تعرض الكتاب الكريم لعقائد الجاهلية في الإلوهية وكان من أبرز ما فيها عبادة الأوثان، والشرك بالله تعالى، والقول بأن الدهر هو مهلكهم. ولم يكن فيهم من ينكر الإلوهية رأسا، بل هناك تصورات باطلة حسب المنطق القرآني لهذه الإلوهية، بل يتضمن النص القرآني اعتراف الجاهليين بالله الخالق المصور يقول تعالى : (لئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخَّر الشمس والقمر ليقولُّنَ الله فأنَّى يؤفكون).
ويقول سبحانه: (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيى به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون).
يقول تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون).
وكان عرب الجاهلية يقسمون بالله تعالى :(وأقسموا جهد إيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمننَّ بها قل إنما الآيات عند الله وما يشعركم أَنها إذا جاءت لا يؤمنون)، بل كانوا يؤمنون بالمشيئة الإلهية القاهرة (سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شي كذلك كذب الذين من قبلهم...)، ويدعونه سبحانه بالملمات والمشكلات والمصائب، وبالتالي فهم مؤمنون بالله تعالى، ولكن المشكلة في حسب المنطق القرآني تكمن في انحراف تصورهم عن الخالق (وجعلوا لله ممِّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون)، والكارثة الكبرى في تصور القرآن هنا اعتقادهم بالوسط الوثني الصنمي بينهم وبين الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ( وما نعبدهم إلاَّ ليقربونا إلى الله زلفى)، والكارثة الأخرى تصورهم البنوة الإلهية على صيغ متعددة (ويجعلون لله البنات سبحانه ولهم ما يشتهون)، وفي آية آخرى: (أم له البنات ولكم البنون)، وقالوا أن الملائكة هن بنات الله، وهناك البنوة الإلوهية للمسيح عليه السلام، وهناك من العرب من جعل لله شريكا، كأن يكون الجن (وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وحرفوا له بنين وبنات بغير علم). ومن جهة أخرى تناول القرآن عبادات الجاهليين فاستنكرها، فقد كان بعضهم يعبد الأصنام (وعجبوا أن جاءهم نذير منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحداً أن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن أمشوا واصبروا على آلهتكم أن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق)، ومنهم من كان يعبد الجن (قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن)، وآخرين يعبدون الكواكب والنجوم (ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن أن كنتم إياه تعبدون)، وكانوا يتوجهون بالدعاء إلى الإناث، وهي الملائكة، ومن الأصنام المعروفة في عرب الجاهلية البائدة يغوث ويعوق ونسر.
القرآن يستعرض الديانات الجاهلية والتصورات الجاهلية عن الإله والعبادة ومن ثم يشدد عليها النكير، وقد يفند هذه التصورات بلغة البداهة والدليل الوجداني البسيط، ولكن ها هنا نقطة مهمة جدا... ذلك أن الكتاب الكريم لم يستعرض هذه المعتقدات الباطلة في تصوره في سياق أدلتها لدى أصحابها، أي هو مجرد عارض للمضمون، مجرد كاشف عن التصور، ولكن لم يشفع ذلك بما ينتصرون به لعقائدهم هذه!
ما السبب؟
هذه الظاهرة يجب أن تأخذ حظها من التأمل والدراسة، فهل كانت تلكم العقائد والتصورات مجرد عقائد وتصورات، أي غير مشفوعة بحجة ودليل ومبرر؟
في الكتاب المجيد إشارة إلى أن ذلك كان مجرد تقليد للموروث، وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذه الحجة المرفوضة.
يقول تعالى :(وإذا قيل لهم أتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون) ــ البقرة 170 ــ
أن أكثر الآراء تصرف الضمير في (لهم) إلى مشركي العرب، وقوله (لا يعقلون شيئا) من باب ذكر العام والمراد به الخاص،، والمقصود به علم الدين كما يقول بعضهم. ويبدو أن التقليد هنا مطلق في حياتهم ومواقفهم وسلوكهم.
يقول تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون) ــ المائدة 104 ــ
قال الرازي ما ملخصه: واعلم أن الاقتداء إنما يجوز بالعالم المهتدي، وإنما يكون عالما مهتديا إذ بني قوله على الحجة والدليل.
يقول تعالى (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا آباءنا والله أمرنا بها قل أن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) ــ الأعراف 28 ــ
يقول تعالى :(قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين) ـ الأنبياء 53 ــ
يقول تعالى :(بل وجدنا آباءنا على امة وأنا على آثارهم مقتدون) ــ الزخرف 23 ــ فهؤلاء كانوا يعللون مواقفهم بإتباع الآباء، سواء على صعيد العقيدة أو السلوك أو الأخلاق أو القوانين الاجتماعية التي كانت سائدة بينهم. ولكن هل كانوا هم على قناعة بهذا التعليل؟ يبدو كان ذلك التعليل مساقاً بهدف إسكات الصوت النبوي، لا قدرة لهم على تفنيده علميا، فساقوا هذا التبرير، وهو تبرير وليس حجة، ويتبدى منه الإصرار عن وعي وعن معرفة وعن قناعة، هروب الواعي بثقل المسؤولية، فالإيمان بالوحي الجديد يستتبع مواقف جادة، وهم يريدون الخلاص من كل مسؤولية ذات ثقل، هناك موقف مسبق، قالوا ذلك علنا، قالوا ذلك بلا مقدمات، قالوا ذلك وهم يعرفون ما يقولون، ومن هنا استحقوا مصطلح الكفر.