موضوعات التحليل السياسي
يمكننا أن نطرح أو نسطر أكثر من موضوعة يتناولها التحليل السياسي، فهناك الوحدات السياسية إذا صحّ التعبير مثل الدولة، والأحزاب والمنظمات السياسية، وهناك الخبر السياسي فإن المحلل السياسي يهتم بالخبر السياسي أيّما اهتمام، يفتش عنه، ويتتبع مصادره، ويفكك عناصره الأساسية، ويستطلع المزيد في خصوصه، ويسبر دلالاته، وهناك فيما بعد الحدث السياسي، كما لو وقع انقلاب عسكري، أو جاءت إدارة أمريكية جديدة، أو حصلت حرب لا سامح الله بين دولتين جارتين أو غير جارتين، أو قامت حرب أهلية في هذا البلد أو ذاك، أو تخرج دولة من تحالف كانت عضوا فيه. وليس من شك إن هناك شبه تشابك وتتداخل بين الأخبار السياسية والأحداث السياسية في سياق التحليل والترقب والتوقع السياسي، وهناك من يدرج موضوعة التوقع السياسي ومنهم من يسميه ا لتنبؤ السياسي في خانة الاهتمامات التي يعمل عليها وفيها المحللون السياسيون، بل هناك من يرى إن التوقع السياسي هو قمة ا لتحليل وذروة فاعليته. والمحلل السياسي تُختَبر قابلياته وقدراته في مجال التوقع السياسي قبل أي مجال آخر، يتولى التحليل السياسي قراءة النصوص السياسية، كأن تكون مقالة سياسية، أو تصريح سياسي خاصة تلك التصريحات التي يدلي بها كبار الساسة وكبار صنّاع القرار السياسي في البلدان والأنظمة والمؤسسّات العالمية والإقليمية ذات العلاقة بشؤون السياسة في العالم، ربما يندرج في خانة هذه الموضوعات الظاهرة السياسية، أو الظاهرة التي لها علاقة بشكل وآخر بالسياسة كما هو في ظاهرة انتشار العنف بعناوين عقدية أو مذهبية أو دينية فيما هي تنطوي في داخلها على هوية سياسية، وتهدف لغايات سياسية.
هناك كلام طويل عن ماهية التحليل السياسي، هل هو فن أو علم، أو هو كلا الميدانين معا، وهناك مدارس في التحليل السياسي، فإن هناك من يحكم على الحدث السياسي ـ كأحد موضوعات التحليل السياسي ــ في ضوء مدرسة اديولجية ورؤية كونية يؤمن بها، فالقول بأن الصراع الطبقي هو الذي يحرك التاريخ، يهبه الصلاحية الكاملة والحصرية لمهمة التحليل السياسي العلمي الناضج ، فهو بمثابة قنديل سياسي يزيح الظلام عن أسباب الحدث السياسي، حيث يشخص الصراع بين طبقتين اجتماعيتين ــ ظالمة ومظلومة ــ مفتاحا للدخول إلى مغاليق الحدث، وأي قراءة لنص سياسي إنّما تصلح أن تكون قراءة واعية وكاشفة فيما حكّمنا قوانين الصراع الطبقي، فيما هناك المدرسة الواقعية في التحليل، التي تؤمن بأن الواقع هو المصدر الأول والأخير في تحليل أي موضوعة من هذه الموضوعات، فنحن لا نركن إلى سبب واحد في التحليل، بل هناك جملة عوامل واقعية تفسر وتعلل وتكشف، فلا نستبعد دور المزا ج والتاريخ في اتخاذ القرار السياسي، وفي فهم الحدث السياسي، والظاهرة السياسية، غيرها من موضوعات التحليل السياسي المطروحة، ولا نستبعد دور الذكريات المرة والحلوة بين الدول والشعوب والقوميات والأديان والمذاهب المسؤولة عن الحدث السياسي وتعميقه وصيرورته. فأي دراسة لهذا الحدث يجب أن لا تبعد الاقتصاد، والجغرافية، والتاريخ، والمزاج الشخصي، والكثير من العوامل ألأخرى التي نرجع في تشخيصها إلى الواقع،وهكذا مع بقية موضوعات التحليل السياسي المعروفة، مدرسة ثالثة تحلل هذه الموضوعات بلحاظ النظرية القومية، أي تلك النظرة التي ترى أن القومية هي جوهر الصراع، أو هي التي تطبع حقيقة الصراع في العالم، فهناك قوميات في العالم، والمحصلة النهائية للتاريخ في أي لحظة من لحظات مسيرته الطويلة هي حصيلة التنافس والنزاع والتسابق بين هذه القوميات. وهكذا تتعدد مدارس التحليل السياسي، ولكل مدرسة مبرراتها ومسوغاتها وآلياتها بشكل عام، ومن الصعب الارتهان إلى مدرسة بحد ذاتها لتكون هي المفصل النهائي والمحطة الأخيرة، وليس هنا مجال نقد الأحادية في التحليل السياسي، ولكن في قناعتي إن المدرسة الواقعية اقرب من غيرها لممارسة هذه المهمة على مستوى أكثر دقة وموضوعية... وأتحدث هنا عن موضوعة التحليل السياسي كحدث، وكيفية تحليله.

آليات التحليل السياسي
لا تحليل من دون تحديد القضية، والقضية في التحليل السياسي يجب أ ن تكون واضحة مشخصة، وليست ضبابية هلامية،أن تنشب حرب بين بلدين متجاورين بحجة نزاع على حدود، قضية واضحة على صعيد كونها حربا قائمة، ولكن هل حقا إن الحرب جاءت بسبب خلاف على الحدود؟ أم أن هناك سببا أعمق ؟ هناك وضوح وهناك غموض، أو هنا ك يقين وهناك شك، اليقين هو هذه الحرب القائمة، والشك يتعلق بحقيقة السبب الكامن وراء هذه الحرب، هل هو ألاختلاف المزمن أو الاختلاف القديم حول رسم الحدود أو أمر آخر ؟ التحليل السياسي يضطلع بالكشف عن هذا السبب، ومن هنا كانت له آلياته، ومن أبرز وأهم آليات التحليل السياسي بعد تشخيص القضية هي الخبر السياسي، وتحصيل الخبر مهمة شاقة وليست سهلة، فهي تستوجب جمع أكبر قدر ممكن من الأخبار التي تخص الحدث، ويجب تتبع المصادر التي هي أكثر دقة، ولا ينبغي الاهتمام بالخبر الصادر من جهة موثوقة وحسب، بل الواجب يتطلب الاهتمام بكل خبر له صلة بالقضية حتى وإن صدر من جهة غير موثوقة، فهو يمكن أن يختزن معلومات دقيقة ولكنها ضائعة بين الأكاذيب، والخبر السياسي الذي يتصل بالحادثة المزمع تحليلها أنواع وله أهداف، فهناك الخبر الاستفزازي، وهناك الخبر الذي يريد التغطية الكاذبة على السبب،وهناك الخبر الذي يبالغ بالحدث، وهناك الخبر الذي يثير الآخر، ويجب التمعن جيدا بحقيقة الخبر كي نستشف هدفه، بالقياس على مجمل الحوادث والأخبار الأخرى التي تتصل بالحادث، بشكل وآخر، وقيمة الخبر السياسي لا تعتمد على مدى الطول والقصر، بل بمقدار ما يحمل من معلومات. ومن آليات التحليل السياسي المهمة المعلومات عن موقع الحدث، اقتصاديا وجغرافيا وعقديا، فإن الحدث قد يقع لهذه الاعتبارات، وبسبب هذه المقتربات، فإن الاقتصاد عصب الحياة اليوم في العالم، والموقع الاستراتيجي نقطة تحكم وسيطرة وتسيّد، والعقائد الدينية وغير الدينية لها تأثير على مسيرة ا لمصالح والمطامع الدولية بشكل وآخر، وعليه يجب الإلمام بمثل هذه المقتربات، فإن المعارك حول البوسنة بين الروس والغرب مثلا لا يمكن فصله عن طبيعة الموقع الجغرافي للبلد ودوره في حصار أو مزاحمة روسيا، ولا يمكن فصله عن كون أغلبية سكانه مسلمين، وإمكانية الاستفادة من هذه النكهة الدينية في مواجهة الشيوعية بل وإمكان الاستفادة من الإسلام عموما من قبل الغرب في مواجهة الطموح الروسي من جديد، وليس من شك إن معلومات عن الأشخاص ذوي الصلة بالحدث مهمة للغاية في التحليل السياسي، فإن شخصية شيراك هي غير شخصية ساركوزي، من حيث الخلفية السياسية والثقافية والإثنية، ورغم أن الدول الكبرى لا تخضع لمزاج كبار ساستها بقدر ما تسير وفق الدراسات التي تقدمها مراكز البحوث، وما تقدمه دوائر صناعة القرار السياسي في هذه البلدان، إلاّ أن ثقافة وخلفيات كبار صنّاع القرار في مثل هذه البلدان هي الأخرى لها دور في الحدث، فإن نزعة بوش الدينية لا يمكن أن لا تؤثر على قراره السياسي بدرجة وأخرى، وما زالت الاديولجية لها أثر في الحدث السياسي، سواء كانت مجرّد غطاء أو حقيقة، فقد كانت إدارة الجمهوريين تعلل ا لكثير من مواقفها في العالم بحجة نشر الديمقراطية والدفاع عنها، تاريخ المنطقة يساهم أيضا في تحليل الحدث بطريقة أكثر موضوعية وعلمية، فإن الصراع في البلقان له تاريخ، يمتد إلى عقود من السنين، وهذا الصراع خلق بؤر توتر، والذكريات ما زالت تفعل فعلها في العلاقات بين شعوب البلقان، فإن بؤر التوتر هذه أصلها تاريخي، وهي متوارثة في الذاكرة، وبالتالي، كثير من الأحداث التي تجري في البلقان ليست بعيدة عن الاستمداد من مآسي الماضي، وهل يمكن أن ننكر ما للجغرافية التي تشكلت بسبب الحرب العثمانية الروسية؟ خاصة في هذه الأيام حيث تبرز النزعة الدينية كأقوى ما يكون في قائمة محركّات الأحداث وصناعتها؟
التحليل السياسي إذن عملية ليست سهلة، بل هي صعبة، ولكنها تتحول إلى ممارسة من كثرة العمل بها، ومعايشتها، وهي لا تستوجب تواصلا مع علوم الدولة وأساليب الحكم، ولكنها تستوجب إلماما ببعض قواعد اللعبة السياسية، وأصولها، مثل لعبة الدومينو، ولعبة رفع سقف المطالب، ولعبة العصا والجزرة، ولعبة العض على الأصابع، ولعبة القط والفأر، ولعبة عجز القوة وقوّة العجز، ولعبة توازن القوى، فإن هذه اللعب فنون، ويمكن أن تفسر لنا ما يحصل،وتكشف لنا عن بعض أسباب التحرك والقرارات التي تتخذها بعض الدولة والأنظمة والأحزاب والمنظمات.

آفات التحليل السياسي
يتعرض التحليل السياسي، تحليل الحدث السياسي مثل الانقلابات العسكرية والحروب، وتغيير الحكومة، وعقد المعاهدات السياسية والاقتصادية والأمنية وغيرها من الأحداث السياسية إلى الكثير من الآفات التي تفسده، ومن أشهر هذه الآفات التوسل بالأخبار التي تنسجم مع مسبقات استولت على ذهن المحلل ورؤيته، ومن هذه الآفات الرجوع الاسترشاد بايديوجلية متبناة، وهو المذهب الذي يتضاد مع المدرسة الواقعية في التحليل، التي تنظر إلى الواقع وتعتمد عليه، وفي ضمن ذلك الإيمان إن ما يجري من عمل وحدث سياسي يندرج في سياق الصراع من أجل القوة والمصلحة.
الآفة الأخرى التي يتعرض لها التحليل السياسي عدم التفريق الجاد والفني بين اللعبة السياسية والهدف السياسي، فإن لعبة توازن القوى ليست هي الهدف، بل هي وسيلة لتأخير الحروب مثلا، فيما يتورط بعضهم ليؤكد أنها هي الهدف من بعض الأعمال السياسية، وهذه خطأ فاد ح يمكن أن يقع في شباكه الكثير من المحللين السياسيين، فإن مثل هذا الخلط يضيع الفهم الحقيقي أو الفهم الدقيق للأعمال والأحداث السياسية، فالحرب الهادفة إلى إضعاف طرف دولي مثلا، قد يكون الهدف القريب منها صنع ميزان قوى جديد في المنطقة أو العالم، ولكن ليس التوازن بحد ذاته هو المطلوب،بل هو آلية لمنع حروب أخرى، أو لمنع هيمنة طرف معين، أو لكسر هيبة دولة معينة، وهكذا.... ومن أخطر ما يتعرض له التحليل السياسي أيضا هو الغرق في التاريخية، ومن أ مثال ذلك أن يفسر المحلّل كل ما يصدر من نظام من الأنظمة أو دولة من الدول من أفعال وأعمال وتصورات ومعهدا ت وغير ذلك بأنه صناعة إنكليزية، بسبب إن هذا النظام كان يعمل لصالح الإنكليز، أو لا ن تاريخ هذا النظام كان من صناعة بريطانيا، فهذا تعميم فوضوي، يغفل التغيرات الدولية والعالمية، ويعطل دور الدول والتحولات التي تطرأ على الناس والأفكار والمصالح، وقياسا على هذا الطريقة في التحليل يبقى التاريخ هو الحاكم أبد الآبدين.
كثيرا ما يقيس بعض الناس حدثا سياسيا على حدث آخر، ويحاول أن يجد ذات الأسباب، أو يعكس ذات الأسباب التي كانت مسؤولة عن حدث ليجعها هي الفيصل في حدث مشابه، وهذه القياسات مميتة بالنسبة للتحليل السياسي، لان كل حدث سياسي مرتبط بمصالح معينة، وأهداف خاصة، ومن الصعب أن تتشابه المصالح والأهداف، ولذا كل حدث ينبغي أن يدرس مفردا، بحاله، من دون قياسات على أحداث مسبقة أو حتى أحداث موازية له، لأن صناعة الحدث السياسي مرتبط بظروفه ا لخاصة به، زمانا ومكانا ومصلحة وفلسفة، وبهذا نقع فريسة الوهم بالقياس، قياس حدث بآخر، تختلط الأسباب، وتضيع الحقيقة في مثل هذا العمل.
ومن المخاطر التي تهدد الموضوعية في التحليل السياسي أن ننكر كل إرادة للحكام ونتصورهم جميعا لعبا أو دمى أو أدوات شطرنج لا تفكر ولا تخطط ولا تفرض، واليوم يميل كثير من المحللين السياسيين إلى اقتراح معادلة تبادل المصالح في تفسير العلاقات الدولية والأحداث السياسية، وهجروا منطق المؤامرة و العمالة البحت. إن مخاطر التحليل السياسي كثيرة، وكما للتحليل السياسي آلياته كذلك للصراع السياسي آلياته، ولهذا الموضوع كلام آخر.