جدلية المكان وهو يتحدث عن المكان!
(... أنا أملك ما لمو )...
غالب حسن الشابندر من السويد: عنوان الإنجاز المسرحي الجديد للمخرج العراقي كريم رشيد على مسرح أيجيوركو في جنوب السويد التي يقيم بها منذ سنوات، وقد سبق للفنان العراقي كريم أ ن قدم لجمهوره من السويديين والعرب المقيمين في هذا البلد أكثر من عرض، جلبت إنتباه النقاد ومتذوقي الفن المسرحي، وكتب عنه في الا علام السويدي المهتم بالمنجَز الفني.
الإنجاز الجديد ينطلق من تصور خاص بإشكالية المكان، الإشكالية النفسية للمكان بالدرجة الاولى، فإذا كان المكان أحد آليات تشريح الوجود إنطلولوجيا في الفلسفة القديمة والحديثة، فإنه كأشكالية نفسية ما زالت غامضة، وقد يعود ذلك إلى حداثة علم النفس لحد هذه اللحظات، أو لانه قضية شخصية، معاناة شخصية قبل أن تكون قضية موضوعية، لها نصيبها من الحيز الذي يمكن إخضاعه للتجربة أو ا لتحليل الموضوعي.
وهي لعبة جميلة أن نتحدث عن المكان بلغة المكان، فإن خشبة المسرح مكان بالنتيجة النهائية، وكما هو جمال بل حيرة أن يتحدث العقل عن العقل، وكما هي عملية مركبة أن نتحدث عن اللغة با للغة، فهي حيرة وتركيب وإشكالية أن نتحدث عن المكان بلغة المكان، ولكن يبدو هذا هو حكم القدر بالنسبة لكاتب هذا النقد، وأنا مؤمن به!
لا أريد هنا أن استعرض خلفيات الرؤية الفيزيائية الحديثة للمكان في هذه العجالة، بل ولا حتى خلفيات المكان في الرؤية الفلسفية، بل اريد أن اتحدث عن فكرة النص والتمثيل في أن واحد عن المكان.
نحن في المكان!
شي لا يعدو بداهة القبْليات ولو بعد التجربة، ولكن هناك مكان في داخلنا، هنا تبدا الاشكالية، فإذا كان المكان الخارجي هو من صنع الخارج ذاته، فإن المكان الداخلي قد يكون من صنع الخارج أيضا، ولكن يبدو أن هناك عنصرا خفيا أيضا...
تُرى هل هي القيم ؟
هكذا فهمت من النص والتمثيل في آن واحد...
و... الحب...
هو على رأس هذه القيم فيما نحن من نص وتمثيل...
هناك مكان في داخلنا يصنعه الحب، نحمله معنا حتى إذ تغير مكاننا الخارجي، حيز عميق في الداخل النفسي لنا، وربما يتعمق هذا الحيز أكثر فيما لو حكم علينا القدر أن نرحل، أن نهرب، أن نهاجر...
ولاني ميتافيزي النزعة، أر ى ذلك ضربة موجعة للمادية بكل أشكالها ونماذجها ومدارسها مهما بلغت من شاو راق في الطرح ! لا أعلل ذلك بموقفي الميتفايزي بل المفارقة تؤكد أن القيم أكبر أعمق من المادة.
وهذه هي المشكلة التي كانت تعاني منها (الابنة) التي قرر أبوها أن يصطحبها مهاجرا من عراق الدم والخراب الى سويد الراحة والهناء، وكان ( العم ) هو الشخص الثالث على الخشبة، ولكنه الشخص الذي يحضر بمثابة حل شبحي للازمة!
كان الحب يعمق مكانه في داخل روحها الصارخة، ولكن المكان الخارجي لا يستجيب لصوت هذا الحب، بل يخنقه، يضيّق عليه، يزاحمه بمهماته ومستحقاته الجديدة... فكان الصراع، وكان الصراخ، وكان الإشكال الذي هيمن على المشروع كله، مشروع الاب او العائلة بحياة جديدة، تنسيهم مأسي المكان السابق.
كيف الخلاص ؟
لا تستطيع حاملة المأساة أن تعالج المأساة، لان المكان الداخلي كان لصيقا بكل ذرة من ذرات روحها الحامية من الداخل، هنا، يلعب قانون الميكانيزم الدفاعي دوره الخفي، فإن شبح الحل أفضل مِن لا حل...
القبلات الهائجة بين الابنة والعم كانت حلا شبحيا لمليء المكان الداخلي، لانه كان يصرخ بعنف، يريد أن يرتوي، أن يمتلء، يكره الفرغ، فما هو الحل؟ كريم رشيد
المكان الداخلي هو الذي قرّر، ليست هي، ولكن لست أدري من الذي كان يقرر هذا المصير با لنسبة للعم ؟ ما زال ذلك عصيا علي، ولم أجد له حلا، ربما تعمد النص إخفاء السبب، وجعله مجهولا حتى لكاتبه كي تتكثر مساحة الغيب داخل النص، فنزداد تعلقا به.
معالجة المكان الداخلي بحل شبحي، حل مؤقت، بل حل مؤجع، نرى ذلك من خلال التأزم الذي يطرا على العم، كذلك على الاب، والأبنة تتوزع نظراتها بين كل أرجاء المكان، هنا وهناك، علّها تقتنع بانها مضطرة!
ولكن هيهات!
كان الإداء على الخشبة هو الاخر مكانيا!
مساحة الحركة ثلاث مراتب، والحركة تأخذ حريتها بلا قيد سوى النظم الهندسي الذي بدا رتيبا للغاية كي يؤدي دور العقدة بنجاح.
فوضى العقدة يُعبًّر عنها بنظم مكاني دقيق، تلك ملاحظة مهمة وتلفت النظر الى أن اللغة الإدائية ليست بالضرورة تتماهى تماما مع نظم المضمون، فإن التعبير عن الجنون بحركة محسوبة الدرجات، موثّقة الخطوط، حادة الزوايا، متساوية الاضلاع شي جميل ورائع، وربما يلتقي مع النظرية الجديدة التي يعبر عنها بـ ( نظام الفوضى )، وهي تعد أكبر إنتصار للنظام العقلي في الكون رغم ما يقال عن فوضى عمقه البعيد!
لقد حافظ الجميع على قيافتهم، لم يكن هناك اي تغيير، إلا هي، لقد إرتدت القميض الجديد علامة على حياة جديدة، ولكن هيهات، وكانت إلتفاتة ذات دلالة من المخرج، فالشخصية الوحيدة التي كانت تعاني من المكان الجديد بفعل مكانها الداخلي العتيد هي وليست غيرها، فيما هي الوحيدة التي خلعت قميصها القديم واستبدلته بقميص جديد...
ولكن لا جديد...
تعددت الامكنة في العمل، في لحظة بارعة، كل منهم كان منشغلا بالرد على صوت آت من بعيد، وانعدمت كل العلائق في وقتها بين الشخوص الثلاثة، كي يعلن المخرج عن تشظي الجوهر، تقاسموا المكان على شكل مثلث، كل شخصية نقطة نائية، هناك يشكل مع غيره مثلث الحيرة ولا يدري، وهناك تكمن مأساة، مأساة الغربة المشتركة، وغابت القبلة لانها لم تكن سوى شبح حل، فيما الحل في تقبيل شفة عازفة عن أبجديات الظاهر، مغمّسة بنقاط اللغة الروحية.
التعليقات