1
قال تعالى في سورة البقرة آية: (وقالوا اتخذ الله ولداً سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل فه قانتون، بديع السموات والأرض وإذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكون)
وردت هذه الصيغة في القرآن المجيد ثمان مرّات، في سورة آل عمران أية 47، وأية 49، وفي آية 59، وفي سورة الأنعام آية 73، وفي سورة النحل أية 41، وفي سورة مريم آية 35، وفي سورة يس آية 82، وفي سورة غافر آية 68.
وكل الاستعمالات التي وردت فيها هذه المادة إنما في سياق قضاء وإرادة الله التكوينية،
والمعنى الاجمالي للاستعمال إن الله أذا أراد أو قضى شيئا لا يتاخر، ولا يتخلف، ولا يختلف، ولا ينحكم بزمان أو مكان أو كيفية أو كمية، سواء كان بشرا، أو كان ملكا، أو كان سما ء أو أرضا.
والتعبير بـ (كن فيكون) وسيلة للتوضيح هنا، والمعنى ليس طبق اللفظ والتركيب الذي جاء به، لأن الله لا يحده زمان ولا مكان، وفعله عين قوله سبحانه.
ليس من المعقول أ ن يخاطب الله سبحانه معدوما ليقل له (كن)، وإن هذا ا لمعدوم يخرج من ربقة العدم إلى ساحة الوجود بسبب هذا الخطاب، هذا أمر غير معقول، وإنما المعنى إ ن الله يخلق الاشياء بلا تفكر وروية ومعاناة وتجربة على حد تعبير الفخر الرازي، وليس من المعقول إن يلفظ الله بهذه اللفظة كي يعقب ذلك وجود متعلَّق اللفظة المذكورة، لأن كلمة (كن) هي الأخرى شيء، وبذلك سوف نقع في محذور التسلسل الذي لا ينتهي ـ هكذا قالوا ــ
ولكن هل عملية التكوين هذه تعني إنها تجري في فضاء عدمي، حيث يقول لشيء ـ وهو عدم مطلق ـ كن فيكون؟!
أو هل يعني ذلك إن الله (يكوِّن) الأشياء من عدم، فكأن الأمر بالتكوِّن مسبوق بعدم، أقصد عدم المُكوَّن؟
القرآن الكريم يضم كثيرا من الآ يات الشريفات التي تبين لنا أن (التكوين) لا يرجع إلى الايجاد من العدم بالضرورة.
يقول تعالى: (قلنا يا نار كوني على إبرا هيم بردا وسلاما).
يقول تعالى: (كونوا قردة خاسئين).
فعملية التكوين هنا جرت على شيء سابق، لم تجر في فضاء عدمي، بل هناك آية صريحة في هذا المعنى وتتصل بالصيغة التي هي محل البحث.
يقول تعالى: (إن مثل عيسى عند ا لله كمثل آدم خلقه من تر اب ثم قال له كن فيكون).
فالله تعالى (كوَّن) أدم وعيسى من مادة سابقة، وقوله (كن فيكون) لم يجر في فضاء عدمي صرف كما يتوهم البعض.
يقول سبحانه: (... إني اخلق لكم من الطين كهيئة لطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله)، فهذه الآية توضح بشكل صريح، إن عيسى عليه السلام يكوِّن لنا طيرا حيا بإذن الله،ولكن ليس من عدم، بل من طين سابق، ينفخ فيه.
يقول سبحانه: (وهو الذي خلق السموات والأرض با لحق ويوم يقول كن فيكون قوله ا لحق وله الملك يوم يُنفخ في الصور عالم ا لغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير).
وقوله تعالى (ويوم يقول كن فيكون) منصرف إلى يوم القيامة، وهو تكوين تحويلي إذا صحَّ التعبير، ففي ذلك اليوم تكون السماء غير السماء والأرض غير الأرض، وليس في البين إشارة إلى الخلق من عدم، أو الإيجاد المسبوق بعدم، وحتى بعث الأجساد من قبورها ليس عملية خلق من عدم كما هو معروف.
يقول تعالى: (إنّما قولنا لشيء إذا أ ردناه أن نقول له كن فيكون)، والآية مساقة لإثبات البعث وا لنشور، والبعث والنشور ليس خلقا من عدم كما هو معلوم، بل هو بعث لاجساد من قبورها، وتبديل للكون على صورة أخرى.
يقول تعالى: (ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمراً فإنّما يقول له كن فيكون)
والآية رد على النصارى، فإن عيسى عليه السلام لم يكن ابن الله، وإنما هو من خلق الله عز وجل، وهو جزء من حقيقة الوالدية هنا، فلم يخلق الله عيسى في رحم أمه أو بطن امه من لا شيء.
والآية في معرض الرد على النصارى، قولهم إن المسيح بن الله، وقد خلق الله عيسى عليه السلام في رحم أمه ومن أمه، فهو جزء من أمه سلام الله عليهما، ولم يخلقه من عدم داخل الرحم الشريف، لقد كانت عملية تكوين وليست إيجاداً من عدم،
يقول تعالى: (أوليس الذي خلق السموات و الأرض بقادر على أن يخلق امثالهم بلى وهو الخلاّق العليم، إنّما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون).
والواقع، مهما كان المقصود من (أمثالهم) فإن عملية الخلق هنا لا تعني الايجاد من (لا شيء)، لسبب بسيط، إن الله سبق وأ ن خلقهم من تراب، وإن كان المقصود من (أمثالهم) إنهم هم بحد ذاتهم، يوجدهم مرّة ثانية، فالإشارة إنما هي إلى بعث أجسادهم بعد الموت، ولذلك ليست هي ايجاد من (لا شيء)، فإذا كان هناك إ صرار على ربط التكوين بهذا ا لنوع من الخلق فهو لا يفيد الايجاد من عدم، فإن البعث والنشور اعادة خلائق سابقة، ولكنها تحولت بسبب الموت والفناء إلى مواد أخرى، إن الإرادة هنا متعلقة بـ (إعادة) وليس بـ (إيجاد) بذلك المعنى الذي يتبادر الى الذهن لأول مرّة حيث قد يفيد الايجاد من عدم مسبق.
يقول تعالى: (هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدّكم ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمّى ولعلكم تعقلون، هو الذي يحي ويميت فإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون).
الواضح إن موضوع (كن فيكون) هو هذه التحولات الهائلة في مادة الخلق الإنساني، أو إن موضوعها الاحياء والإماتة، وكلاهما ليسا خلقا من عدم.

2
نقول: (كان الإنسان كمية من تراب همل) فإن مدخول كان هنا هو الإنسان، والإنسان جاء من التراب، أو تكوَّن من التراب، ونقول: (كانت السماء دخانا) فلسنا هنا أمام عملية خلق من عدم، بل أمام عملية تحويل الدخان إلى حالة جديدة، لقد كُثف فصار شكلا جديدا، ونقول: (كان فلان ضعيفا واليوم هو ناصح)، فإن التعبير يفيد عملية تحول من الضعف إلى النصح، هناك زيادة في الوزن، وهذه الزيادة ليست من عدم، ونقول: (كان فلان معدوما) وهو تعبير ليس له معنى، لأن المعدوم لا يشار اليه، ونقول: (كان الله غفورا رحيما) أي كان ومازال وسيبقى رحيما،، ونقول، ونقول (كوّن الفنان لوحة) أي كانت هناك لوحة من خشب أو قماش واجرى عليها عمله، فهي عملية تحويل، تبديل على مادة سابقة، ونقول: (كوّن الله الإنسان) أي صيَّره إنسانا من ما دة سابقة، وبالتالي، قد يكون التعبير الصحيح، كوَّن الله التراب إنسانا.

3

لقد أسَّس القرآن المكي لهذه المعادلة الكونية الكبيرة، معادلة (كن فيكون)، نريد الآن استعراض مقاربات الطرح القرآني عبر تسلسل النزول كما هو مقرر في أهم رواية في ذلك.
جاء في القرآن المكي: (أوليس الذي خلق السّماوات والأرض بقادر على أن يخلق أمثالهم بلى وهو الخلاّق العليم، إنّما أمره أن أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الّذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون).
جاء في القرآن المكي أيضا: (ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون،ما كان لله أن يتَّخذ من ولد سبحانه إذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكون).
جاء في القرآن المكي أيضا: (هو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله المُلك يوم يُنفخ في الصُّور عالم الغيب و الشهادة وهو الحكيم الخبير).
وجاء أيضا: (هو الذي يحي ويميت فإذا قضى أمرا فإنّما يقول له كن فيكون).
جاء أيضا: (ليبينّ لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الّذين كفروا أنّهم كانوا كاذبين، إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون).

من الواضح أن المعادلة جاءت لتعالج قضية أو شبهة الاعادة بعد الحياة، أي الاعادة يوم الحشر والنشر، ولكن من التمعن جيدا في آيات سورة (يس)، نكتشف إن القرآن أسّس للمعادلة بعمق، إذ ربط ذلك بالملكوت، والملكوت هو جهة إمكان الأشياء، وهو من أبرز صفات المقدورات، ليس بحكم كونها الصفة الجامعة فقط، بل لأن الإمكان هو سبب حدوث الأشياء، وهو عالم مفتوح ولا نهاية له، عالم مفتوح باستمرار، وقد حُفَّ العرض بأهم صفات الله عز وجل، من علم وخلق وإرادة وقدرة، فهناك حشد لأسماء الله الفعليّة في السياق، وهذه الكثافة من الحضور لهذه المقترات لا نجدها في سورة مريم أو سورة الأنعام أو النحل أو غافر.
إن الآيات في سورة (يس) وهي سورة مكية سبقت مريم والأنعام والنحل وغافر هي المؤسِِّسة للمعادلة، وما جاء بعدها عمليات تطبيق لهذه المعادلة الكبرى، أو في نطاقها.
جاء في القرآن المدني: (قالوا اتّخذ الله ولدا سبحانه بل له مافي السماوات والأرض وكل له قانتون، بديع السموات والأرض وإذا قضي أمرا فإنّما يقول له كن فيكون).
جاء أيضا: (قال ربِّ أنّى يكون لي ولد ولم يمْسَسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضي أمراً فإنّما يقول له كن فيكون).
وجاء أيضا: (... إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون) 1.
إن مقارنة بين القرآن المكي والقرآن المدني من خلال تتبع مقاربات هذه المعادلة سوف نجد إن المعادلة تأسست في القرآن المكي، وفي سورة (يس) بالتحديد، ليس لأسبقية زمنية، بل لأن المعادلة جاءت من خلال مبرراتها الكونية العلمية الواضحة، ولأنها جاءت وهي محفوفة بأهم صفات الله الفعلية، ولأنها جاءت من خلال إمضاء ملكية سر الحدوث بيد الله حصرا (بيده ملكوت كل شيء).
لقد جاء عرض المعادلة على مراتب، أو مراحل، كانت المرحلة الأولى تفصيلية إذ صح التعبير، أقصد ما جاء في سور ة (يس)، ومرادي من التفصيل المقتربات العمقية للمعادلة من عرش وقدرة وخلق وإرادة وغير ذلك، ثم تقلصت مساحة هذه المقتربات فيما بعد في الآيات الأخرى، وأختتمت بتكثيف مذهل في سورة آل عمران في الآية رقم (59)، فقد جاءت المعادلة وغابت في الأثناء مقتربات مهمة مثل الإ رادة والقضاء والأمر والشيء، ولقد عالجت المعادلة قضية خلق عيسى في آيات سابقة، ووصلت ذلك ببعض المقتربات المذكورة على اختلاف بين آية وأخرى في مسميات هذه المقتربات، وكذلك على اختلاف في السعة والتفصيل، ولكن في سورة آل عمران في هذه الآية بالذات غابت تلك المقتربات، وفي تصوري إن من وراء ذلك قصدا عميقا، هو الاشارة إلى أمرالله وإرداته وقضاءه... كلها حقيقة واحدة، ولذلك جاءت المعادلة في هذه الآية وهي خالية من هذه المقدمات، سوى القول (ثم قال له كن فيكون)، وقول الله تعبير عن ذاته جل وعلا، بكل ما حازت عليه هذه الذات من صفات الكمال والجمال والجلال (ويوم يقول كن فيكون فقوله الحق)، أي فعله الحق، لأن قوله فعله، وبالتلي، ما يترتب على (كن فيكون) حق، أي واقع لا شك فيه، بل هو عين الواقع.