قال الله تبارك وتعالى في القرآن: (الرِّجال قوّامون على النّساء بما فضَّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم...).
في عين الفوضى
شغل موضوع قوامة الرجال على النساء مساحة عريضة في اهتمام قرّاء النص القرآني من المؤمنين ومن غير المؤمنين، وتباينت فيه الآراء بشكل مدهش ومثير، وذلك بدأ بالمعنى اللغوي والقاموسي للمادة ومرورا بمصاديق القوامة ومفرداتها الخارجية وانتهاء بالنتيجة أو النتائج.
تبدأ المعركة من تحديد أفق أو فضاء هذه القوامة حيث يتردد الرأي بين كونه فضاء اجتماعيا وبين كونه فضاء أسريا محدودا بكل أسرة وبصرف النظر عن الأسر الباقية، حيث يستفيد أصحاب النظرة الأولى من نظام الإطلاق في اللغة، فيما يستند الآخرون إلى طبيعة السياق الذي جاءت فيه الآية الكريمة من أنه يعالج قضية الطلاق التي هي قضية شأنية أسرية وليست قضية تتعلق بمسائل الحكم والادراة والسياسة وما شابه. ولا يخفى مدى الفارق النوعي بين الافقين، يكفي أن أصحاب الاتجاه الاول يذهبون إلى أفضلية كل الرجال على كل النساء، وأن مستحقات النظرة هذه ترسخ وتؤسس للسلطنة الذكورية شبه المطلقة، وما يستتبع ذلك من تفرعات من أهمها أن المراة ليس لها حق الحكم او حق القضاء ومقتربات أخرى، فيما يقلِّص الاتجاه الآخر من هذه المستحقات بالشكل الذي يجعلها على خلاف ندي وكلي مع المستحقات السابقة، فالقوامة ليست هي سوى قيام الرجل بحقوق الزوجة عليه، وبإداء كامل ومحترم وموف، وهي لا تنتمي إلى أي لون من ألوان القهر والتسلط والعبودية والتحكم، بل ربما هي مجرد تشاور مع الزوجة في قيادة وتسييس شؤون البيت، ولا يضر بذلك أن يكون الزوج بمثابة قائد والزوجة مساعد قائد، والميدان هو البيت (الرجل سيد أهله والمرأة سيدة بيتها).
وبين هذا وذاك تتعدد الآراء في بيان مصاديق هذه القوامة، حيث نرى بعض هذه المصاديق تنتمي إلى الطابع الكوني، فالرجال قوامون على النساء بالعقل والقوة البدنية والمهارة، فيما يحصرها بعضهم بمقتربات شرعية بحتة، كالإرث والشهادة والجهاد وصلاحية القضاء، وهناك من يجمع بين التكويني والتشريعي، ويسطر لنا مسلسلا رهيبا من الافضليات الذكورية على الأنوثة (العقل وقوة البدن والصبر والإرث والجهاد والشهادة والإيمان....) وإلى ما هناك من مفردات يمكن أن تتحول إلى ميزان تفاضل و تفاخر، طبيعية كانت أم شرعية أم تقليدية....
ولكن لماذا؟
السؤال حقا هنا هو ترى لماذا هذه الفوضى الرهيبة في تشخيص هذه المادة؟ سواء على صعيد فضائها أو على صعيد مصاديقها؟
هناك أكثر من سبب وراء هذه الفوضى، يمكن أن أجملها فيما يلي: ـ
أوّلا: الاختلاف أو التفاوت النسبي في دلالة المادة (ق، و، م) في المعاجم اللغوية.
ثانيا: عدم ورود أثر نبوي أو إمامي يشرح لنا هذه القوامة ويكشف عن مصاديقها ومفرداتها وأحوالها وشؤونها.
ثالثا: خلو الآية نفسها أو القران كله من بيان واضح يشرح لنا هذه القوامة، وهناك من يقول أنها (الدرجة) في قوله تعالى: (وللرجال عليهن درجة)، و لكن الاختلاف في دلالة الدرجة هنا لا يقل فوضى عن الاختلاف في دلالة القوامة نفسها!!
رابعا: التباين والاختلاف في خلفية المفسرين والفقهاء الثقافية والبيئية والتعليمية، فليس من السهل أن تتطابق الأفهام وهناك مستويات متفاوتة في الذكاء والقدرة على التعاطي مع الواقع وهناك تفاوت واختلاف في نوعية اللاشعور الثقافي والفكري والايدولجي من مفسر لآخر، ومن فقيه لآخر.
خامسا: دور الزمن في تفعيل الفكر وتحكيم مستحقات الاضطرار، فمن الملاحظ إن الكثير من الفقهاء الذين يرون - مثلا - إن القوامة هنا لا تخرج عن كونها إداء الحقوق الزوجية المكتوبة شرعا على الزوج تجاه الزوجة، إنما تعود لفقهاء معاصرين، وربما أصحاب ثقافة عصرية إلى حد كبير.
هذه بعض أساب الفوضى في تحديد فضاء ومصاديق القوامة، ولذلك وكما قلت: تتراوح بين حدين متباعدين بشكل مذهل، فهي إما تسلط وسيطرة وحكومة وهيمنة وإعلاء لجانب وحط لجانب، أو هي تساوي وتعادل الى حد التماهي، حيث لا فارق سوى درجة، والدرجة هي (حق الرجل باستعادة زوجته المطلقة طلاقا رجعيا وقت العدة)! وهي درجة لصالح الزوجة في التحليل الأخير، لان الطلاق شئنا أم أبينا ليس في صالح الزوجة في أكثر الاحيان!!
ثروة في الدلالة اللغوية، وعدم ورود أثر نبوي أو إمامي مفسِّر، وإبهام في ذات الاستعمال، ومحاولات تبذل للفهم على يد خلفيات متباينة بالفكر والثقافة... فمن الطبيعي أن نصادر هذه الفوضى الهائلة من التفسير والتأويل، إن مثل هذه الفوضى طبيعية عندما يكون هناك إبهام وإجمال وغموض، فإن الكثرة في الدلالة المتصوَّرة كثيرا ما تحصل بسبب الإبهام أكثر مما ت حصل بسبب الوضوح، بل الوضوح لا يسمح للكثرة هذه أن تحصل.
سلطنة السلف
يستعين الكثير من الفقهاء بأقوال التابعين القدامى، مثل ابن عباس وقتادة والسدي وعكرمة وربما الزهري وابن عمر، وغيرهم، وهي دلالة عجز بطبيعة الحال، ودلالة ضعف فكري وكسل عقلي، والطريف إن هؤلاء التابعين مختلفون بشكل مذهل ايضا في تحديد القوامة سواء على صعيد فضائها أم مصاديقها، وبالتالي، نحن أمام المعضلة ذاتها، ولكن يشمخ في المقام حقا رأي ابن عباس عندما يصرفها إلى مسؤولية الرجل عن المرأة، والرجل هنا هو الزوج والمرأة هي الزوجة.
الشيء الغريب أيضا عندما نراجع أقول هؤلاء التابعين نجدها مجرّد آراء غير مسندة بحديث أو رواية أو واقعة أو حتى بيت شعر أو كلام نثري كشاهد لغوي إلاّ نادرا، وهنا يصلح قول أبي حنيفة عندما سئل عن جرأته في تخطي رأي الصحابي واجتراحه رأيا خاصا به حيث نقل عنه قولته المشهورة (نحن رجال وهم رجال)، وإن هذه الكثرة في التصوير والتفسير تشرع لنا حرية الاختيار، ذلك أقل شيء، وهي تسمح بجولة ممتعة في ميادين معارك الفكر، بل وهي تمرين جيد على شحذ الأذهان وتوفير سنة الحرية الفكرية والاختيار الحر.
اخترام القيمومة!!
ومن المضمون إلى ما هو أبعد من المضمون، فإن النص علل هذه القيمومة بسببين يجب أن يحصلا معا: -
الأول: بما فضل الله بعضهم على بعض.
الثاني: بما أنفق الرجال على النّساء.
ولا أريد أن أتحدث هنا عن مفردات التفاضل التي تبارى في بيانها علماء الفقه والتفسير، والتي هي في كثير من الاحيان اجتهادية، ولا بمادة الأنفاق التي تراوحت بين المهر ووجوب النفقة، ولكن الإشارة المطلوبة هنا في الواقع هو عدم إغفال حضور العلتين معا، أي كلاهما يشكلان العلّة الحقيقية، وبالتالي، إذا انخرمت أحدى العلتين انتفى المعلول بطبيعة الحال، وإذا كان هناك نقاش مثير حول جبليِّة مادّة التفضيل الكوني كأن تكون العقل مثلا، فإن مثل هذا الجدل هو الآخر مثير حول مادة التفضيل المادي كأن يكون الإنفاق والإسكان، فإن مثل هذه المادة ليست قدرا لازبا، ويمكن للزوجة أن تستغني عنها، وتؤمِّن نفسها ماديا وبشكل ربما أفضل من تأمين الزوج لها، وعندها تنتفي القوامة، وهناك محاولات لردم هذه الثغرة من بعض رجال الدين حيث يرى إن الإنفاق يجب أن يستمر ولو بحدود دينار واحد كي تتحق القوامة على كل حال!!! وهو موقف يكشف عن روحية التفسير الحرفي للنص القرآني الكريم.
إن القيمومة بهذا اللحاظ ليست قدرا، ولا هي تنزيل جبلي، بل هي حالة مرهونة بأسبابها الطبيعية والموضوعية، وككل حدث أو مسبَّب منوط بسببه وعلته، فماذا يكون مصير هذه القيمومة لو إختلَّ سببها؟ فيما لو فكّرنا أن القيمومة هذه كأنها نصّا كونيِّاً مسنوناً بنص قرآني، أو هو حكم وضعي نزَِّل منزلة الكونيات والجبريات فيجب علينا أن نلجا في مثل هذه الاحوال الى تخليص النص من ورطة نحن كتبناها عليه، كما هي محاولة هذا الفقيه، أي الفقيه الذي يقول يجب أن ينفق الزوج ولو دينار واحد كي تستمر القيمومة!!
و... نقطة مثيرة جدا
يرى بعض المفكرين إن التفضيل الوارد في الآية الكريمة فيما يتعلق بالشق الأول من المقطع الكريم يفيد التفاوت المتبادل في ميزات وخصائص معينة، أي هناك ما يفضل به الزوج على الزوجة وما تفضل به الزوجة على الزوج، والحقيقة هذا نوع تكلف، ولكن يمكن أن نوجه الكلام بطريقة أخرى، فنقول إذا كان حقا هناك ما يفضل به الزوج أو لنقل الرجل على الزوجة وبهذا السبب مع إضافة الإنفاق يستحق القيمومة، ترى هل عدمت المرأة ما تفضل به الرجل؟ نعم، هناك ما تفضل به المرأة على الرجل كثير، يكفي في ذلك جمالها ورقتها وجاذبيتها وصبرها وذكاؤها العاطفي وقدرتها على امتهان التربية أكثر من الرجال كما يقولون، وعليه يجب أن تكون لها قيمومة (ما) على الرجل في جانب (ما)، كأن تكون لها الكلمة الراجحة في تربية الاطفال وتقرير مصيرهم، وكأن يكون لها الرأي الراجح في إدارة شؤون البيت وتوجيه أناقته وبروتكالاته، وكأن تكون لها الأفضلية في الاختيار في كثير من ميادين ومجالات الحياة والعمل والسياسة والعلم.
إن فوضى التصورات والأفكار والآراء في تفسير القوامة هذه هي فوضى خلاّقة.. حقا خلاّقة ما دامت تقود إلى مثل هذا الحراك والسجال الفكري، والرجاحة للصحيح إنْ لم يكن اليوم فغدا
.