غالب حسن الشابندر من لندن: الكتابة نوع إفتراس، تلك حقيقة الكتابة الجادّة حتى لو كانت في علم الرياضيات، فكيف بها إذا كانت في الأدب، أو في الفن، ستكون أكثر افتراسا، تهرش في قلب الكاتب، وتحيله إلى هشيم، ولكنّه الهشيم الذي يشتعل نارا سرمدية لا تخمد.
موسى الخميسي يكتب عن (المُنجَز الفني) بروحه الفنية المتوثبة بذلك الهشيم الخالد، وهو لم يكتب عن الفن، بل عن الإنجاز الفني، والكتابة في الإنجاز الفني أشد ضراوة وقسوة، لانها كتابة تماس الواقع الحارق، وتتجسد على شكل حروف نارية تحرق نفسها، وتعاود تشكيلها كي تزداد اشتعالا. الكتابة عن اللوحة أهم من الكتابة عن النظرية الجمالية أو الفنية، إنها كتابة الجسد على لوحة الروح، وليس كتابة الروح على لوحة الجسد.
في كتابه الجميل (اللون والحركة في تجارب تشكيلية مختارة) طبع دار المدى سنة 2008 يعرض علينا الكاتب قراءته عن تجارب أ كثر من أربعين فنانا عبر إنجازاتهم التشكيلة المتنوعة، توسل بآليات العمل الفني ذاتها لتحليل وتشريح هذه اللوحات، الفرشة، واللون، والضوء، والظل، الخامة، والحرف... ولكنّها مشبعة بروحه الأدبية والإنسانية الشفافة. تشعر إنّه يكتب بحزن وإن كان موضوع اللوحة فرحا وجذلا ونشوة جسدية طاغية!!
يكتب بلغة الفن، ولكن الفكرة فنية مُفلْسَفة، ويكتب بريشة المُنجزين ذاتهم، يستعارها من الفنان ذاته ويكتب بها، يبدو لي كان يتقمص اللوحة، وهناك هي بحد ذاتها تتكشف عن أجزاء جسدها، كاشفة له عن مواطن فتنتها الساخنة الخازنة لشهوة كل البشر، ولذا كانت اللغة الهائجة في داخلها الهادئة في ظاهرها.
يستعرض (أتوري رويسلو فرانس) ليمظهر لنا واقعيته المباشرة وهو ينحت لنا روما عارية، فإن جوهر لوحاته هو الواقع الممزق، روما العادية، الأثيرية، وقد أصابها طلل النسيان وعتمة الدثر الحيوي للتاريخ المشحون بطاقة الله.
يكتب لنا الخميسي عن (أومبيرتو بجوني / المستقبلي الاول) ليؤكد إن فنه هو فن الرصد للعالم عبر تقنياته الجديدة ليرسِّخ السرعة باعتبارها (دينامية الحياة الحديثة)، مطلا على الإنسان بوجه لا يفتأ أن ينقلب على تقاسيمه بين لحظة وأخرى، لان رياح التغيير هي سيدة الموقف في صناعة التاريخ الحديث!
وإذا كانت إنجازات المستقبلي الأول هي ترسيخ العلاقات بين الأشياء من خلال تجسيدها باللون والحركة والصورة، فإن (اللاشعور) يتجلى بكل وضوح ــ وهو العالم الغامض ـ متغلبا على العقلانية، في أعمال (بالتوس ت 1999)، متواصلا مع رياح الرومانسية التي كشح الزمن عنها متنه الحاضر، ولكن إلحاح اللاشعور كان أقوى من الخضوع للحاضر، وموسى الخميسي كما يبدو لي مغرم بنظرية فرويد في اللاشعور، وفي تصوري، إن اللاشعور مهما كان غامضا فهو مصدر وضوحنا الحقيقي، فهل كان الكاتب على موعد مع قدر الوضوح السافر عن نفسه وليس الوضوح المتستر بخفايا القمع السرِّي والعلني ؟
يعتمد السيد الخميسي على تجليات اللاشعور المحتالة ليكشف لنا عن خلفيات المُنجَز الفني بجدارة، وهل (باوليني) فنان المعرفة بعيدا عن إملاءات لا شعوره النابض حتما بألوان التجارب الحياتية ؟ لا بطبيعة الحال. ولكن يبدو إن الخميسي أراد أن يجلي لنا الفكر بمفهومه الأبستمولجي التقليدي في الإنجاز الفني من زواية قدرة الفن على التطويع، فإن تجارب (فن المفهوم) (تحاول التحرر من القيود الاجتماعية والثقافية، وتسعى من منطلقات فكرية خاصة للتخلص من الفن بحد ذاته، بل من أشكاله ورطرق إستهلاكه) ص 31.
يكشف السيد الخميسي عن تجربته الرائعة في تذوق واستلهما الشعر والموسيقى، وذلك عندما يحلل لوحات (بول كلي 1897 ــ 1940) بانها مزيج من هذه العوالم الثلاثة، فهي لقوة في الحدس عندما يكشف لنا المؤلف نبضات الشعر في اللوحة، وإيقاعات الموسيقى في اللون والعلاقات بين الخامة والضوء، وربما هذا التمازج الحي بين العوالم الثلاثة هي وراء إنصهار الشكل عند هذا الفنان في (الضوء الساحق) ص 42، وهو عندما يقول: (أنا واللون واحد) إنما يستحوذ عليه اللون ليفرض مسيرته عليه، فهو الفنان الجبري، أي المحكوم، فكأن عبقرية اللون هي الأصيلة وعبقريته مستلة من عبقرية اللون. ص 42.
هنا!
نعم هنا!
يبرز (بيكاسو) كأعظم مُنجِز فني في القرن العشرين، ليحتل صميم الرؤية لدى الخميسي، يتكلم عنه بعشق بوهيمي، خاصة في إعماله الحفرية التي جسدت إفتراس الجسد وتمزيقه وتمطيطه وتشظيته وتحريقه وتسويقه وتمريره عبر إلتواءات الغرر البر جوازي القذر، فكان الناس في فن بيكاسو (وكأنهم أقنعة سميكة مجنونة العيون) ص 49. وكأنه لم يقل يوما بأن الفن ليس هو الحقيقة، بل لا يعدو أن (يكون كذبة تساعدنا على الإقتراب من الحقيقة) ص 48.
السيد ا لخميسي لم يكتف بتشريح اللوحة والكشف عن سعارها الداخلي، بل يطل بنا على تاريخ الفن في أوربا، معطيا أهمية بالغة القصوى للانقلاب الهائل الذي حصل في (المفاهيم الفنيّة) على يد جيوتو (1520 ــ 1550) عندما استطاع باعماله البارعة تأصيل فنون النحت والرسم، وتحريرهما من سلطنة فن العمارة، ومن خلال إنجازات فنية تمازج فيها (الكون وعواطف البشر) ص 65، وبذلك دشن لنا مرحلة الفن الوجداني، ويتتبع السيد الخمسي المنجز (الجيوتي) ليكشف إ نه يعيش داخلنا، لان الفنان رفض الرمزية البحتة، وإتجه الجسم والجثمان والجبل كوجودات حية تنبض بمعنى الوجو د، بل هي الوجود ذاته، ولكن ليس من خلا ل المحاكات، بل من خلال تطويع الموجود إلى رمزية واقعية، تعتمد تحويرات وتبديلات لا تخل بالجوهر، فيما هي تعبر بجدارة عن كنه الموجود.
يستمر السيد الخميسي في الكشف عن مراميز وصراخات وآهات وبكاء وضحكات العالم والوجود من خلال المنجز الفني، فهو ناقد لا ينطلق من ذات اللوحة بل من ذات الواقع الذي تمثله اللوحة، ويشرح اللوحة على ضوء ذلك الواقع المدروس، ولكن بلغة إنسيابية رغم علميتها وعقلانيتها العالية. فيتكلم لنا عن (إنحنائية جيوتو) و(لاشعور سلفادور دالي وجنونه)، وعن (حداثة دافيد 1748 ــ1825) متأثرا بصحوة دافنتشي الذي انتقد بعنف لاهب الكنسية الكاثولكية وعودتها للتسيد على الإنتاج الانساني، ثم يتطرق إلى (جان دوبوفيت1901 ــ1985) ثائرا على الموضوعات التقليدية للفن، متطلعا إلى التجريد مستنبطا إياه (في المخيلة من إشارات ورموز ووضعها في نسق هندسي) ص 83، ويبذل المزيد من الجهد الجميل ليستخرج لنا الوحشة والغربة والفوضى والخوف من أعمال الفنان الخالد (جورجودي كيريكو) فكان ذلك سببا في إنسحاقه الروحي المتألق تحت طغيان الألوان المعتمة الغليظة، ص78. ويستمر حتى يصل بنا إلى الفنان الكبير (ميخائيل أنجلو 1475 ــ 1564) ذلك الفنان الذي (ازدرى قواعد العصور الوسطى)، حيث برز من خلال أعماله النحاتية الرخامية مهتما بحركة الجسم الانساني، متجها لإنجاز الجسم البشري بتجسيد عظماء الكنسية في لقطات تمهد لاستنشاق رحمة الرب، وتعطي ترياق التسلية والعزاء لنا نحن البشر، ولعل عنوان عمله في روما الذي استمر خمس سنوات (الرحمة) تجلي تماما نوازع هذه الفنان الجوانية المشتعلة بنار الحقيقة المقدسة.ص 204.
ملفتا إلى نحتيته التي زاوج فيها بين نبي الله موسى والبابا الرهيب يوليوس، مستطلعا قسمات الوجه الغاضب المشترك بين ا لنبوة و القداسة! ثم يطل بنا على مبدع (الموناليزا) تلك اللوحة التي شغلت أبتسامتها العقل والذوق والحاسة والفكر، فما اكشتفوا سرها، لان سرها قد توزع على كل شفاه العالم،وتوزع نثرا على كل ابتسامات العالم، فمن الصعب أن تتم عملية الاكتشاف هذه.ورغم هيامه بجمال الجسد الانساني، ووقوعه صريع هذا الجمال المدهش، اتسمت أعماله بالغموض والابهام، ولكن بلا شك هناك من أعماله ما تتجلى واضحة المعالم والقسمات، فهي إحدى هلوسات الفنان عندما يختلط عنده الوضوح بهذا الرعب الذي ينتشر بشكل مخيف في العالم ذاتها.
السيد الخميسي في عمله هذا كان واصفا وناقدا ومحللا، ينفذ الى العمق من خلال السطح، مغرم كما يبدو لي من تتبع حركة الخط واللون والظل من البداية حتى النهاية، الأمر الذي أتيح له أن يكتشف الكل قبل الجزء، أو لنقل الكلية قبل الجزئية، شكرا للاخ الخميسي على هذا المنجز الرائع.