة التي غُسِلتْ، السقطة التي كان لها ثمنها من عملية التطهير من الداخل.
مرّة أخرى لست معنيا بمدى صحة أ وفساد الخبر هنا، بل لي علاقة بطريقة صياغة الخبر التاريخي في سرد السيرة على لسان رواتها ومدونيها.
لقد كان موقف ابي جندل بن سهيل بن عمرو صعبا للغاية، لقد نصّت المعاهدة على ((على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إ ذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه))/ ابن إسحق ص 262 /
هذه المادة أحرجت شخصا مسلما كان قد خرج إلى قريش، ذلك هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وهو ابن سهيل بن عمرو كاتب الصلح نيابة عن قريش، وفيما كان الطرفان منهمكين في كتابة الصلح دخل أبو جندل هذا منفلتا من قريش يرسف بحديده، فقال أبوه سهيل في لحظتها: ((... يا محمّد قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا (أي إنعقدت وإنتهى أ مرها وتمت) قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه، ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو الجندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أَأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!!... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا...)) المصدر ص 262 /
لا شك إن مثل هذا الموقف يثير الكثير من التعاطف مع أبي جندل، وتشير الاخبار إن الرجل كان مرتبكا وخائفا من القتل، وهي قد تتحول إلى ثغرة نقدية، بل إن المادّة بحد ذاتها يمكن أن تتحول إلى مادّة نقدية، خاصة وإن النبي الكريم لم يشترط عدم رد من يلجأ اليه من قريش كما اشترطت قريش.ولكن النص عالج القضية بذكاء... فإن أحد المسلمين واسمه ابو بصير كان قد جاء النبي في المدينة من قريش، فطلبته قريش طبقا للنص المذكور، وبالفعل تم تسليمه ولكنَّ الرجل هرب في منتصف الطريق ورجع إلى النبي في المدينة قائلا له:((... يا نبي الله،قد والله اوفى ا لله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمِّه مسعر حرب لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنّه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر...)) / البخاري كتاب الشروط / وهناك مكث بعيدا عن قريش وتحول إلى ملجا لكل من يهرب من قريش، بما في ذلك أبو جندل حيث لحق به، وتشكلت هناك من هؤلاء عصابة، أصبح شغلها ا لشاغل التصدي لتجارة قريش ((فوالله لا يسمعون بعيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلاّ إعترضوا لها، فقتلوهم واخذوا أموالهم...)) البخاري كتاب الشروط /
وهكذا إنقلبت الموازين، وتحول الشرط الذي إشترطته قريش وقبله النبي الكريم إلى سيف بتار يقطع رقاب رزقها!
هل كان النص وفيا لواقع حقا، أم هو خلق واقعا تبريريا؟
هل كاتب الزمن الاسلامي هنا كان يترجم الزمن كما جرى أم هي عملية تصدي لمستقبل نقدي سلبي يمكن أن يطال المسيرة؟
إن الكسر كان عميقا كما يبدو، فجاء الجبر وافيا بالغرض، وزيادة، فلم يجد أبو جندل وأصحابه مخرجا بل تحولوا إلى منقذين ومؤثرين في عمق التاريخ، فإي نتيجة يمكن أن تحصل لو لم تشترط قريش ذلك الشرط المجحف ويقبله النبي الكريم؟
شخصيا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشرط، وإذا كان حقا قد قبله فهو قبول السياسي وليس النبي، قبول الحاكم وليس المرسل، وليس في ذلك تناقض.
كلمة أخيرة أقولها هنا، فإن له شواهد كثيرة في السيرة النبوية. ربما نلتقي بنماذج جديدة على صفحات إيلاف، إيلاف وحدها!!
[email protected]
إذن ترتبك نظرية عدالة الصحابة، وتخترق الشكوك جسد ذلك الزمن الصافي، الزمن الذي يعتبر خير الأزمان وأكملها وأشرفها.
لا بد من جبر!
يأتي الجبر بشكل دقيق وعلى مستويات من المواقف تنسيك ما بدر أولا، وتمسح على سطور ذلك الموقف بخطوط أشد منها وضوحا، ولكنها خطوط بيضاء للغاية!
لقد كان عمر بن الخطاب من الموقِّعين على وثيقة الصلح! ثم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو الذي تولى تهدئة روع ذلك المسكين الذي كان الصلح سببا في الكثير من معاناته، أقصد أبا جندل! فإن مقتضى المعاهدة أن يرد النبي كل مسلم يهرب من المشركين ويلجأ إليه، وكان أبو جندل ممن تنطبق عليه هذه المادّة، فعاش معاناته بشكل مذهل، ولم يكن سوى عمر ليدخل على خاطره الطيب، ويصبره، فيما كان الرجل ثائرا محتجا، خائفا من مصير أسود: ((...فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه، ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنّما هم ا لمشركون، وإنّما دم أحدهم دم كلب...)) / ص 263 /
عملية تعويض عن ذلك الموقف الذي كان كسرا، كسرا يثلم المستقبل، حقا نحن بين يدي عملية جبر مذهلة، فن راق للغاية.
الواقدي صعّد من عملية الجبر هذه، فهو يروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول لجندل بن سهيل بن عمرو بن يوسف ا لمحاور في الصلح عن قريش: ((... يا أبا جندل، إنّ الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجل برجل...))/ 1 ص 609 /.
هل هي عملية تعويض عن تلك (الزلّة) العمرية أصطنعها الزمن العربي على لسان كاتبيه كي يرمم عقيدة باتت جوهر قطاع كبير من ا لمسلمين؟
فها هو يطلب أو يشجع أبا جندل على قتل أبيه، ذلك أنّه مشرك، ودمه نجس؟ أي هناك تصور(عمري) للإيمان يقوم على أصالة مطلقة وتسليم مطلق.
إنها أشبه بتلك الثيمة التاريخية التي يرويها الشيعة عن علي بن أبي طالب عليه السلام، فإن عليا كما تذكر مصادر شيعية وغير شيعية رفض أن يمحو (محمد رسول الله) من وثيقة الصلح فيما كان يمليه الرسول نفسه! ولكنّنا نصا دف جبرا لهذا الموقف العلوي، إذ نقرا في مصدر شيعي وغير شيعي أيضا: ((... قال محمد بن إسحق بن يسار: وحدّثني بريدة بن سفيان، عن محمّد بن كعب، أن كاتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان علي بن ابن طالب عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وأله وسلم: (أكتب هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد الله سهيل بن عمرو) فجعل علي يتلكأ ويأبى أن يكتب إلا ّ محمد ر سول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم: (فإن لك مثلها تعطيها وأنت مضطهد)،فكتب ما قالوا...))/ البحار 20 ص 335 /
هنا نلتقي بعمليّة مركبة، كان علي لا يشك أن محمدا رسول الله، حتى ذهب به الموقف أن يرفض إملاء إسم النبي مجردا من الرسالة بأمر النبي نفسه! فما علينا سوى أن نتذكر (شك) عمر السابق، أي شكّه بنبوة محمّد أو تساءله ذا الطابع الحائر عن مدى إنسجام مشروع النبوة مع مشروع ا لصلح!
فهل هي معركة خفية تتحكم في كتابة السيرة النبوية، معركة غائرة في عمق التاريخ، تترجم ماض قاس، ماض مضطرب؟
وهي لعملية ذكية وفي غاية الذكاء، فإنها تبرر لاحقا بسابق، السابق هو صلح محمد مع قريش، واللاحق هو صلح علي مع معاوية!
وهي لعملية ذكية في غاية الذكاء، فإ نها توظّف النبوة لصالح الامامة rsquo; والامامة لصالح النبوة.
الرواية ضعيفة ضمن معطيات علم الرجال السني، لا أقل من جهة محمّد بن كعب بن سليم لانه من الطبقة الوسطى من التابعين، فتكون الرواية مرسلة، كما أن (بريدة بن سفيان) ليس بالقوي، ولعل السند منقطع لسقوط لغياب الواسطة بين التابعي والصحابي. وقد أورده الذهبي في مغازية وفي سنده بريدة، كذلك الصالحي في (سبيل الهدى والرشاد 5 ص 54) بنفس السند!
لا يهمني هنا ضعف الرواية، وإنما يهمني فن الكسر والجبر في كتابة التا ريخ الاسلامي، الزمن الإسلامي، إنه زمن مرمَّم وليس مرصودا!!
المعروف إن النبي الكريم فيما أقرَّ الصلح وكتبه أمر أصحابه بالنحر والحلق، ولكن الصحابة الكرام رفضوا ذلك، وعمل النبي باقتراح أم سلمة رضي الله عنها، نحر وحلق، فما كان من الصحابة حتى يعملوا ما عمل!
الصحابة في ذلك خالفوا نبيهم، وكان النبي الكريم قد عانى من خيبة، توجّع لهذا الموقف، اشتكى لام سلمة، ثم هي مخالفة تسمّى في عرف الفقه مولوية شرعية!
إذن لابد من جبر!
تقول الرواية: ((... وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا...)) / البخاري كتاب الشروط 2732 /
هكذا كانت الاستجابة!
النقطة الجوهرية هنا ليس الحلق والنحر، بل اللوم المتبادل الذي كاد يصل إلى قتل الجميع، قتل بعضهم بعضا، إنّها عملية تعادل لذلك الموقف السيئ،الموقف الذي أساء للنبي وتسبّب له بالالم والشكوى، فالصحابة هنا قاموا بعمليّة تطهير داخلي، غسلا لذلك الإثم الكبير، فإذا جاء تاريخ يحاكم الصحابة على هذه (السقطة الكبيرة) يجيبه تاريخ بانّها السقطة التي غُسِلتْ، السقطة التي كان لها ثمنها من عملية التطهير من الداخل.
مرّة أخرى لست معنيا بمدى صحة أ وفساد الخبر هنا، بل لي علاقة بطريقة صياغة الخبر التاريخي في سرد السيرة على لسان رواتها ومدونيها.
لقد كان موقف ابي جندل بن سهيل بن عمرو صعبا للغاية، لقد نصّت المعاهدة على ((على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إ ذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يردوه عليه))/ ابن إسحق ص 262 /
هذه المادة أحرجت شخصا مسلما كان قد خرج إلى قريش، ذلك هو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، وهو ابن سهيل بن عمرو كاتب الصلح نيابة عن قريش، وفيما كان الطرفان منهمكين في كتابة الصلح دخل أبو جندل هذا منفلتا من قريش يرسف بحديده، فقال أبوه سهيل في لحظتها: ((... يا محمّد قد لجّت القضية بيني وبينك قبل أن يأتيك هذا (أي إنعقدت وإنتهى أ مرها وتمت) قال: صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه، ويجرّه ليردّه إلى قريش، وجعل أبو الجندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أَأُرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟!!... فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا جندل اصبر واحتسب فإن الله جعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا...)) المصدر ص 262 /
لا شك إن مثل هذا الموقف يثير الكثير من التعاطف مع أبي جندل، وتشير الاخبار إن الرجل كان مرتبكا وخائفا من القتل، وهي قد تتحول إلى ثغرة نقدية، بل إن المادّة بحد ذاتها يمكن أن تتحول إلى مادّة نقدية، خاصة وإن النبي الكريم لم يشترط عدم رد من يلجأ اليه من قريش كما اشترطت قريش.ولكن النص عالج القضية بذكاء... فإن أحد المسلمين واسمه ابو بصير كان قد جاء النبي في المدينة من قريش، فطلبته قريش طبقا للنص المذكور، وبالفعل تم تسليمه ولكنَّ الرجل هرب في منتصف الطريق ورجع إلى النبي في المدينة قائلا له:((... يا نبي الله،قد والله اوفى ا لله ذمتك، قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل أمِّه مسعر حرب لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنّه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سيف البحر...)) / البخاري كتاب الشروط / وهناك مكث بعيدا عن قريش وتحول إلى ملجا لكل من يهرب من قريش، بما في ذلك أبو جندل حيث لحق به، وتشكلت هناك من هؤلاء عصابة، أصبح شغلها ا لشاغل التصدي لتجارة قريش ((فوالله لا يسمعون بعيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلاّ إعترضوا لها، فقتلوهم واخذوا أموالهم...)) البخاري كتاب الشروط /
وهكذا إنقلبت الموازين، وتحول الشرط الذي إشترطته قريش وقبله النبي الكريم إلى سيف بتار يقطع رقاب رزقها!
هل كان النص وفيا لواقع حقا، أم هو خلق واقعا تبريريا؟
هل كاتب الزمن الاسلامي هنا كان يترجم الزمن كما جرى أم هي عملية تصدي لمستقبل نقدي سلبي يمكن أن يطال المسيرة؟
إن الكسر كان عميقا كما يبدو، فجاء الجبر وافيا بالغرض، وزيادة، فلم يجد أبو جندل وأصحابه مخرجا بل تحولوا إلى منقذين ومؤثرين في عمق التاريخ، فإي نتيجة يمكن أن تحصل لو لم تشترط قريش ذلك الشرط المجحف ويقبله النبي الكريم؟
شخصيا أشك أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل هذا الشرط، وإذا كان حقا قد قبله فهو قبول السياسي وليس النبي، قبول الحاكم وليس المرسل، وليس في ذلك تناقض.
كلمة أخيرة أقولها هنا، فإن له شواهد كثيرة في السيرة النبوية. ربما نلتقي بنماذج جديدة على صفحات إيلاف، إيلاف وحدها!!
[email protected]
التعليقات