الفراغ متغلغل في النص كما هو متغلغل في كل جسد، في كل موجود، والجدار الذي نراه متماسكا هو كمية هائلة من الفراغ، والفضاء بين النواة والالكترونات يشكل النسبة الغالبة من الحجم الكلي للذرة كما يقول العلماء العظام، كذلك النص، فراغات النص معلومات، أخبار، أسرار، رغبات، أهواء، آمال، أفكار، تارة تعبر هذه المقتربات عن واقع يمت بصلة حقيقية لهذه الفراغات، هي حقائق كانت غائبة بين مكونات النص، أي لبناته من أفكار وتصورات وصور، فاكشتفناها ورممنا بها جسد النص بعض الترميم، وتارة هي لعبتنا نحن، نزحف بين هذه الفراغات بآمالنا وغاياتنا، ونُمْليها أنفُسَنا، نُمْليها روحَنا، نُمْليها شعورَنا.
هذا هو النص، مجموعة من التصورات والأفكار والآراء والصور، ولكن بين كل فكرة وأخرى، بين كل تصور وآخر مسافة كبيرة، هذه المسافة تختزن حقائق غائبة، هل يمكننا اكتشافها؟ وهي مسافة جاهزة في بعض الأحيان لملئها بما نريد، بما نرغب، وبما نفكر، وبما نريد أن نوصله أيضا، فهل يمكننا أن نتناص مع غيرنا بهذه الطريقة؟
يقول القرآن الكريم: (ومن آياته أن خلقكم من تراب فإذا أنتم بشر تنتشرون)، فمما لا شك فيه هناك مسافة مذهلة بين الترابية والبشرية، بين الترب والإنسان كمخلوق يعبر عن النهاية القصوى للتطور الكوني، أو يعبر عن اعقد مخلوقات الله جل و علا، هذه المسافة الكبيرة المذهلة هي عبارة عن كم هائل من الحقائق والوقائع والتاريخ والمكونات والأسرار، وهي مسؤولية القارئ أن يملا هذا الفراغ، يملأه بما يكتنزه الفراغ ذاته حقيقة وواقعا، القرآن حاول أن ينبه إلى بعض المفردات التي تملأ هذه المساحة الهائلة من خلال ذكر بعض مراحل التطور التي يمرّ بها الجنين البشري، كأن يكون علقة ثم مضغة وهكذا حتى يصل إلى مرتبة الانبثاق الإنساني الحي، ولكن كما هو معلوم إن المرحلة أو المسافة بين التراب والخلقة البشرية ليست بهذا الجدب من الحقائق والأسرار والتاريخ، بل هي مسافة كما قلت في غاية السعة والشمول والعمق، والمطلوب من القاري هو التفتيش عن هذا الخزين المتوسط بين التراب والحياة العقلية للإنسان العظيم.
يقول القرآن إن السماوات والأرض كانت رتقا فَفُتِقا، فهل الفتق جاء بعد الرتق بدون مراحل وتطورات وتحولات؟ إن مهمة العقل هنا سد هذا الفراغ، ملؤه، ترميمه بالحقائق والوقائع والتصورات، وأؤكد أن لا خطر فيما كانت المحاولة غير دقيقة من حيث مصاديق الاكتشاف، وإنما المهم أصل المحاولة، لأنها إذا اصابت وهي تصيب حتما في كثير من الاحيان سوف نعيش نصا قرآنيا أسطع شعاعا، وأكثر إغناء للعقل، وتفعيلا للفكر، وإلا َّ ما قيمة نص يقول أن السموات والأرض كانتا متلصقتين ثم انفصلتا؟ نعم، المقصود بيان قدرة لله تعالى، ولكن هذه القدرة سوف تتجلى أكثر فيما لو ملأنا الفراغ بين الرتق والفتق،
العقل بهذا يملأ فراغات القرآن، ليس هذا الجهد من نوع التفسير، التفسير توضيح وبيان للمقصود، ينصب على اكتشاف الدلالة، أما هذه المحاولة فهي عملية (ترميم للنص القرآني) تكميل للنص، وربما يأتي الاكتشاف خطا، ربما ليس له واقع، ربما عبارة عن وهم، ولكنه محاولة على أي حال، وسوف يُعوَّضُ الخطأ بالصواب، وهي حتى إذا كانت خطا على مستوى مصداق الاكتشاف لا يضر بطبيعة الحال في أصل النص. وإذا كان تفسير النص القرآني نفسه خاضعا للخطأ والصواب كما يقول أهل التفسير، كذلك عملية مليء الفراغات في النص القرآني، خاضعة للأوهام والاشتباه والخطأ، فذاك مثل هذا .
يقول القرآن: (والشمس تجري لمستقر لها)، الفراغ هنا ليس المُستقَرْ، بل المسافة بين الشمس ومستقرها، فهناك عالم كبير وضخم ومدوي ومزدحم بين الشمس وهذا المستقر المفترض، ترى ما هو هذا العالم؟ هنا تكمن مهمة العقل، يعمل على مليء هذا العالم باكتشاف ذات العالم، بعض أسراره، بعض حقائقه، فإذا وسّطنا هذه المعلومات المُكْتشفة بين الشمس ومُستقرِّها السائرة إليه، نكون قد رممنا النص القرآني، قمنا بعملية إكمال، ربما محاولة لم تنجح، ولكنها محاولة، ولتكن عملية إكمال فاشلة، لا يهم، لأن الغرض هو ا لفكرة، فإذا ما نجح العقل في اكتشاف الكثير أو القليل من الحقائق الوجودية أو الفكرية أو التربوية داخل هذه الفراغات، فإننا سوف نغني القرآن، العقل هنا يثري كتاب الله، رغم أن كتاب الله يثري العقل في منهج التفكير، وفي طرح الكثير من الحقائق، ولكن بين حقيقة وأخرى توجد حقائق، هذه الحقائق الوسطية مغمورة في هذه المسافة الفاصلة بين حقيقة وأخرى متواصلة معها على بعد الكثير من الوقائع والأسرار والأخبار والموجودات.
يقول المفكر الإنساني الكبير دريدا، إن فهم أو تفسير كل نص مُختلف ومؤجل، وهي عبارة رائعة، وتفسيرها عنده يرجع إلى موضوع الإحالة، فإن أي إحالة على أي كلمة لا تستقر على وضعها نهائيا، لأنها بدورها تحيلك إلى كلمة أخرى، وهكذا، ربما نستطيع أن نستعير من هذا الرجل الإنساني الفذ هذه الفكرة، فإن معنى النص القرآني الكريم مؤجل، ولكن بأي معنى؟ بمعنى أن النص القرآني مليء بالفراغات، وهو مؤجَّل المعنى بشكل كامل، بسبب غموض المسافات بين حقائقه، أو بسبب نقص معرفتنا بحقائق هذه المسافات، وهي جزء لا يتجزأ من المعنى النهائي للنص، ترى هل يكفي أن نعرف إنَّ كميةً من التراب الهمل تحولت وصارت عقلا؟ أين هي الحقائق المذهلة بين الحقيقة الاولى والحقيقة الأخرى، بين ا لتراب والعقل؟ وهل اكتشاف بعض هذه الحقائق لا يشكل عملية ترميم، أو تكميل للنص؟ وهل نكتفي بتفسير النص على أساس الدهشة وحدها المستفادة مِنْ (إذا) الفجائية؟
النصوص التاريخية الكبيرة عبارة عن فراغات مذهلة، فراغات شخصيِّة وزمنية ومكانية وحدثية، فهل نتركها من دون ملء، نفتش عنها في نصوص أخرى، في بطون التاريخ، في تضاعيف الأسفار والآثار والمنقولات نملا الفراغ التاريخي بالتاريخ، بواسطة التاريخ ذاته، فنرمم الخبر، وقد نخطأ وقد نصيب، وبدون هذا الملء تكون جهودنا التاريخية في قراءة حدث أو واقعة يتيمة، بلهاء، تقريرية، امضائية، يمكن أن يدخل اكتشاف المجهول واللامرئي ضمن محاولة مليء الفراغ هذه.
يقول ديكارت: (أنا أفكر فأنا موجود)، هل هما حقيقتان ملتصقتان ببعضهما بحيث لا فراع بينهما؟ هل الفكر والوجود معنى واحد، أم هما مفهومان مختلفان؟ مجرد طرح مثل هذا السؤال يؤذن بوجود مسافة بين الحقيقتين، أن بين الفكر والوجود حقائق، حقائق مخفية، وإذا قلنا إن الفكر لون من ألوان الوجود نكون قد أشرنا الى قضية متوسطة بين الفكر والوجود، فإن (لون) أو (نوع) هذه ليست عبارة عن خواء بطبيعة الحال، فيما إذا كانت صحيحة، بل هي واقع كان مختبئا، وحسبناه فراغا، كانت فراغا ظاهريا، فيما هي ملأ بكل معنى الكلمة.
لا أريد أن أجازف وأقول أن كل نص قرآني مثلا يحتوي على فراغ، فقد اصطدم بنص (كن فيكون)، ولكن أليس فاء التخلل هي حلقة وسطى، لنقل إنها فاء إضطرارية، فلنتكلم عن الإضطرار هذا، لان الموضوع لا يتصل بأصل الارادة الربانية، بل بتركيب النص، باللغة، بالخطاب، وربما نكتشف الكثير من العوالم بين (كن) وبين (فيكون) هذه.
المسافة كونية هائلة بين الماء الواحد وبين الألوان والطعوم المتنوعة، العقل هو المسؤول عن اكتشاف هذا العالم الهائل، وهو باكتشافه هذا يزين القرآن، يكمله، يكمله بما هو صحيح بطبيعة الحال، ولتكن عملية تكميل فاشلة، ليس هناك ضير، ولكن لنطلق هذا المشروع كي نخلق مدرسة جديدة في التفسير، هو تفسير مليء الفراغ في النصوص.
النص الادبي مليء بالفراغات، أليس هو صورا وأفكارا وتصورات، أليس هو ايضا علاقات بين هذه الصور والأفكار والتصورات، فهل يجازف أحدنا ليقول إن المسافة بين كل هذه المكونات مردومة تماما؟ ألا يستطيع شاعر استلام هذه التصورات والأفكار والصور ليكتشف حلقات وسطى بينها؟ ثم يبرّزها للعيان؟ وإنْ على شكل منجز شعري جديد، وفي النص الأدبي يمكن للناقد أن يتناول الأفكار الواردة في النص ويجتهد في إبداع حلقات وسطى، ليس شرطا هي من صقع المسافة حقا وواقعا، بل هي من صنع الخيال، خيال الناقد، خيال القارئ، وهي صالحة لتكون حلقة وسطى بين التصورات والصور والافكار المتضمنة في النص، وهي محاولة تستثمر فراغا بلا شك، فلو كان النص اشبه بالخط المستقيم لا يستطيع الخيال اختراقه، ولا ترميمه بصور جديدة، ومثل هذه المحاولة يمكن تطبيقها على النص القرآني، فإن قصة أصحاب الفيل تسمح لنا مثلا أن نضيف من خيالنا صورا لنملأ المسافة بين كونهم بشرا في البداية، ثم تحولهم إلى ما يشبه العصف المأكول في النهاية.
إن المسافة هائلة بين كونهم بشرا وبين تحولهم إلى أشبه ما يكون بالعصف المأكول، هل هناك مانع أن أتصور بعض الحلقات الوسطى لهذا التحول، وأضمنها كلامي عن الواقعة، لا على أساس إنها من القرآن الكريم، ولكن لأغراض تربوية مثلا، فهي عملية ملئ الفراغ ولكن لغرض تربوي، فإن عملية مليء الفراغ ليست تهدف الحقيقة وحدها، بل قد تهدف الغرض، وربما بسبب استهداف الغرض قد يملا الفراغ خياليا، اصطناعيا.
فما المانع من ذلك؟
- آخر تحديث :
فراغات النص القرآني... من يملأها وكيف؟
لا يوجد نص متماسك كما هو الخط المستقيم، حيث بالتحليل الفلسفي التقليدي هو بمثابة نقطة ممتدة، لا نصَّ متماسك، أقصد: لا نصَّ من غير فراغات متغلغلة بين تصوراته وأفكاره وجمله، وإذا كانت القراءة أصنافاً وفنونا، فلنجعل من قراءة الفراغات داخل النص فن من هذه الفنون، ولكن ما هو المقصود بالفراغ هنا، إنه ليس فراغا فاضيا، بل هو الفراغ المملوء، المحتشد ربما بالكثير من المعاني والحقائق والأسرار والألغاز والأخبار، والمطلوب هو اقتحام هذا الفراغ من أجل اكتشاف بعض هذا المخزون، وهناك معنى آخر لملء هذا الفراغ، أن نُسلِّل أو ندسَّ بين الأفكار والتصورات خيالنا، رغباتنا، شهواتنا، أفكارنا، نمضيها بين تلكم الأفكار والتصورات التي يحملها النص، نُلْحِمْ بين الأفكار والتصورات بواسطتنا نحن، أنفسنا، روحنا، ضميرنا، خبثنا، فرحنا، وكل ما هو لصيق بنا، بشكل وآخر.
هل هناك مانع؟
التعليقات