يتمثل تراث الامم والشعوب في قسم منه بالكثير ممِّا تركه فلاسفتها وأدباؤها وعلماؤها وفنانوها ومعلموها وملوكها من كتب واسفار وملاحم، هذه الكتب والاسفار والملاحم يسري أثرها في دماء الشعوب، ويكمن في ضمائر أبنائها، ويتسلل بهدوء وخفية إلى ما تنتج فيما بعد من فكر وعلم وأدب وفلسفة وتصورات عن الحياة والتاريخ، لها وقع السحر الأسود، تشكل منابع إبداع، أو أسباب إعاقة، أو مصادر خلق وإلهام، أو مزيج من هذا وذاك، وتبقى لهذه الكتب والاسفار والملاحم حاضرة بشكل وآخر مهما قيل عن قدمها، وتهريء أوراقها، ونسيان مبدعيها أو كتّابها، ومن هنا يشخص منهج بعض ناقدي تاريخ الفكر والعلم الذي يؤكد على ضرورة البحث عن الماضي فيما ينتجه كِبار الحاضر، هناك يبحثون عن البذرة الاولى، عن النفحة الاولى، وسواء نتفق مع هذه المنهج أو نختلف، فإن المنهج يحمل شيئا من الحقيقة...
هل يمكن أن ننسى دور الالياذة، والأوديسا، والبخاري، والطبري، والشهنامة، والكافي للكليني وكليلة ودمنة، وكتاب ما بعد الطبيعة لارسطو وشرحه لابن سينا، وسيرة ابن هشام، وشعر المتنبي، وملحمة دانتي، ونقد العقل النظري وغيرها من اسفار الشعوب الخالدة؟
هذه كتب تراثية مصيرية إذا صح التعبير، وفي كل فترة زمنية يخلف لنا الفكر البشري أسفارا تحمل بصمة الحضور الكبير والمستمر في الضمائر التي تأتي فيما بعد...
هل ما كتبه طه حسين بمعزل عن هذا التراث الذي ينتمي إليه أساسا؟
هل ما ابدعه عمانوئيل كنط بمعزل عمّا أنتجته الحضارة اليونانية من فلسفة ومنطق وفكر؟
هل ما ابدعه ميشيل فوكو بمعزل عمّا ابدعه السابقون عليه؟
وأنا أذ اقول هذا ألفت النظر الى كتبنا التراثية التي لها حضور طاغ ومؤثر ومؤسس في ما نكتب، وننتج، ونؤلف، ونتحدث، ونعمل، سواء كنا تراثيين أو معاصرين، سواء كنا حداثويين أو تقليديين، سواء كنا مسليمن أو مسيحيين، سواء كنا يساريين أو يمنيين، بل سواء كنا مؤمنين أو ملحدين.
هل قرانا ـ مثلا ـ محمود أمين العالم؟
هل قرانا ـ على سبيل المثال أيضا ــ زكي نجيب محمود؟
هل قرانا ـ على سبيل المثال أيضا ــ محمد باقر الصدر؟
هل قرأنا ـ على سبيل المثال أيضا ــ الجابري؟
لا أريد أن أطيل، فالقائمة طويلة، وربما معروفة كذلك، بل ممارساتنا السياسية والاجتماعية والفكرية كعرب ومسلمين هل هي بعيدة عن روح كتاب البخاري، والجو العام لتاريخ الطبري، والنكهة الطاغية على كليلة ودمنة، بل حتى البنى المنطقية والتحليلية ليست ببعيدة عن هذا التراث، بعيدة عن نكهة ابن رشد والغزالي وابن طفيل وملا صدرا، وهكذا...
هنا، نعم هنا، أقول يجب أن ننقد هذه الكتب، إن هجرها، اهمالها بمثابة خرافة، أو وهم، فهي دائمة الحضور، فما علينا سوى أن نواجهها بجرأة، وشجاعة، ربما نعاني، نقاسي، ربما يتسبب ذلك في دماء واشلاء، ولكن ذلك مطلوب على أي حال، لا أقصد بطبيعة الحال حرقها، أو رميها في نهر دجلة والنيل، هذه دعوة مجنونة، ليس في ذلك شك، ولكن أدعو إلى اختراق قدسيتها، مواجهتها بصراحة، تفكيك نصوصها، إخضاعها للنقد، سواء على صعيد قدسيتها، أو على صعيد أصالتها الفكرية والعلمية ومدى تماهيها مع حاجات العصر، او على صعيد ما أفرزت وأنتجت وأثرت وأسست.
البخاري... الطبري... الكافي للكليني... قانون بن سينا... تهافت الفلاسفة...نقد المنطق لابن تيمية... المدينة الفاضلة للفارابي... كل هذه الاسفار رغم جلالة قدرها في وقتها، يجب أن نخترق حريمها بالقلم الحر، بالفكر الشجاع، هذه الكتب والاسفار بمثابة أصنام، إلهة مزيفة، تتحكم بنا من حيث نشعر ومن حيث لا نشعر، بل يجب أن يتعدى النقد من النص إلى منشيء النص، إلى الكندي نفسه، إلى محمد بن جرير الطبري نفسه، إلى أحمد بن عبد الحليم بن يتيمية نفسه، إلى المجلسي نفسه ـ صاحب كتاب البحار ـ عملية نقد وتشريح وتفتيت وتفكيك للنص والزمن الذي كُتِب فيه، والكاتب، وأدوات إنتاجه، والخفايا التي تكمن في ضميره، والآثار التي تخلفت عن ذلك، سلبيا أو إيجابيا، نتوجه بكل ثقلنا الفكري والأخلاقي والنظري لنمعن النقد بهذه الاسفار، هذه الاوراق، نحطم ربوبيتها الطاغية، قدسيتها المزيفة.
الغريب أن بعضهم يرى أن نقد هذه الكتب بمثابة عودة الى الماضي، وإثارة للفتن، بل بمثابة ضحك على العقول، وتلاعب بالضمائر! والاغرب من ذلك أن بعضهم يرى أن نقد هذه المصادر بمثابة تهديم لقيم الامة وتاريخ الامة ومستقبل الامة، وكلا التصورين في رأيي جناية على كياننا ومستقبلنا، فإن نقد مصادر الطبري الروائية ـ مثلا ــ لا يعني عودة الى الماضي كما يفهم بعض المتسرعين، ولا يعني إثارة الفتن الدينية والمذهبية، كأن كتاب الطبري غائب، ولم يعد له حضور في المكتبات والمدارس والجامعات والمواقع، ولم يعد له حضور في خطبنا ومواعظنا واطروحاتنا لنيل الشهادة العليا، إنما هي عملية قد تهدف إلى تهذيب الكتاب من الخرافات والمبالغات والتهويلات كي لا يتحول إلى سطور منزلة من فوق، بل ربما تهدف في التحليل الاخير إلى سد أبواب الفتنة، فإن هذه الفتن كثيرا ما يكون مصدرها الطبري وما شابه الطبري من كتب التاريخ والحديث والسيرة والعقائد والأدب وعلوم الكلام والفلسفة وغيرها..
إن كتاَّب ومفكري ومثقفي هذه الامة مدعوون حقا إلى خرق حرمة هذه الاصنام، هذه التابوتات، هذه المحرمات، هذه المقدسات، ولكن بهدوء وعلمية وموضوعية وبأدوات دقيقة، ولغرض النهوض بهذه الامة، وإنقاذها ممّا تتضمنه هذه (المصادر والاسفار والكتب والمؤلفات) من دواعي الفتن، والسكون، والموت، والخرافة، والمبالغة...
وإلا يكون الطوفان...
- آخر تحديث :
التعليقات