تتزايد يوماً بعد يوم معالم (تطييف) أو تكريس الطائفية في مجمل حياة المجتمع العربي والإسلامي سواء على صعيد الفكر أو العلاقات بين أصحاب الديانات وا لمذاهب والنحل والملل في هذا المجتمع، وهو المجتمع الزاخر بالتاريخ الديني والمذهبي والقومي! ففي العراق ما زال التنابذ الطائفي موجودا بشكل وآخر، ولعل موجة التفجيرات الأخيرة من خلال النظر إلى سياقاتها الزمنية والمكانية في هذا البلد الجريج شاهد على ذلك، بالمثل ما يجري من إثارات وصيحات حول ما تسميه بعض وسائل الإعلام العمل على (تشييع) المجتمع المصري، وما تلا ذلك من تغيير اللون الأخضر باللون الأسود بالنسبة للمدارس الصوفية في مصر نظرا لإقتران التشيع تاريخيا باللون الأخضر، فيما كان اللون الأسود هو شعار العباسيين!! بالمثل، تثير تصريحات الزعيم الليبي الداعية إلى إعادة الأعتبار للدولة الفاطمية أصداء صاخبة بين رفض وقبول، وبين تحذير وتبشير، يقترن كل ذلك بما تذيعه بعض وكالات الإعلام على لسان شيعة (بحارنة) من أن هناك محاولة لتغيير ديمغرافي في بنية المجتمع البحريني، يعتمد على تقليص عدد الشيعة في هذا البلد الهادئ الجميل، وفي لبنان المعادلة الطائفية هي التي تتحكم في مسار البلد منذ أن تأسس، والحكومة في المغرب تتهم السفارة الإيرانية بأنها تسعى إلى تغيير هوية البلد المالكية الى هوية شيعية، وفي جنوب المملكة العربية السعودية حوار حول موقف الدولة من الشيعة هنا ك، وفي جنوب ايران نشاط وهابي ساخن أنتج مساحة كبيرة من التسنين الوهابية في شيعة هذه المنطقة النفطية الحساسة من جسم الجغرافية الإيرانية.. والأمثلة تطول وتكثر، وما ذكرناه من شواهد كافية.
الطائفية تحولت إلى أداة تحليل سياسي خطير في العالم العربي والإسلامي، فإدارة (أوباما) مثلا فيما أرادت أن تتخذ موقفا في لبنان، تنظر إلى ردود أفعال الطوائف وليس الدولة اللبنانية بشكل عام، كذلك فيما يخص العراق، وقد دخلت أكبر دولة عربية في سياق هذه المعادلة الخطيرة، أقصد جمهورية مصر العربية، حيث بدأ الأعلام المصري يعزف على هذه النغمة بحق أو غير حق، لأسباب خفية أو معروفة، فإن القصد هو الإشارة إلى أن هذا المرض ا لفتاك تحول إلى مادة صراع وتشهير وتنافس وتحريض وتصفية وتصميم في الأنظمة العربية والإسلامية، وهناك مجموعة من العوامل والمبررات تساعد على تكريس هذه الظاهرة المخيفة، يمكن إجمالها فيما يلي: ــ
أولا: إنتشار ظاهرة الإسلام الأصولي بشكله السني أ و الشيعي في المنطقة.
ثانيا: إنعدام الديمقراطية وما يُدّعى منها يبقى شكليا هشا، لا يرتقي إلى مصاف الديمقراطية المدينية كما هي في المجتع الغربي بشكل عام.
ثالثا: هشاشة الدولة، وعدم تمكنها من أن تتحول إلى خيمة للجميع، الأمر الذي يدفع الفرد إلى الأحتماء بطائفته أو عشيرته أو قوميته.
رابعا: سيادة الأنظمة الاسرية والعشائرية في المنطقة، وسريان مفعول المحسوبية والمنسوبية في الحياة السياسية والوظيفية والوجاهية.
خامسا: إنتشار البطالة وتكريس ظاهرة التناقض الطبقي، وأنعدام آليات التكافل الاجتماعي، والضمان الاجتماعي.
سادسا: إنحسار الوعي الثقافي العميق، وضعف مستويات الترجمة والنقل من اللغات الحية الأخرى مثل الأنكليزية والفرنسية والألمانية والأيطالية، مما يتسبب بشبه قطيعة مع العالم الكبير.
سابعا: تكريس ثقافة الماضي بلا نقد وتمحيص ودراية، وثقافة الماضي في كثير من مساحتها ومدياتها عبارة عن قيم عشائرية ومذهبية تكاد أن تكون خالصة.
ثامنا: المناهج التربوية تكاد أن تكون كلاسيكية حرفية جامدة، لا تثير في عقل التلميذ العربي والمسلم أفاق منفتحة من العالم والفكر والحر، ولا تثير فيه شوق السؤال حول التفاصيل والمحرمات والتابوات فيما يتعلق بالدين والجنس والسياسة والأخلاق والتقاليد.
هذه وغيرها أسباب مهمة وخطيرة تكمن وراء هذه الظاهرة المميتة، حيث تتجه القيم والمقاسات والتقييمات والمواقف والتصورات حول الحياة والتاريخ، وفيما يخص الوطن والمصير والمآل في سياق (ثوابت!) طائفية ضيقة، محسوبة بدقة مذهلة، حيث تنبثق من كل هذا المركب الموجع معادلات المحاصصة، وتهمل كل مقاييس التقييم الإنساني والعلمي من كفاءة واخلاص وتاريخ وهمّة وتجربة وخبرة وعلم وثقافة.
الغريب أن تتكرس ظاهرة (التطييف) في العالم العربي والإسلامي بشكل صارخ ومؤذي فيما العالم يتحدث ويتحاور عن الحداثة وهل استنفذت أغراضها أم هي لا تزال في مهدها لم تتفجر عن كل طاقاتها الحيوية المبدعة، مما يكشف عن عمق المفارقة وخطرها في جسم المجتمع العربي الإسلامي، ومن المؤسف حقا، أن تتحول الطائفية أحدى آليات الصراع السياسي بين دول وأنظمة، وأن تصبح من أفتك الأدوات التي يستعين بها الحكام والأنظمة للتعامل مع قضايا خطيرة، ذات مساس بأمن العالم الذي ننتمي إليه.
ليس غريبا في سياق هذه الحقيقة أن تشهد المنطقة العربية مليشيات طائفية، وأحزاب طائفية متعددة، وشعارات طائفية، وفلكلور طائفي، وتراث طائفي، علما إننا نميز بين الطائفة والطائفية، وبين المذهب والمذهبية، فبقدر شرعية الأولى تتأكد في حسابات الضمير الوطني والإنساني.
إن المعادلات الطائفية التي بدت تتحكم وتسري بشكل صارخ في أنسجة التكوين الاجتماعي العربي والاسلامي أخطارها عميقة كما لا يخفى، فهي خطر إجتماعي وثقافي وأخلاقي واقتصادي، وأسلحتها تتنوع وتتعدد وتتجدد، ومجالتها تشمل كل مناحي الحياة، فهي حالة أحتراب شامل، ومضني، ومخيف، وربما تتحول إلى حالة أحتراب تعمتد مبدأ التصفية الكاملة.