تستند كثير من المذاهب والمواقف والمدارس والتصورات الفلسفية إلى قاعدة كلية شمولية، ومن هذه القاعدة الكلية الشمولية تنبثق تصورات وإمضاءات تخص تلك الفلسفة أو تختص بها، وكثيرا ما تنتصر الفلسفة إلى هذه التصورات والإمضاءات بالاستناد إلى تلك القاعدة الكلية الشمولية، وقد عبَّر بعضهم عن هذا اللهاث عن قاعدة كلية بهذه السعة المطلقة إلى شوق الفلسفة إلى المطلق، وقد تميز تاريخ الفلسفة الغربية في البحث عن مطلق تركن إليه. إن نقطة الحوار والسجال الفكري في كثير من المدارس الفسلفية ترجع إلى الإستناد إلى قاعدة كلية خاصّة بها، تشكل مرتكز إنطلاقها في كل أبجدياتها الفوقية، وتمثل سلاحها في وجه الخصم.
تقول النظرية التجريبية في المعرفة ـ على سبيل المثال ـ إن جميع معارفنا ترجع إلى التجربة ولا حاجة إلى مبادئ عقلية أولى، يزعمها المذهب العقلي مهما كانت هذه المبادئ، وتقول الماركسية ـ على سبيل المثال أيضا ـ كل عناصر البناء الفوقي للاجتماع البشري هو إنعكاس للوضع الاقتصادي أو نموذج هذا الوضع بتعبير أدق. تقول النظرية النسبية في المعرفة ـ على سبيل المثال أيضا ـ إنّ كل معارفنا نسبية، ولا توجد معرفة مطلقة، كذلك نجد مثل هذه الإ طلاقات مع دعاة رفض الفلسفة، كذلك مع دعاة الوضعية المنطقية التي تقول بصرامة لا هوادة فيها، إن كل جملة لا تخضع للتجريب هي جملة ليست صحيحة ولا كاذبة، وبالتالي، هي ليست قضية منطقية، كذلك نجد ذلك ربما حتى في بعض مدارس التحليل النفسي ولكن بطريقة أخف وأكثر مرونة.
السجال الفلسفي كثيرا ما ينصب على قراءة هذه القواعد الكلية الشمولية، فإن أي مؤسس فلسفي يتفحص ما أسسه الآخرون، ولكن ليس من خلال الدخول الى التفاصيل في البداية، وإنما من خلال قراءة القاعدة الجوهرية، باعتبار إن أكثر إن لم يكن كل جزئيات المذهب الاخرى إنما هي بالانبثاق من هذه القاعدة الكلية الشمولية، وهنا ك عمل آخر يقوم به صاحب النقض، وهي الفحص عن مدى الانسجام بين القاعدة وما تمخض عنها من نتائج ومستحقات، وهناك فنون أخرى للتعامل مع الفيلسوف الآخر.
يقول أصحاب إمكان المعرفة المطلقة : هل إن القاعدة التي تقول إن معارفنا نسبية مطلقة أم هي الاخرى نسبية، فإن قال الآخر إنها نسبية نكون قد وقعنا في معضلة الدور، فإن القضية بقيت على حالها ولم نجد لها حلا، وإن قال هي مطلقة يكون قد ثبت المطلق!
يقول أصحاب المنطق الصوري ردا على دعاة المنطق الوضعي: هل هذه الجملة الرئيسية التي تشكل القاعدة الأساسية للمذهب صالحة للتجريب أم لا؟ إن كانت صالحة للتجريب لم نكن نفعل شيئا، لأنها هي محل السؤال، وإن كانت لم تصلح للتجريب يكون قد ثبت إن هناك جملا خارج حكم القاعدة الشاملة.
يقول أصحاب نظرية المعرفة العقلية في الرد على أصحاب المعرفة التجريبية حصرا، هل التجربة في حاجة إلى تجربة لإثباتها أم هي محتاجة إلى مبادئ فطرية أولى؟ فإذا كان الجواب إنها تحتاج إلى تجربة نكون قد وقعنا في مشكلة الدور، فإن مؤدى ذلك، إن التجربة أصل كل معرفة بدليل التجربة! فيما إذا قال الآخر إن هذه القاعدة الكليلة مدعومة أم مبرهن عليها بمعارف أولية كأن تكون مبدا (عدم التناقض) أو (مبدأ العلية)، فهو اعتراف بقصر التجربة عن استيعات كل تاريخ المعرفة البشرية.
يقول دعاة الفلسفة في الرد على رافضيها والمتنفرين منها، إن رفض الفلسفة يستند إلى فلسفة من حيث لا يشعر هؤلاء الرافضون.
يقول دعاة ضرورة العقل في الإيمان ردا على دعاة الإيمان الوجداني إن تقرير هذا الموقف إنما مدعوم بالعقل،أي مبرهن عليه عقليا، وبالتالي،نحن في حاجة إلى العقل في أهم قاعدة تستند إليها نظرية الإكتفاء بالوجدان وبالوجدان وحده في مسالة الإيمان.
هذا اللون من السجال نجده حتى في بعض المدارس النفسية، فمن الطريف أن يرد بعضهم على نظرية (اللاشعور) الفرويدية، إنها هي الاخرى نتاج (رغباته المكبوتة والمقموعة) ولا تحمل المعرفة الخالصة، وبهذا، لا يمكن الركون إلى النظرية!
لقد تتبعت هذا اللون من النقد فوجدته سائدا منذ ارسطو ولحد هذه اللحظة، وهو فن دقيق بطبيعة الحال، ودقته تأتي من عدة جوانب، منها إن النقد يستخلص ما يهدم الأساس من داخله، أو قل يهدم الأساس بالاساس نفسه، ولكن هل يبيح لنا ذلك بإبطال أو إهمال كل مايمكن أن يتمخض عن تلك القاعدة الكلية الشاملة؟ هنا تكمن المشكلة، فإن المقدمات قد تكون غير سليمة ولكن النتيجة صحيحة، وفي ضوء هذه المفارقة فإن النقض من الأساس لايغني من مراجعة المستحقات والنتائج الفرعية، كما أن من الواجب مراعاة الفرق بين الإطلاق والنسبية في بعض الأحيان، فليس بمقدور شخص أن ينفي دور نموذج التوزيع في صناعة البنية الفوقية، ولذا من الخطر والصعب نقض القاعدة على نحو شمولي أيضا، فإن قد الشمولي بالشمولي (قد) يسبب الكثير من الأحراجات الفكرية والروحية والعلمية.
إن نقض الاساس لا يغني عن التوغل في التفاصيل كما يرى بعضهم، وإن نقض الأساس قد ينفي شموليته ولكن قد لا ينفي نسبيته.
إني ادعو علماء المنطق العرب إلى وضع مناهج للنقض تدرس في المدارس المتوسطة والثانوية، ويا حبذا لو يتحول إلى علم قائم بذاته، وإن كان المنطق يتولى مثل هذه المهمة، ولكن شي جميل أن نضع علما خاصا بهذا الفن.