هبط الليل على أربيل مثل غطاءٍ أسود ثقيل، تداخلت فيه أصوات السيارات مع أنفاس الناس المتعبة في نهاية النهار. وفي بيتٍ صغير في أطراف المدينة، جلس دارا أنور يقرأ جريدته كما لو أنه يحاول إقناع نفسه بأن العالم ما زال قابلًا للفهم. ورغم أن الكلمات قفزت أمام عينيه، كان يشعر بأنه قد قرأ مثل هذا الكلام من قبل وكأنها في كل مرة "ديجا فو"، وكأن البلاد كلها عالقة في لوحة عجزت ريشة الفنان عن اكمالها.

قطع رنين الهاتف ذلك السكون، وجاء صوت كريم إسماعيل، صديقه من زمن اللعب في الشوارع المزدحمة والكتب الرخيصة، وقصة الحب الأول يوقظ فيه أجمل الذكريات، بعد التحية نقل اليه خبراً بسعادة غامرة.

" اسمعني! صديقنا ستار العزاوي نازل في فندق المدينة وجامع اصدقاءنا من أيام زمان.. وطالب بلقائك ويقول مشتاق لك."

تردّد دارا لحظة، وكأنه تصفح دفتر ذكرياته ثم تمتم:

" تعال خذني… على شرط ألا نطيل الجلسة." بينما كان ينظر الى ساعته التي اشارت الى التاسعة والنصف.

بعد نصف ساعة دخلا الى بهو فندق المدينة، مخترقين الصالة باتجاه الحديقة، هناك في مقهى جانبي اختلطت أفكار الناس مع دخان النراجيل مع رائحة الغربة.

استقبلهما ستار بابتسامة عريضة، وما أن احتضنه حتى تناثرت أجمل الذكريات حولهما، وقدمه على أنه من أعز اصدقاءه تذكر دارا البعض وتعرف على الآخرين. رجال أكَلَتهم المنافي ثم أعادتهم حاجةٌ بسيطة: معاملة رسمية، ورقة حكومية، ختمٌ قد يفتح باب الماضي أو يغلقه.

تحدث بعضهم عن إجراءات روتينية قاتلة، وتأخير لأجل الابتزاز المالي في بغداد والموصل وأسعار ثابته يعلم بها الكثيرين وتدفع للموظف الذي لا يشعر بالأحراج وهو يأخذ الرشوة ويريح ضميره ويسميها هدية.

شكى أحدهم قائلا أنه تعطل لأسبوع كامل في معاملته التي لم تكتمل إلا بدفع مبلغ للموظف، وتحدث عن الاهانات والتي تبين أنها متعمدة لغرض الاستفزاز، والإسراع بدفع الرشوة واتمام المعاملة.

بينما وضح رجل آخر مقارناً بين الموصل ودهوك قائلا إنه أتم معاملته في دهوك في يوم واحد وتم معاملته بكل احترام وتقدير.

ابتسم دارا راضيا عن قراره بالانتقال الى إقليم كردستان قرار اتخذه قبل سنوات بعيدة. قبل أن يكمل كلامه قال ستار زرت العراق قبل سنتين ونزلت في بغداد وقضيت معظم اجازتي في مدينتي البصرة وكنت مضطرا لتجديد الإقامة من بغداد في كل شهر، وفي هذه المرة نزلت في مطار أربيل ودخلت على الضابطة وبعد التحية اخبرتها بأنني ضيف. أجابتني " تفضل كيف يمكنني مساعدتك؟ أجبتها ضيفكم متعب ولا أطيق السفر الى أربيل في كل شهر للتجديد اريد إقامة ثلاثة اشهر. نهضت وخرجت من وراء مكتبها وطلبت مني اللحاق بها وتحدثت مع الموظف الذي قال هذه تمنح فقط في حالات خاصة. جاوبته الضابطة. أي نعم وهذه حالة خاصة وعلى مسؤوليتي. والتفتت اليه قائلة " تتدلل"

نظر في عيون الحاضرين وأكمل حديثه " أجمل ما حدث بعد ذلك، كان هناك جبل من الباسبورتات امام الموظف، جاء صديقه فخرج من وراء مكتبه وسلم عليه وقبله وشعرت أنه سأله عن اهله ثم استلم جوازه ووضعه تحت الجوازات وهكذا ستكون معاملته في نهاية الطابور.. والله فرحت"

هنا ابتسم دارا وقال بثقة هادئة:

«لهذا أعيش في كردستان…فعلا القانون يطبق بشكل افضل من مناطق الحكومة المركزية»

هذه الكلمات البريئة اثارت حفيظة البعض.

استدار إليه رجل وقد تغيّر صوته: " واضح عليك كردي لكنك تجيد العربية "

تدخل آخر من أي حزب.. اتحاد لو ديمقراطي؟

صمت دارا لحظة، لكنه لم ينفعل لم يبرر، فقط رفع حاجبيه مستغربا:

" يا جماعة! ما علاقة دعم النزاهة بالقومية؟ وما هو دخل لغتي أو عرقي بمعاملة المراجعين؟ أين رباط الفرس."

لكن ذلك السؤال فتح الباب على موجة جديدة من الاتهامات، كأن كل كلمة قالها لم تُسمع إلا عبر مرشحٍ طائفي. وكأن الرجل الذي يمتدح أخلاقيات الكرد عند احترام كبار السن في دائرة «كاتب العدل»، أو تقدير المرأة.. بحاجة إلى شهادة ميلاد سياسية ليُمرر تقييمه وحياديته.

نظر دارا إليهم بعيون رجلٍ يعرف أن الهوية عندما تُستعمل ضد الإنسان تصبح سكينًا، مع العلم أنه عربي، إلا أنه تكتم على الأمر.

قال بهدوء:

«وماذا لو كنت كرديًا؟ هل يتغيّر معنى العدالة؟ هل يتغيّر معنى احترام البشر؟»

لم يجبه أحد. كانوا مشغولين بتفكيك ملامحه، لا فهم كلماته.

هنا، التقط دارا أنفاسه… ثم ابتسم.

سأل بصوتٍ ساكن واضعا المرآة أمام عيونهم:

وأشار الى المتسائلين. «طيب… وأنت؟ شيعي أم سنّي؟».

تسمم الهواء والجو " علق واحد من آخر من هناك: " ما هو دخل الطائفية بالموضوع"

وارتفعت الأصوات " وما دخل هذا بموضوعنا، نحن نتحدث عن الحقيقة."

.نهض دارا مودعا ستار الذي فهم الموقف من صديقه العربي من الدقيقة الاولى

قهقه دارا، ضحكة موجعة أكثر مما هي ساخرة:

" غريب أمركم يا العراقيين! هذا هو المرض الذي اصابكم، فئوية في كل شيء. حتى لم نعد نرى عراقيا في الشارع.. أكراد وعرب ، شيعة وسنة والقائمة تطول."

نظر في عيونهم وهو ينظرون اليه وكأنه من كوكب آخر: " اذا تحدثت عن نزاهة موظف الإقليم وجمال طبيعة كردستان فتتهمونني بأنني كردي عنصري." لم يقاطعه أحد ولم يفهمه إلا قسم من المغتربين "

ضحك مرة أخرى، ثم غادر البهو بخطواتٍ خفيفة، تاركًا خلفه وجوهًا مطفأة… وسؤالًا معلقًا في الهواء:

هل كان مهمًّا أن يكون كرديًا؟

سأل ثلاثة في نفس اللحظة ستار " كردي أليس كذلك؟ " اجابهم " لا والله عربي."

ذاب البهو ببطء، مثل وطنٍ فقد القدرة على أن يسمع ما يُقال، لأنه مشغول دائمًا بشيء واحد

من أي طائفة يتكلّم النور الذي أضاء العتمة؟ واستمر النقاش بينهم في الفندق بينما عاد دارا الى جريدته والى مشاهد الدي جافو، واستمر يقرأ مقالا بعد مقال ويشعر أنه يحتوي نفس الحروف والكلمات التي قرأها ذات يوم.