يقول الشيخ محسن آصف في كتابه (مشرعة البحار) حول روايات كتاب البحار ـ أضخم موسوعة تقليدية للرواية الشيعية ـ عن العرش: (وفيه آيات وأكثر من ستين رواية و المعتبرة منها ذُكرت بأرقام 9، 40، 45،49، 50) الجزء الثاني ص 262 / نريد هنا استعراض هذه الروايات التي يقول عنها المصنف بأنها معتبرة، وهي لا تتعدى خمس رو ايات من أصل ستين رواية! ثم نستعرض الروايات الأخرى.
تقول الرواية إن زرارة سأل الأمام الصادق عن قوله تعالى: (وسع كرسّيه السموات والأرض) فيما إذا كان السموات والأرض وسعن الكرسي أم الكرسي وسع السموات والأرض ؟ فيجيبه الصادق: (... بل الكرسي وسع السموات والارض والعرش وكل شيء خلق الله في الكرسي) / البحار الجزء 55 حديث 39، 40 /
ليس واضحا معنى الوسع هنا، ولكن الأقرب لنظام اللغة هو الوسع الجغرافي، فكأنما الكرسي ظرفا للعالم والعرش ! ولكن هناك نقطة شك كبيرة في هذه الرواية، ذلك إن الآية صريحة بأن الكرسي هو الذي وسع السموات والأرض،فهل يعقل أ ن زرارة لم يع هذا الفهم البسيط ؟ ولكن في العرف الديني وبعض الروايات إن العرش يضم الكرسي كما هو ظاهر من الرواية التي تقول: (... ماالكرسي في العرش إلاّ كحلقة من حديد أُلقيت بين ظهري فلاة من الأرض) / البحار ص 18 /، حيث نستفيد إن الكرسي متضمَّن في العرش. وهناك روايات تذهب إلى أن الكرسي والعرش منفصلان، ففي كلام منسوب للصادق: (... ثم العرش في الوصل مفرد من الكرسي، لأنهما بابان من أكبر أبواب الغيوب...) / البحار ص 20 / وفي روية في الإحتجاج عن الصادق كما يزعم: (... عن هاشم بن الحكم،قال: سأل زنديق أبا عبد الله الصادق عليه السلام عن الكرسي أهو أعظم أم العرش ؟ فقال: كل شيء خلق الله في جوف الكرسي خلا عرشه فإنه أعظم من أن يحيط به الكرسي) / البحار ص 21 نقلا عن الاحتجاج / والإحتجاج كتاب تدور حوله مشاكل رجالية كثيرة. وفي رواية الدر المنثور عن أبي ذر ما يفيد ذلك أيضا / البحار ص 17 / وفي رواية لوهب بن منبه ينقل إن العرش و الكرسي ملتصقان (... والعرش ملتصق بالكرسي...) / البحار ص 17 /
نقرا في الروا ية (45) من البحار في الموضوع نفسه: (عن الحسين بن أحمد بن إدريس، عن أبيه، عن محمّد بن عبد الجبار، عن صفوان، عن عاصم بن حميد، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر).
الرواية الجديدة تضيف عالما جديدا إلى عالم العرش والكرسي،سمَّته بعالم (الحجاب) وعالم (الستر)، ومن لحن الرواية نفهم إن عالمي الحجاب والستر أوسع من عالم الكرسي و العرش، بل أشرف منهما، وعالم الحجاب وا لستر لا نعرف عنه شيئا ولم يرد في القرآن الكريم، وكل ما جاء فيها من روايات مشكوك فيها كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. نقرأ في الرواية رقم (50) عن الصادق: (السموات والارض وما بينهما في الكرسيّ، والعرش هو العلم الّذي لا يقدر أحد قدره)، وهناك من يرفض إن العرش هو العلم، إ ذا لا معنى أن يستوي الله عله علمه، أو يحوي علمه.
إن روايات العرش مضطربة ومتدا خلة، ولا يمكن أن يصدر مثل هذا الاضطراب والتداخل ممن يريد أن يعلم البشر كتاب الله وتعاليم العقيدة الدينية الواضحة، وربما تفيد الرواية ان الكرسي أوسع من العرش، وهو مخالف للمشهور.
كان العرش محل قلق كبير لدى المفكرين والروائيين والعلماء، ولا استبعد إن هذه الفوضى في الروايات التي تتعرض لقضية العرش هي من معالم هذا القلق، ففي وقت نقرأ إن العرش هو العلم الذي يحمله الملائكة أو بعض الاشخا ص المقدسين. نقرأ في مكان آخر إن العرش حقيقة ظرفية تحتوي الكرسي وكل العالم، ونقرأ في مكان آخر إن العرش خُلق أرباعا، أي على شكل مربع، لأن الكلمات التي بني عليها الإسلام أ ربع، وهي سبحان الله والحمد لله ولا أ له إلا الله وا لله اكبر، وهناك رواية تثبت له زوايا، ففي رواية نقرأ: (إن ملكا من حملة العرش يٌُقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كا هله،قدماه في الأرض السابعة السفلى ورأسه في السماء العليا...)/ البحار ص 20 /! ونقرا عن وهب بن منبه: (إن الله تعالى خلق العرش من نوره، والعرش ملتصق بالكرسي ّ، والملائكة في جوف الكرسي، وحول العرش أربعة أنهار، نهر من نور يتلألا، ونهر من نار تتلظى، ونهر من ثلج أبيض تلتمع منه الأبصار، ونهر من ماء، والملائكة قيام في تلك الأنهار يسبحون الله،وللعرش ألسنة بعدد الخلق كلهم، فهو يسبّح الله ويذكره بتلك الألسنة)، وإذا كان العرش من نور الله، فمن أين هذه الأنهار الخيالية الجميلة ؟ وهل هي خاضعة للعرش أم هي التي تحميه وتمده بسر قوته ونشاطه ؟ هل هي محاولة من منبه لتخلص من قلق البحث عن البذور الأولى للتكوين؟
التراث السني يوغل في التجسيم، ففي الدر المنثور للسيوطي الجزء الخامس صفحة 346 نقرأ: (حملة العرش ثمانية،أقدامهم مثّبتة في الارض السابعة، ورؤوسهم قد جاوزت السماء السابعة،وقرونهم مثل طولهم عليها العرش). ومثل ذلك نقرأ عن ابن عباس، فهؤلاء الملائكة رؤوسهم تحت العرش في السماء السابعة،وأقدامهم في الأرض السفلى،ولهم قرون كقرون الوعلة ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمائة عام!!
حملة العرش لهم ر ؤوس وقوائم وأرجل وعيون، رؤوسهم خرقت العرش، وأرجلهم في الأرض السفلى، فالعرش إ ذن مخترق، منخور، لأن هذا الرؤوس قد شجته وخلقت في صميمه ثقبا يعلم الله كم هو وسعه ! هكذا يروي لنا (ميسرة) كما في البحار ص 20.ولكن ميسرة يتجنب هذه الثغرة في رواية أخرى، فيكتفي أن يكون رؤوس الحملة (عند العرش) وحسب ص 21.
نقرا في تفسير القمي نقلا عن البحار ص 27: (إن حملة العرش ثمانية، لكل واحد ثمانية أعين،كل عين طبق الدنيا...)، وبالتالي، للعرش أربع وستون عينا! كل عين طبق الدنيا، أي يبصر ويراقب سعة الدنيا اربع وستين مرّة، وفي سند الرواية (القاسم بن محمّد الأصبهاني) وهو ضعيف، فقد قال عنه النجاشي (لم يكن بالمرضي / الخوئي رقم 9532)، فضلا عن إن هذا التفسير يرويه عن القمي رجل غير مذكور في كتب الرجال كما هو معروف.
إذا كانت حملة العرش مزودين برؤوس وعيون وأرجل، فإن العرش بحد ذاته يملك ألسنة خاصة به! وكل لسان يختلف عن غيره، وكل لسان عبارة عن طاقة هائلة، فلو أن كل لسان (أسمع شيئا مما تحته لهدم الجبالوالمدائن والحصون،وكشف البحار ولهلك ما دونه...) / البحار ص 25 / والرواية في تفسير القمي أيضا، وكذلك في الدر المنثور ولكنها مرسلة /!
الغريب إن الروايات لم تتحدث عن أنوف حملة العرش ولا عن آذانهم، ولا عن شفاههم،ولا عن أسنانهم، ولا عن أيديهم، وإنما فقط عن العيون والرؤوس والأرجل، فهي إذن مخلوقات مشوهة.
الملائكة وهم يحملون العرش يتخلون عن روحانيتهم كما يبدو في جوهرها الأول، فبالوقت الذي هم فيه روح صرفة، تتجسد الروح هنا في مخلوقات آدمية وحيوانية وما شابه، كل ذلك كي تتم عملية الحمل، فهل هي محاولة للموائمة بين الحامل والمحمول ؟ وهل بموجب هذا التصور يُطرح العرش حقيقة مادية فإن حملته ذوي رؤوس وقوائم وعيون ؟! يأتي هنا التأويل كي يلعب دوره الفعال، فالأرجل تعبير عن الثبات والرؤوس تعبير عن العلو وما أشبه، ولكن ما الذي يمنع استخدام تلك المعاني بألفاظها الحقيقية وهي أقدر على طرح الصورة، فإن القول بإن هؤلاء الحملة ذو عزم وقدرة وقابلية وفاعلية أجدر بالقبول من قولهم أنهم ذوو رؤوس وأرجل وأيدي وعيون!
هناك روايات كثيرة عن العرش في تفسير (علي بن إ براهيم بن هاشم القمي) ولكن نقطة الضعف في هذا التفسير إن راويه مجهول بل غير مذكور في كتب الرجال، وهو المدعو (أبو الفضل العباس...).
ينقل لنا علي بن إبراهيم في تفسيره المعروف عن الإمام علي بأن العرش مخلوق غريب الأطوار، وذلك على صعيد حملته، وهم الملائكة، فالأول منهم في صورة الآدميين، والثاني في صورة الثور وهو سيد البهائم، والثالث في صورة النسر وهو سيد الطير، ورابعها في صورة الأسد، وهو سيد السباع، وهنا تغيب صورة السوائل و المعادن والنباتات!