من الطبيعي أن يستعين رجل السياسة لإداء هذه المهمة العسيرة الشاقة بممكنات، ووسائل، وأجندة، شأن أي هدف نبغي تحقيقه أو الوصول إليه، فلا هدف بلا وساءل، كما هو معلوم...
هل يتوسل بالقوة الغاشمة؟
هل يستعين بالحيل السياسية؟
هل يعتمد الإقناع الفكري والنظري؟
هل يعتمد على نخبة تبشيرية؟.
هل يستعين بقوى دولية خارج البلاد؟
هل يعمل من خلال حزب، تنظيم؟
ليس من السهل استقراء كل ما يمكن أن يأتي على الخاطر، وكل ما يمكن أن تتفتق عنه عبقرية الدماغ البشري في هذا المجال، فذلك يعتمد على طبيعة الفكر الذي يحمله رجل السياسة ، وطبيعة الثقافة الاجتماعية السائدة، ونوع القيم التي تحكم ا لاتجاهات السياسية في البلد، وعلاقة الشعب بالحكام، وطبيعة العلاقة بين رجل السياسة والعالم، والقائمة تطول وتطول...
لقد كانت هناك مجموعة من ا لتجارب في هذا المجال، تجربة الحزب، وكانت هناك تجربة القوات المسلحة، وكانت هناك تجربة النخبة السياسية، وهناك تجربة قوى الشعب العامل، وهناك تجربة النخبة السياسية، وهناك تجربة التثقيف الشعبي، والقائمة تطول في هذا المجال... هذا وبطبيعة الحال أتكلم هنا عن الوسائل والآليات التي يعتمدها رجل السياسة في تحقيق أهدافه الاجتماعية والفكرية اعتمادا على فلسفة هو يؤمن بها ويتبنى مشروعها.
إذن ما العمل؟
ليس من الصحيح الحكم على فساد كل هذه الأجندة والوسائل والمشاريع والآليات التي أختطها وأقترحها وعمل بموجبها السياسيون لتحقيق أحلامهم الشعبية، تلك الأحلام الوردية ، فقد تكون كل ُّ منها ، ناجعة، يمكن أن تؤدي إلى نتائج طيبة، ولكن هناك الإساءة في التطبيق، هناك عدم تقدير مدى فاعلية الوسيلة، وربما هناك أساب أخرى لا نعرفها... وبالتالي، أعتقد أن من المجدي لرجل السياسة في عراقنا الجديد أن يدرس كل هذه الممكنات، كل هذه التجارب من أجل التغيير، من أجل العمل على تحقيق أحلامنا الطيبة.
ولكن في تصوري قبل أن يقدم السياسي العراقي على ممارسة عملية التغيير، يجب عليه تشخيص الوسيلة بدقة، وذلك ليس على صعيد ذات الوسيلة، أي ليس على صعيد الوسيلة بحد ذاتها، بل بعلاقتها بقيم وممكنات الواقع الاجتماعي، فهذا الواقع ليس قطعة خام، بل هو مجموعة هائلة من الثقافات والعادات والممكنات والتصورات والطموحات والتجارب المرة والحلوة...
فهل يحق للسياسي أن يعطي ظهره لكل هذا الواقع الرهيب، وينصب على دراسة وسائل متخيلة أو مجربة أو محببة من خلال وقع نظري مجرد؟
لا أريد هنا استبعاد القدرة على الإبداع، القدرة على الخلق، ولكن من الصعب أن نبدع في هذا المجال بعيدا عن مجمل الواقع الاجتماعي للأمة، للشعب، للناس، بل هذا النوع من الإبداع بمثابة انتحار للفكر والهدف والغاية.
ماذا لو كانت هناك حساسية من الحزب، العمل الحزبي؟
ماذا لو كانت هناك مرارة مؤلمة من التجربة العسكرية في الحكم؟
ماذا لو كان هناك شك في الطبقة المثقفة؟
لقد أدت أخلاقية المسجد دورها الكبير في تحويلات اجتماعية بارعة في بنية المجتمع العربي، لقد أنطلق ابن باديس من المسجد، وأنطلق الإمام الخميني من المسجد، واليوم يلعب المسجد دورا رائدا في عملية التغيير، ولكن شريطة الانضباط بمعايير الدين السامية، من رحمة وحب وتسامح وتعاون وإيثار.
فهل من المعقول بعد كل هذا أن يتغافل السياسي العراقي اليوم عن دور المسجد؟
المجتمع العراقي عشائري النزعة، العشيرة اليوم من مكونات المجتمع العرقي، تضرب في عمق المجتمع، تكاد تكون بديلة في أحيان كثيرة عن القضاء الحكومي، بل تكاد تكون أحدى مؤسسات المجتمع المدني التي من شانها إرساء مشروع السلام الاجتماعي...
فهل من المعقول أن يعطي السياسي العراقي لهذه ظهره لهذه الحقيقة الكبيرة؟
ليس كل القيم العشائرية مرفوضة حتى في ميزان القيم الديمقراطية والتقدمية، هناك المشورة العشيرية، وهناك قيم النخوة والأريحية، فلماذا لا نستثمر هذه القيم لصالح الأحلام السياسية التي تدغدغ عواطفنا ومشاعرنا وأحاسيسنا؟
لقد صنعت العشيرة العراقية الدولة العراقية، بأخلاق الفروسية، ولا تزال هذه الأخلاق موجودة، تفعل فعلها بدرجة وأخرى في مسيرة الحياة الاجتماعية العراقية.
فهل نتغافل عن كل هذه الممكنات؟
لقد استطاع الإسلام أن يجند النزعة العشيرية إلى خدمة النزعة العالمية، كم هي قدرة هائلة أذن يملكها هذا الدين الحنيف، فلماذا لا نستفيد من هذا الفن التحويلي الاستثماري الرائع؟
لا أشك أبدا أن العراق اليوم في حاجة إلى رجل سياسة يقدر ممكنات الواقع الاجتماعي، من ثقافة موجودة، ومن وحدات اجتماعية قوية، ومن عادات وتقاليد ذات قدرة هائلة على قيادة الناس نحو أحلامنا السياسية الوردية.
الانطلاق من تجارب مستوردة شي جيد، ولكن شريطة أن نراعي الواقع، قيمه، سلطته، اتجاهه، مستواه، أحلامه...
العراق بلد الديانات، وبلد المؤسسات التقليدية، الأسرة، العشيرة، المضيف، الكنيسة، التكية. بلد أخلاق الفروسية، وذلك مثل النخوة، الشهامة، التعاون، الأريحية. بلد مرت عليه الكثير من التجارب المرة و الحلوة، الانقلاب العسكري، الحزب الواحد، البرلمان الشكلي، القدوة الدينية...
هذه ممكنات مهمة، وليس من السليم ولا من المعقول الإغفال عن كل هذه الممكنات بالنسبة للقيادات السياسية العراقية التي تريد خلق عراق جديد، يحقق لأهله حياة خالية جديدة، تنسيه ما ذاق من مرارة وعذاب طيلة قرون، وليس ثلاثين سنة وحسب كما يقول بعضهم.
كلنا يعرف نتيجة التجارب التي استمدت زادها من خارج ممكنات الواقع الاجتماعي بالنسبة للعراق، لقد سقطت هذه التجارب ولم تفلح في معاودة ثقتها عند الناس، وكلنا يعرف نتيجة التجارب التي اعتمدت الخيال، وتوسلت بقيم تتسم بالروعة والجمال ولكن سقطت لأنها لم تراع في الحقيقة هوية المجتمع، الواقع الاجتماعي، فليس من الحكمة تجاهل التاريخ بمثل هذه السذاجة...
نحن في حاجة إلى رجال سياسة يقودون العراق بالاستفادة مما يملك العراق من ممكنات، بالاتكاء على حركة التاريخ الطبيعية، وليس بالاتكاء على الأمنيات والخيال والتهويمات الأديولجية البعيدة عن حسنا الشعبي، وثقافتنا التاريخية.