تنحو دولة الاعتقاد (دولة الإمام، دولة المادية التأريخية، دولة الحق، دولة الفضيلة...) إلى صياغة وصناعة مجتمع متجانس فكريا، مطبوع بفكرها الجوهري، صميما وعرضا، ظاهرا وباطنا، شكلا ومضمونا، روحا ونصا، وتجترح دولة الاعتقاد أ و الفكرة ـ فالأسماء متعددة والمسمى واحد ـ أساليب هائلة لطبع المجتمع بماهية فكرية متجانسة، وإذا سمحت بالتعدد ففي نطاق هذه الماهية الكلية. دولة الاعتقاد تسخّر المناهج التربوية حتى على صعيدها العلمي المادي لإعلاء فكرها، وتسييد مقولاتها الفلسفية والفكرية والمفاهيمية، وتجسيده كحالة إجتماعية قصوى، وتسخِّر كل طاقاتها وممكناتها وقدراها وحتى القوة الغاشمة لهذا الهدف المميت، أي خلق مجتمع متجانس، وربما تستعين بمختلف المدارس النفسية لتحقيق هذه الهدف المميت، تحاول أن تجعل من فكرها إلها داخليا وإلها خارجيا في آن واحد، ربما تجير النتائج العلمية في أروع منجزاتها لفكرها، وربما تحذف الحقيقة بكل سهولة من أجل الحفاظ على المجتمع المطبوع بفكرها، لان المعتقد له العصمة، وله الأوالية على كل شي. والمجتمع الفكري المتجانس خامل، ميت، يتحرك في أطر محسوبة سلفا، فيخلق نفوسا مخلوقة سلفا، ولذا ليس من الصدمة فيما إذا رأينا أن دولة الاعتقاد حينما يسقط جبروتها السياسي، ينفلت مجتمعها كالثور الهائج، ينطح كل شي أمامه، وتموج به عاتيات التاريخ، ويتحول إلى براكين من الفكر المتطرف والمتعدد والمتنوع والمتشاجر والمتنابذ والمتعاصف، لا يلوي على شي، بدا من الخرافة وانتهاء بتحكيم العقل الرياضي بكل صغيرة وكبيرة!!!
دولة المعاش (دولة الحقوق الفردية، دولة الرفاهية، التنمية الاقتصادية، دولة الحرية...) بطبعها تنحو إلى مجتمع غير متجانس فكريا، متنوع فكريا، ربما ليس من تخطيطها أن تصيغ مجتمعا متنوع الفكر، ولكن طبيعة تقديمها للمعاش على أي شي أخر، وطبيعة عدم التزامها بهوية عقدية معينة، يتيح المجال بالضرورة ـ إلى حد ما ـ فرصة التنوع الفكري، التموج الفكري، التلون الفكري، فهذا مادي، وذاك مثالي، والأخر واقعي، وهناك الفن التشكيلي والفن الانطباعي، وهناك الشعر الملتزم والشعر غير الملتزم، وهناك المدرسة الوظيفية في علم الاجتماع والمدرسة البنيوية، وهناك مدرسة التحليل النفسي ومدرسة الجشطالت، وهكذا، تتنوع الأفكار، وتتعدد التوجهات، دون تحيز من قبل الدولة لهذا الاتجاه الأدبي أو أذاك، ومن دون انتصارها لهذه الفلسفة الاجتماعية أو تلك، ودون الوقوف إلى هذا الدين على حساب ذاك الدين.
الفكر في دولة الاعتقاد أحادي، هناك فكر ما فوق، هناك فكر ما قبل، هناك ميتافكر من حيث موقعه تجاه الفكر الآخر، فيما الفكر في دولة المعاش فوضى، ولكنها فوضى خلاّقة، فوضى تأبى التنميط، فوضى ملتزمة بجمال الفوضى ذاتها على صعيد الفكر.
مجتمع دولة الاعتقاد مسبوك سبكا، أما مجتمع دولة المعاش شفاف، ممتد، يتمطى، هناك مجتمع متصلب، متخشب، تظهر عليه علائم صامتة، تتوزعه خطوط عرض وطول محسوبة بدقة ماهرة، أما مجتمع المعاش فهو مجتمع مرن، لدن، هناك غابة واحدة، هنا غابات، في الغابة الواحدة لون واحد، وإذا كان هناك تساهل فإنه لون يتفاوت في شدته وصفائه وغموضه، فيما مجتمع دولة المعاش ففي أكثر الأحيان هو غابات لا تعد ولا تحصى.
فكر دولة الاعتقاد يكيف كل شي لنقطة مركزية، اللغة، الفن، الشعر، الفيزياء، الفلسفة، الدين، فيما فكر دولة سياحات لا تعرف الحدود، لا تعرف القيود، هناك فضاء مفتوح للفكر والتفكير.
الفكر في دولة المعتقد، دولة الفكرة يفرض - تقريبا - منهجية واحدة، الأمر الذي يخلق نتائج متشابهة، متشابهة تقريبا، النتائج روتنية في دولة الاعتقاد، لا جدة فيها، إلا في نطاق الإطار العام، أي في نطاق الفكرة المركزية، في نطاق الفلسفة (المافوق)، الفكر (الماقبل). أما فكر دولة المعاش فهو منطق مفتوح، كل منطق يتعرض لنقد، و كل نقد لمنطقٍ هو منطق بحد ذاته، ولكن هذا المنطق الناقد هو غير معصوم بطبيعة الحال، فيتعرض لنقد منطقي جديد، فينشأ منطق أكثر جدة بصرف النظر عن صحته أو عدم صحته، وبالتالي، سنرى أنفسنا بين يدي فوضى من المنطق، ولكنها فوضى تنتج ما هو أعظم منها!!!
هي فوضى، ولكنها منتظمة من داخلها، ونقطة النظم من داخلها هي الحرية، هي فوضى ولكنّها خلاقة، هي فوضى ولكنها لذيذة حركة منعشة.
العراق اليوم مخيّر بين دولة المعاش ودولة المعتقد، عليه أن يختار بين دولة تريد له أن يكون نموذجا فكريا، اديولجيا، تبشيريا، و بين دولة همها الرئيس حقوق المواطن، الحقوق ا لمادية والفكرية والمعنوية، دولة المعاش، دولة الفرد المرفه، الفرد الآمن على مستقبله، المطمئن إلى حريته، الواثق من حقه في اختيار العقيدة التي يؤمن، والنظام الذي يحبذ، وفي تصوري إن المعركة بين النموذجين ستكون على أشدها في المستقبل القريب بين النموذجين على ساحة أرض الرافدين، خاصة والعقل العراقي تواق للإنجاز والسجال، فهل تذكرنا تاريخ الكوفة التي بدأت تسترجع أنفاسها الساخنة، بل هل نسينا بغداد وقد كانت منار الفكر، وريثة بابل، فما علينا إلا أن ننتظر المستقبل القريب، أنه مستقبل ساخن، فمن يزور شارع المتنبي يوم الجمعة سوف ينبهر فكره بهذا التنوع المذهل المنتشر على أرصفته الجميلة، وسوف يحار أي كتاب يشتري وأي لوحة يتمعن، وأي جريدة يتصفح، وأي صوت يستمع، هناك حراك حي، والغلبة للحياة، والصراع في هذا الشارع صامت، ولكنها مدوي وهائل، ومن عجائب الصراع أنه لا ينفي موضوعه بل يخلده، فهل الوجود إلاّ صراع الأضداد والمختلفات، ولكن رغم ذلك كان الوجود مستمرا، ففي الصراع إدامة وفي السكون الموت.
شخصيا أرى في دولة المعتقد جمودا يهلل الحرث والنسل، في دولة المعا ش حيوية مذهلة، بل لا مجال لفكرة دولة المعتقد كفكرة وفلسفة لها روادها وروحها وأحزابها إلاّ بدولة المعاش في أكثر الأحيان، وذلك من العجائب أيضا.