طرح الفيلسوف الفرنسي (لالاند) في كتابه (العقل والمعايير) مصطلح (العقل الناظم والعقل المنظوم) أو بتعبير بعض المترجمين (العقل المكوِّن والعقل المكوَّن)، وقد تحول هذا النحت الى مشروع وفكرة وفلسفة وآلية تفكير نقدي، ومن الكتَّاب العرب الذي أُفتتنوا بهذا التقسيم المفكر العربي محمد عابد الجابري، فقد كان بمثابة البنية التحتية لتنظيره عن (العقل العربي)، هذا العقل الذي خضع لتشطير جراحي قاس، لا يعرف التداخل والتشارط والتفاعل، بحيث كأننا أمام عملية حسابية تجري على شكل مربع معلوم المساحة والمحيط، فقد نوّع الجابري العقل العربي في ثلاث خانات متناظرات على سبيل الاستقلالية المطلقة، هي (البيان) و(البرهان) و(العرفان)، مماهيا بين الجغرافية وطبيعة التفكير، واضعا بداية مفجعة لشوفينية عقلية في عالمنا العربي والإسلامي، وكأن العقل كائنا لاهوتيا مستقلا، لا يتأثر بمقترب خارج دائرته ومملكته، وكأن السحر والغنوص والروح والضمير والوجدان كائنات مستقلة، غرف متجاورة، لا واسطة بينها، ليس للعقل أن يتلامسها أو يمازجها أو يداخلها قيد أنملة، والعكس صحيح أيضا، فيما تنحى الدراسات الحفرية الجديدة إلى اكتشاف المعقول في اللامعقول، واللامعقول في المعقول، وتتحرى الدراسات الحفرية الجديدة التسرُّبات المشتركة بين العقيدي والعقلي والوجداني، في ملحمة ساخنة من مبررات ترجيح القراءة السياقية للأحداث والافكار والنصوص، فليس المُنتًج كائنا بريئا، يلد من دون سفاح مختلط غاية الاختلاط.

ماذا يقصد (لا لاند) من هذا التقسيم؟
إذا كان (العقل المكوَّن) هو: ( تلك المنظومة العامَّة من القواعد المشكَّلة والحقائق المقرَّرة التي لا تعبر في كل آن، مهما تكن ثمينة، إلاّ عن مقتضى الحضارة البعيد عن أن لا يكون كاملا) فإن تعريف (المكوِّن)هو: (منظومة المباديء المقررة والمُصاغة التي لا تتغير إلاّ ببطء شديد بحيث يمكن اعتبارها، من منظور الأفراد وظروف الحياة بمثابة حقائق أبدية) / نظرية العقل لجورج طرابيشي ص 14 /
تعريف الرجل لكلا النموذجين لا يخرج عن منظومة القواعد والمباديء بشكل عام، ليس هنا إشارة إلى العقل كـ (عضو) تفكير، وتعريف العقل بهذا اللحاظ ليس جديدا، ولكن الجديد هو معاينة هذه القواعد والمباديء على مستوى نفوذها الروحي والفكري في سياق تقدير زمني يتفاوت بين السرعة والبطء من مجتمع لآخر، ومن حقبة زمنية لأخرى، فكلا النموذجين خاضع للتغير، وكلا النموذجين سوف يودعه التاريخ! ويبدو من ملاحظة الجو العام للتعريفين، إن العقل المكوِّن هو المسؤول عن ضدِّه!، ولكن من حقنا أن نتساءل أليس العقل المكوِّن ما دام هو عبارة عن منظومة مباديء وقواعد سوى عقلا (مكوَّنا) بالاساس؟! وقد تكوَّن بفضل عقل سابق عليه.

يبدو أن هذه الإشكالية هي التي دفعت إلى اجتراح تعريف آخر للعقل (المكوِّن) على يد بعض المنطقيين وا لمفكرين والفلاسفة كما ينقل لنا جورج طرابيشي في كتابه السابق، فهو ينقل لنا تعريف الفيلسوف الفرنسي (بول فوكيه) ما نصُّه: (الملكة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستخرج من إدراك العلاقات بين الأشياء مباديء كلية وضرورية، وهي واحدة عند جميع الناس) / المصدر ص 12 /
الملكة غير منظومة القواعد والمباديء بطبيعة الحال، وليس من شك لا يمكن الجزم بأن منظومة العقل المكوِّن واحدة لدى جميع البشر، فيما الملكة المشار إليها في تعريف (فوكيه) هي واحدة، وفي معرض التفصيل نأ تي على مناقشة موضوع الملكة إن شاء الله تعالى.

يعبر (لالاند) عن العقل المكوَّن بـ (العقل السائد) وعن العقل المكوِّن بـ (العقل الفاعل)، كما ينقل أصحاب الترجمة والمعرفة بفكر (لالاند)، والاول سائد لانه يهيمن على طريقة التفكير في فترة تاريخية معينة، فيما الأول فاعل لأنه هو المسؤول عن إنتاج العقل (المكوَّن)، ولا يستقيم مثل هذا التوضيح من دون الإقرار بان العقل (المكوِّن) هو هذا العقل ذاته، اي هذا العضور المفكِّرلدى الانسان، وليس منظومة المباديء والقواعد المزعومة، لانها هي بالتحليل الاخير عقل مكوَّن، اي عقل مُنتَجْ.

لم اطلع على نموذج للعقل المكوَّن، اي على مفهوم أو قاعدة سائدة معينة في ظرف زمني معين لكي تكون مقياسا للتعريفأو للتوضيح، وهذا مما يزيد في مشكلة هذا التقسيم، فهل نعتبر (السببية) مثلا نموذجا هنا، باعتبار أنها كانت بمثابة مفهوم سائد وآلية حاكمة لتوجيه فهمنا للكون والحياة والإنسان فيما يرفض العلم اليوم ذلك؟!، وهل نقيس على ذلك ما يقال عن الكثير من المفاهيم والمباديء مثل (الغريزة) و(الطبيعة)، حيث تعرضت للنقد والتجريح والتغيير بل وللإلغاء أحيانا؟ وهل يشمل ذلك طرق التفكير ايضا؟ ففيما كان القياس الارسطي يمثل عمود الاستدلال يتعرض اليوم للمسائلة والنقد بل والإلغاء لدى بعض المنطقيين؟فهل طرق التفكير من العقل المكوَّن أم من العقل المكوِّن، وماذا إذا تعرضت للتزييف والتنفيد؟

قد يتناهى الى فهم المفكرين وا لمهتمين في الفكر الفلسفي والمنطقي إن المعلومات الاولية التي يعتبرها المذهب العقلي إنها سابقة على التجربة هي العقل (المكوِّن)، أي تلك المعلومات التي يحتاجها الإنسان في ممارسة دوره المعرفي والتي تسبق التجربة بكل نماذجها، بل التجربة هي في حاجة إليها، فكما يرى المذهب العقلي إن هذه المعارف هي الإطار التي تنتظم في داخله معارفنا وعلومنا، وهي معارف تصورية وتصديقية، لا تحتاج إلى دليل أو برهان، بل كل عملية برهانية ترجع إليها في التحليل الاخير، سواء كانت هذه المعارف البدهية تصورية أو تصديقية، مجودة فعلا في الذهن والخارج أم هي من خلق الذهن صرفا، وذلك مثل تصور العلية والزمان والمكان والوجود والعدم والحرارة والبرودة، ومثل قولنا أن الكل أكبر من جزئه، وان المتناقضين لا يجتمعان ولا يرتفعان، وما شابه ذلك، على اختلاف بين أساطين هذه المذهب في تعدادها وتسميتها، وعلى اختلاف ايضا فيما بينهم على علاقتها بالعقل والوجود.

هذه المبادئ والقواعديرفض المذهب التجريبي فطريتها، ولكن رغم ذلك، قد تكون بمثابة العقل المكوِّن، لبسبب بسيط، ذلك كونها تدخل في كل معارفنا وما نستحصل عليه بالكسب والبحث، وبالتالي، هي المعرفة الناظِمة، أو العقل الناظِم للمعرفة، وما يتأسس في إطارها هو (العقل المكوَّن) أو العقل (المنظوم)! ولكن ليس من المعلوم إن قصد (اندريه لالاند) يتفق مع هذا التفسير بشكل نهائي، وفيما ثبت أنَّ هذه المعلومات الفطرية الاولى هي تجريبية أيضا، فهل تصمد أمام وصفها بأنها هي الاخرى في نفس الوقت (عقل مكوًّن)؟!

يقول الدكتور (عادل عوا) في توضيح مقصد (لالاند) في ترجمته للكتاب المذكور: [ويميِّز (لالاند) في ما يُسمَّى عادة باسم (العقل) أمرين: الاول هو جملة قواعد يمكن صياغتها،وهي التي سعى الفلاسفة إلى تبيانها وحصرها وايضاح أصلها وإظهار عملها، وهو هذا النشاط المحدد الذي يقوم به الفكر عندما يعرب الفكر عن ذاته في تلك القواعد، غير أن العقل يتجاوز هذه القواعد باستمرار، يتجاوزها دوما، وقد اقترح علاَّمتنا اطلاق اسم (العقل المكوَّن) أو المنظوم على المنحى الاول، أي على القواعد والمباديء العقلية، واسم (العقل المكوِّن) أو الناظم على فاعلية العقل الدائبة ا لمتجاوزة لكل جاهز راهن] / العقل والمعايير لالاند ترجمة عادل عوا / 1966 ص 56/
ولكن ما هو هذا العقل المتجاوِز؟ هل هو مبادئ سامية تعلو فوق التجربة أم هو مباديء مستلة من تجاربنا؟ هل هو هذا النشاط الذهني المجرد؟

هناك كلام ينصرف لهذا المعنى وكلام لذاك! مما يدل على أن الفكرة ليست واضحة بشكل يدعو إلى الاطمئنان حقا.
يقول العوا في تفسير وتوضيح له عن العقل الناظِم بأنه متصف (بصفة متعالية على التجربة دوما) / ص 58/ وإن العقل المنظوم بأنه (عقل الحضارات المتعاقبة في مدارج المدنية) / نفس الصفحة / وفي ضوء هذا التمييز فإن العقل المكوِّن أو العقل الناظم كما يبدو هو العقل الذي يتساوى فيه البشر، موجود لدينا جميعا، أو هو هذه المباديء الفطرية الاولى... رغم ما يمكن أن يثار حول الفهم الثاني هذا من إشكالات... ومثل هذا المنحى في تفسير العقل الناظم والمنظوم يشكل انتصارا للمذهب العقلي بطبيعة الحال.

يقول (لالاند) نفسه عن العقل المنظوم: (... العقل المنظوم... هو العقل كما يوجد في وقت مُعطى، وإذا تحدثنا عنه بصيغة المفرد، وجب أن نفهم منه أنه يدل على العقل الماثل في حضارتنا وعصرنا. وإذا شئنا الدِّقة التامة قلنا: العقل الماثل في مهنتنا، لان العقل ليس بواحد لدى الرّسامين والعلماء، بل لدى علماء الطبيعة وعلماء الحياة، وإن الإنتقال من وسط إلى وسط يضطرنا في الغالب إلى شرح ما يعتبر في المحل الآخر بداهة أو يضطرنا إلى البرهان عليه) /ص 75 / ومن خلال هذا الطرح المركز المكثف، يكون العقل المكوَّن أو المنظوم هو عقل مرحلة معينة، يخص مجالا معينا، يتعرض للتغيير والتبديل والنقض والتعديل والإضافة والنقصان، فهناك عقل فيزيائي منظوم، وعقل كيميائي منظوم، وعقل تاريخي منظوم، وعقل فني منظوم، وعقل اجتماعي منظوم، وهناك عقل فلسفي ومنطقي وحكمي منظوم، لأنه مُعْطى، وليس مُلهما، ولا فطريا، ولا موهوبا، وهو المسؤول عن الاتساق الاجتماعي، وعمران الحياة، وتدبير السياسة، وتصميم العلاقات الاجتماعية، ولكنه يتغير، ما نقرأه عن المُنجَز الفيزيائي والرياضي والكيميائي والتاريخي والجغرافي والادبي والفني في فترة من الفترات في مجتمع من المجتمعات هو العقل المنظوم، فإن مفاهيم ونظريات وقوانين هذه العلوم قابلة للنقض، يتجاوزها الفكر والعقل والعلم عاجلا أو آجلا، وبالتالي، هي عقل مرحلي، الجاذبية والسببية والعقل الباطن والعقل الجمعي ونظرية الاثير ونظرية بطلاموس ونظرية الانزياح المجازي ونظرية فائض القيمة ونظرية وغيرها من النظريات والمعادلات الطبيعية هي عقل منظوم، رغم إنها تساهم في النظم المعرفي، ولكن مساهمة عرضية وليست أصيلة، إذن ما هو العقل المكوِّن أو الناظِم؟

هل هو العقل الذي يعبر عنه بعض فلاسفة المسلمين بالنور، والغريزة المفكرة؟ أم هو في حد ذاته أيضا مجموعة قواعد ومباديء، أو هو تلك الأوليات من التصورات والتصديقات البديهية التي تنتظم في نطاقها المعرفة البشرية كلها؟
ليس هناك وضوح فيما كتبه (لالاند) نفسه كما جاء في كتابه (العقل والمعايير)، وفي ما نقل عنه من ترجمات وتوضيحات هنا وهناك.
العقل المنظوم حقا سوف يتجاوزه العقل الناظم باستمرار، أم هناك من منجزات العقل الناظِم ما يبقى صامدا أمام التغيير، والتحويل، بل ربما تتراكم بسببه المعارف المنظومة، وتتاسس ببركته النظريات والرؤوى، وتكتشف بفضله الحقائق الطبيعية والاجتماعية والنفسية؟ نعم قد يصبح عقلا قديما، يتجاوزه العقل الناظِم زمنيا وليس معرفيا. وما هي التسمية التي تستحقها المعارف الرياضية الثابتة، والتي تتميز بالقدرة على الثبات، وحسب بعض النظريات إنها معرفة عقلية لا تزيدها التجارب نقصا ولا قوة، وهي واحدة في كل زمان ومكان، ترى هل هي عقل ناظِم أم عقل منظوم؟ وهلاختصاص هندسة إقليدس بالا جسام بعالمنا المسطح دون عالم مكوَّر أو عالم مقعَّر يرمي بها إلى خانة العقل المكوِّن / الناظِم أم تبقى ضمن خانة العقل الآخر، ما دامت تتميز بهذا الصمود الزمني المثير، وما دامت كونها عقلا مؤسسِّا، يؤسِّس بعضه بعضا؟

يمكن أن يثار هنا موضوع الاعراف والتقاليد والعادات الاجتماعية با عتبارها تشكل نموذجا من نماذج العقل بشكل من الأشكال، وليس من شك إن هذا العقل يتجاوزه الزمن، ويتخطاه، وينطبق عليه مفهوم العقل المنظوم، ولكن يجب الالتفات إلى أن مثل هذا العقل لا يملك اتسا قا وتماهيا مع ذاته ومع الواقع مثل ما تتصف به القواعد والمباديء الريا ضية مثلا.... ولنا عودة إن شاء الله.
ملاحظة: هذا فصل قصير من كتاب معد للطبع بعنوان (العقل... إشكالية التعريف).