يحتل موضوع الاخلاق في المجتمع المدني منزلة كبيرة في تفكير المهتمين بهذا الموضوع الحيوي الحساس، والاخلاق بشكل عام من القضايا الكبيرة التي تتصل بملحمة الفكر البشري عبر تاريخها الطويل، ولعل إدراج الاخلاق في خانة الفلسفة، ونشوء مدارس متعددة للاخلاق على صعيد الرؤية الفلسفية من دلائل هذا الاهتمام المتميز.
الحديث عن الاخلاق في المجتمع المدني يجب ان يضع في الاعتبار طبيعة المجتمع الذي ننتمي إليه، فهو مجتمع عربي مسلم شرقي، ينتمي الى بيئة حضارية متميزة بتاريخها وفكرها وروحها، ولا يمكن التنكر لهذه القيم، لأنها جزء لا يتجزاً من البنية الروحية والفكرية والوجدانية للمجتمع، بتعبير اكثر وضوحاً وصراحة، انّ الهوية ليست زيّا يُلبس ويُخلع بالاختيار الحر على نحو مستقل تام، ولا هي وجبة طعام عابرة، بل هي هذه التركيبة ا لمعقدة من تراث المجتمع التي تكونت وتصيّرت عبر معاناة قاسية، وصراع حاد، وتجارب مريرة، ومن هنا ندعو الى تحديث خاص بالمجتمع الذي نعيش فيه، أقصد تحديثاً نابعاً من روحنا ومقاييس فكرنا، فإن التحديث المُصدّر يرتطم بعوائق الراسخ الروحي عبر الزمن الطويل، وربما يقود إلى تصدّع الذات والمجتمع من دون الوصول الى نتيجة مرضية.
الاخلاق في تصورنا هي هذه المفردات التي نتداولها في بيوتنا ومدارسنا وأسواقنا وأزقتنا ومجالسنا، من كرم، وشجاعة، واحسان، وصدق، وأمانة، واحترام، ورحمة، وتسامح، وتعاون، ووفاء، وما إليها من مفاهيم مألوفة السماع، محبوبة الاتباع، جاءت بها الاديان السماوية، واقرتها الاعراف الانسانية، وشرعتها القوانين الأجتماعية السليمة.
هذه هي الاخلاق التي نضعها في الاعتبار ونحن نتحدث عن علاقتها بالمجتمع المدني، فهي أحدى أجندة تكريس هذا الهدف وبلورته في ضمير الانسان العراقي، بحيث تكون من دوافع الايمان والتطبيق والممارسة والعمل، بل قد تكون من بنيات التاسيس على مستوى نظري، وعلى صعيد تشييد رؤية خاصّة في هذا المجال.
وفي الحقيقة ان البديء يكون بتحويل هذه المفاهيم الاخلاقية الى مفاهيم اخلاقية اجتماعية، فأن التعامل معها كمفاهيم فردانية صرفة، أو توجيهها باتجاه مستويات محدودة يحجّم من دورها، فالصدق ليس نقلاً موثوقا وحسب على مستوى الخبر والواقعة، بل هو صورة مثاليّة راقية للعمل وفق المطلوب من شروط الايفاء بالجيد والجودة، يعني تطابق مع المثل الأعلى للمطلوب في حدود ما تسمح به ممكنات الابداع والانجاز، وهو معاملة شاملة للحياة والطبيعة على اساس الوفاء بالمطلوب، وبالتالي، يتحول الصدق الى قيمة حضارية تتعدى فضاء اللسان، لتتصل بالجوارح كلها، بل لتتصل بالعقل والقلب، تصمّم او تتداخل مع الارادة بقوّة وشمول وحيوية. فهناك الصدق الاجتماعي، الصدق مع الذات و الصدق مع الاخرين والصدق مع الا فكار والواجبات، وقد كان الدين الاسلامي دقيقاً في توفير أرضية تحويل القيمة الاخلاقية من دائرة الالتزام الضيقة الى دائرة الالتزام الكوني الواسع الرحب، فخلق المجتمع الصادق وليس الفرد الصادق.
أن الا نتقال من الاخلاق الفردية الى الاخلاق الاجتماعية، اي من الامانة التي لا تتعدى الايفاء بوصية شخصية الى الايفاء بحاجة الوطن والأمة والجماعة، يحتاج الى نهضة اخلاقية واعية، تتناول جذور القضيّة عبر عملية تتربوية، تعتمد الممارسة كطريقة مثلى لترسيخ الاخلاق الاجتماعية الرفيعة، وليس مثل المدرسة ميدانا رائعا يمكن ان يساهم في تحقيق هذا الهدف الكبير.
أن المجتمع المدني الذي يتقوم بتحكيم القانون، وسيادة المثل الديمقرطية، وتأصيل الحرية كقيمة حضارية وليست كنزق فردي طائش... كل هذه المقتربات التي نعرف بها هويّة المجتمع المدني يمكن أن ننطلق بها من هذه الثروة الاخلاقية ا لهائلة التي تتغلغل في نفوسنا وضمائرنا وروحنا، لا اقول بأن الحاجة الى التنظير السياسي والفكري والفلسفي للمجتمع المدني منتفية، تلك مجازفة خطيرة، نحن في حاجة مستمرة الى التنظير، لابد ان تقوم فكرة المجتمع المدني على فلسفة عميقة، نستفيد في ذلك من المدارس الفلسفية التي تناولت هذه القضيّة، ولكن نقول ان تحويل الاخلاق الايجابية التي ورثنها عن الاباء والاجداد، والتي تستمد شرعيتها من الذات والتاريخ والدين يمكن ان تكون وسيلة لتكريس هذه الفكرة في الذهن والواقع، بعد ان نعمل على تطعيمها بالاتجاه الاجتماعي العام، فالشجاعة ليست قوة مجرّدة، ولا هي قوّة لحماية الذات واستجلاب الخير الشخصي، أو دفع ظلم وقع على هذا الجار أو ذاك الصديق، وان كان الموقف في حد ذاته مشروعا بل ممدوح عرفيا وشرعيا وعقليا، بل اضافة لذلك هي مسؤوليّة وطنية واجتماعية رفيعة، تمتد الى الحياة بمعناها الواسع ( من أحي نفسا كأنما احي الناس جميعا )، وبهذا نوفّر طاقة هائلة على تأمين قيم المجمع المدني، بطريق أكثر يُسرا، واكثر فاعلية من غيره، وليس من شك ان القرأن الكريم كان كتاب أخلاقيا من هذا الطراز الرفيع، ولذا كانت اكثر نداءاته الاخلاقية بالصيغة الاجتماعية العامة، يتوجه بها الى الناس، الى القوم، الى المؤمنين، الى الجماعات، الى الا مم، وليس ذلك لان رسالة القرأن عالمية، بل لان الاخلاق اجتماعية قبل ان تكون فردية، ويجب ان نعرف هنا سرّا مهماً، هو أنّ المنطلق في الحقيقة الذات، الفرد، غير ان ذلك من فكرة الفرد الاجتماعي، ان جهة الخطاب هو الفرد وليس المجتمع، ولكنه الفرد الاجتاعي، اي الفرد الذي يُعزز فرديته من خلال الاندماج بالمجتمع، وهذا يتم عبر تحويل مسار الاخلاق من معادلتها الفردية الى دائرة اوسع، دائرة ارحب، هي دائرة المجتمع الكبير، وفي تصوري ان تحليل بنية المجتمع المدني قد تفرز في النتيجة الاخيرة، ان وحدته التاسيسيةهي الفرد الاجتماعي، اي ذلك الفرد الذي يعتز بذاته من خلال الانتماء الا جتماعي المسؤول.